حيوية الحراك الفني والتنامي الزمكاني في القصيدة عند محمود درويش
خاص ألف
2010-11-01
هي هجرةٌ أخرى .. / فلا تكتبْ وصيتكَ الأخيرةَ و السلاما / سقطَ السقوط ُوأنتَ تعلو / فكرةً و يداً و شاما / لا برَ إلاَ ساعداك / لا بحر إلا الغامضُ الكحليُّ فيكْ / فتفحصِ الأشياءَ كي تتفحصَ الأشياءُ خطوتكَ الحراما / واسحب ظلالكَ عن بلاطِ الحاكمِِ العربيِّ حتّى لا يُعلِّقها وساما / واكسر ظلالكَ كُلَّها كيلا يمدّوها بساطاً أو ظلاما ..
حقيقةً أقولها , أن أيةَ محاولةٍ لقراءةٍ نقديةٍ في شعر محمود درويش تبدو ضحلة أمام بعض النصوص الشعرية و التي عدت بحق من أهم النصوص الشعرية العربية المعاصرة سواءً على مستوى القصيدة أو المجموعة مثل "مديح الظل العالي " أو " الجدارية " . والكتابة عن درويش وخصوصاً في مرحلةٍ كهذه قد تكون صدى للدراسات المتراكمة في شتّى الصحف و الدوريات المحلية منها و العربية أو حتى العالمية , أو ظلالاً لمجلداتٍ من الأبحاث التي سطرت فيه , فشعر دروش لا بديل عن قراءته إلا قراءته .
وأقول أيضاً أن شاعراً بحجم محمود درويش عاش ما عاشه من طفولة وصبا ورجولة متعرضاً هو وشعبه و أرضه و أمته لمَ تعرض له و تنقلاته المتعددة بين العديد من المدن و العواصم العربية و العالمية , ومعاناته الذاتية و الجمعية من الاحتلال و التهجير والتشريد والنفي .. من هدم منازلَ وتجريف الأراضي وتبديل القرى و المدن بأكملها بدءاً من أسمائها وشوارعها ومنازلها وصولاً إلى ساكنيها ,إضافةً لاشتغاله المتواصل بالسياسة والثقافة على حدٍّ سواء .. كل ذلك جعل ويجعل من شاعرنا رمزاً ليس فلسطينياً أو عربياً وحسب بل رمزاً ثورياً مقاوماً عالمياً , وتجلى ذلكَ بما لاقاه من اهتمامٍ واسع في المحافل الأدبية منها و السياسية .. فترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم وتم تناوله كشاعر من أعظم شعراء عصره فقدمت له الجوائز الأدبية من دول عدّة , وسطرت به وبشعره الدراسات و المجلّدات لدرجة أن هناك كتباً بأكملها ألفت فيما ورد في شعره من مفردات أو مصطلحات مثل الأرض في شعر محمود درويش – القمر في شعر محمود درويش – الليل – المنفى - الكرمة - القمح - الأسطورة ..
ولكن من خلال الإطلاع على العديد منها نلاحظ أن هناك من حاول أن يصدره كشاعرِ هتافاتٍ وخطاباتٍ وحسب .. وهذا فعلاً ما عززته مرحلة ما ونصوصه المسطرة في الكتب المدرسية والجامعية , وهذا ماطبعه بطابعٍ عرف به جماهيرياً , ولا يخفى أن الجماهير تستسيغ هذه الصرخات و الهتافات الثورية وتحفظها عن ظهر قلب , ولكن هناك الأهم بكثير عند درويش .. هناك حالات الحنين والفقد والغربة و البوح بجوانية أناه لتكون نصوصه كناياتٍ بعيدةً يجيء صداها مع كل المساءات الحزينة .
وإن قارئ درويش بمراحله المتعددة يدرك مدى التنامي الفني في نصوصه, ويدرك أنه أسس ويؤسس لثقافة التشبث بالأرض ..لثقافة الثورة .. لثقافة المقاومة من خلال صوته الخاص والذي يعد برأي الأكثر نضوجاً وخصوبةً في حداثة الرؤية والفكرة .. فهو يشتغل على النص المثقف فحمّل القصيدة آفاقه وثقافته لتجيء الأسطورة بكل رموزها ويحضر التاريخي الديني منه والسياسي ليكون نصاً درويشياً خاصاً .
وصحيح انه قد يكون امتداداً لرموز وفحولة الشعرية العربية في اللغة والقلق والأنفة إلا أنه جاء تطوره فنياً وموضوعياً أكثر من سابقيه من "عبد الرحيم محمود – ابراهيم وفدوى طوقان –عبد الكريم الكرمي حسن البحرا " أو حتى من معاصريه من " سميح القاسم- أحمد دحبور – سالم جبران – توفيق زياد " وهذا التطور و التمايز جاء من خلال تدفقه الشعري واشتغاله على الصورة معنى ودلالة . ليكون درويش كما نوه إلى ذلك عبد الكريم حسن في خاتمة كتابه قضية الأرض إذ قال : نستطيع أن نذهب إلى القول أن شعر الدرويش احد الأسباب المهمة في تقريب الشعر الحديث إلى ذوق الجيل المعاصر الذي مازال شديد التعلق بالشر التقليدي .
ولتلمس هذا الملمح الجمالي والألق الفني عند درويش علينا تلمس سيرته الذاتية ..وسيرة درويش جمعية ولّدت وتولد ثقافة من نوع هام بأبعاد هامة , ثقافة ومعرفة جمعية مبنية على تاريخ هذه الأرض وثقافة سكانها بدءاً من الكتب السماوية وقصص الزمان والتراث من حيث هو مخزون نفسي للجماهير , كل هذا ساهم في تشكيل الوعي الفني الشعري عنده , إضافة للأسس النفسية التي ساهمت بتصديره لوناً شعرياً خاصاً بالعذابات المدججة بالتشرد والضياع في سنوات البرد و الجوع الشديد و الوقوف لساعات في طوابير و أرتال أمام وكالات الغوث ليظفر بما يسد الرمق .
لن أتوسع في سيرته ولكن أقول لقراءة أي نصٍ لدرويش علينا أن لا نبتعد كثيراً عن أجواء تلكَ الأرض بحراكها الزمكاني .. فشعر درويش مضرجٌ بالحنين متعشقٌ ومتشعبٌ في بنية جمعيةٍ قاست من شرخٍ صاعقٍ بين ما هو كائنٌ وما يجبُ أن يكون .. شعرٌ معفّرٌ بالزيتون والطيون ..بالدوالي , بالحمام حين يطير وحين يحطُّ ..بكل غبار الطفولة وحنين حجار الدور .. مسكونٌ بالدموع ..بأنين الثكالى المتجمعات بسوادهنّ عند كل مغيب ليطلقنَ مواويلهنَّ وتهويدا تهن .. ووجوههنَّ مشدودةٌ للجنوبْ .
أما عن المراحل التي مر بها أو مرّت بها تجربته الشعرية فأقول أن مرحلة السبعينيات تعتبر مرحلة تحولٍ هامةٍ بدءاً من مجموعته " أحبكِ أو لا أحبّكِ " و خصوصاً قصيدته / سرحانُ يشرب القهوة في الكافتريا / أو قصيدة أحمد الزعتر في ديوانه " أعراس " هي مرحلةُ مغادرته لأرضه و شعبه جرّاء القهر و الازلال وزحف الاستيطان لتفتح الآفاق و الرؤية أمامه شعرياً وحياتياً , فمثّل أرضه وشعبه في كل بقعةٍ حملته , وكان الزيتون في اخضراره والطيون في عبقه , والطفولة في نقائها .. كان الأمهات في قلقهن على أبنائهن في مساءات الحروب , وكان الأب المشمّر عن ساعديه في أقاصي الكروم .. كان كالنسر يزداد صفيره كلّما مرّ بأعشاشه القديمة القديمة .
ومع التسعينيات وبإصداراته الجديدة بدأ النضوج واكتمال الرؤية و التجربة لديه , و بدأ الحديث عمّا أصاب درويش من انتقال وتبدّلٍ في حراكه الشعري الثوري المقاوم إلى حراكه العاطفي الجياش المتوهج بين نهدين من حريرٍ وغمامٍ حليبيّ ناصعٍ , الانتقال من يا أحمد العربي قاوم إلى سلّم على بيتنا يا غريبُ .. من هنا القدس إلى حبّ في سرير الغريبة .
إنه الحراك المختلف من سلام و معاشرة و مهادنة و حوار مثلته مجموعته " لماذا تركت الحصان وحيداً " و أيضاً " سرير الغريبة " .. كثر اللغط عند من يريدونه أن يبقى ينادي و دائماً " عربٌ ولا نخجل – فلسطينية العينين و الوشم فلسطينية الاسم – أنا عربي بلا اسم .. بلا لقبِ "
ومع أهمية ما أوردناه من نماذج يبقى أن نقولَ انه شاعر يكتبُ عن الثورةِ مثلاً ويكتب عن المرأة .. يكتب عن البندقية و المقلاع ويكتب عن النهد والأردافِ .. يكتب عن أزيز الرصاص ويكتب عن أنات النشوة .. فالمرأة لديه نهرٌ وتلالٌ وغاباتٍ .. هي وطنٌ وكذلك الأرض لديه حبيبة مفتوحة الأمداء و الأفاقِ .. و الأرض أم حنون .
إنهم يريدون أن يختزلوه بقصيدة أو قصائد ما , وهذا ما يحدث مع مظفر النواب في أماسيه .. فالحضور أول ما يردد مطالباً قراءة قصائد السباب و الشتم " أبناء القحبة " مثلاً و هذا ما سبب أو يسببُ له الاستياء.. فالشاعر دائماً لديه قصائد جديدة قد لا تكون شتائمية ولكنها أجمل و أسمى فنياً رغم أنها ليست جماهيرية . وأسجل هنا أني لست مع من ينادي بأن يكون الشاعر جماهيريا و خصوصاً في مرحلةٍ كهذه إذ لا رهان .. وأقول لا رهان على الذائقة الجماهيرية الجمعية بسبب ما تخللها ولعقود من تشويه وتخريب كما أنني لست مع الشاعر النخبوي الفوقي الذي ينتجُ نصّاً أقربَ إلى الهذيانات الشخصية ..
عباس حيروقة
[email protected]
08-أيار-2021
07-آذار-2011 | |
18-شباط-2011 | |
09-كانون الثاني-2011 | |
27-كانون الأول-2010 | |
22-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |