حروب اللغة بين عالم الذات والعالم الجمعي
2008-02-13
في سنة 2005 استطاعت الفرنسية "أنا غفالدا" أن تبيع حوالي 850 ألف نسخة من مجموعتها القصصية الأولى، وهي في الترجمة العربية بعنوان: "أودّ لو أن أحداً ينتظرني في مكان ما"، وذلك في الأراضي الفرنسية وحدها. تدور معظم قصص المجموعة في فلك اليومي والعادي والمألوف جداً، حتى أنه لا يمكن تصوّر تلك المألوفات قاعدة تخييلية لبناء قصة ما! فيما يبدو أن طاقة السرد تتغذى من الفرد وحده، من داخله وحوله، خارج كل ما هو خارجه، بعيداً عن أية أفكار جاهزة أو قيم مسبقة. هل كان هذا هو سبب شعبيتها الهائلة والمفاجئة؟!
أعتقد أن أمراً كهذا جدير بالتفكير، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن اللغة النصية، بعد خروجها من سطوة الأيديولوجيات الكبرى، راحت تجنح لتكوين كيان مغاير، يبدو آخر همّ للغة فيه أن تعبّر عن أفكار كبيرة أو منجزة أو مألوفة؛ أو لنقل إنها كتابة تحاول أن تصنع أيديولوجيا خاصة بها وبكاتبها. فالغرابة والجديد، أياً كانت تمظهراتهما، هما باعتقادي عنوان الآداب في
السنوات العشرين الأخيرة على الأقل. وباعتبار الأدب مرآة للمجتمعات، لكن ليس مرآة بالمعنى الأيديولوجي، فإن انهيار الإيديولوجيات الكبرى، على صعيد التنظير والتطبيق، سيؤدي بالتأكيد إلى انهيار أفكارها وتمظهراتها الأدبية، بل مرآة بالمعنى الإنساني والجواني، مما يحيلنا إلى التفكير في أن زمن التفرد والفردانية، أو زمن تقديس الخصوصية بمعنى ما،
سينعكس حكماً على اللغة وعلى اللغة السردية بشكل خاص أو على الرواية، باعتبارها مشروعاً لإعادة تدوين التاريخ.
لكن الذي يحدث أن الكاتب/ الكاتبة حين يبدأ/ تبدأ بخلق نص بناء على جملة من الأفكار السابقة للغة، تبدأ تلك الأفكار بالتحوّل والتبدّل، والانقلاب أحياناً، أثناء فعل الكتابة، وهي تتجلى ككائنات لغوية، ليخرج نص مغاير لما كان متوقعاً ومنتظراً. بناء على ذلك، يمكننا اعتبار سطوة الكاتب على النص مجرد هاوية للوقوع في نص مغلقن، وأن أية فكرة، اجتماعية أو سياسية أو دينية أو حتى لغوية، سابقة للنص وسابقة لعملية الكتابة، هي مجرد محاولة للنيل من تفرد واعتداد اللغة، توصل النص إلى الموات الدلالي وتغلق أبواب الاحتمالات. كأن اللغة تقول: لا جمال خارج تحققي، ولا إبداع قبل إبداعي.
الأمر ليس جديداً بالطبع على ساحة الآداب الأوروبية، مذ راح نجم الوجودية والأدب الملتزم والواقعية الاشتراكية وغيرها بالأفول، ليتطور أدب (ما بعد الحداثة) بكافة أطيافه وسماته وخاناته النقدية. تجلى الأمر في محاولات الكثير من كتاب النصف الثاني من القرن العشرين تكريس النظرة الاحتقارية للآداب الجمعية، أو بمعنى آخر تكريس الاحتقار للرواية التي تعكس وجهة نظر جمعية، أو تحاول أن تقول مواعظ وخطباً ودروساً عامة. فبورخس مثلاً يمثل تحليلاً كل ما حاول سارتر أن يجعلنا نكرهه في معرض دفاعه عن الأدب الملتزم. إنه الفنان الذي ينكمش من العالم الذي حوله، ويلجأ إلى عالم يخلقه وحده، عالم فيه الكثير من المعرفة والخيال. كاتب ينظّر باحتقار إلى السياسة والتاريخ، بل وحتى إلى الواقع، ويعرض تشككه وازدراءه لأي شيء لا ينبع من الكتب. سيتبدى على ذلك أن الصراع اللغوي بين عالم الذات والعالم الجمعي، أو بمعنى آخر، الصراع بين النص المتفرد الذاتي والنص الأيديولوجي الجمعي، إن صح التعبير، قد بدأ منذ زمن ليس بقليل، وهذا ما يجعلنا نستعيد مقولات بعض نقاد وروائيي القرن التاسع عشر. حين كتب فيكتور هيجو روايته الشهيرة: "البؤساء" وذلك في العام 1862، اكتسحت تلك الرواية الأسواق ونجحت نجاحاً باهراً، حتى أن الأخوان كونكور أبديا استياءهما من نجاحها، وفسرا ذلك بأن لا علاقة بين الفن والأخلاق، ووجهة النظر الإنسانية ليست هي المهمة في رواية هيجو! فالرواية تتحدث، بشحنة عاطفية ميلودرامية تجنح في مناطق كثيرة منها إلى التلقينية والتعليمية، عن فكرة المساواة بين الناس، وعن الفقراء المسحوقين والمستغلين من قبل المجتمع. في تلك الفترة أبدى الناقد سانت بوف امتعاضه من الرواية كذلك، والمؤرخ ميشليه، وبودلير، ولامارتين صديق هيجو، وأناتول فرانس كذلك.
إثر روايات القرن التاسع عشر، الرومانسية ومن ثم الواقعية، بدأت روايات القرن العشرين ومعها أيديولوجياته، وراحت سرديات الواقعية الإشتراكية تطغى على سوق الرواية العالمية، تتبعها سرديات الوجودية والرمزية ومن ثم السوريالية. لكن نزعة الفردانية، التي راحت تتعمق في النصف الثاني من القرن العشرين، لم تعد تقيّم النص بناء على أفكاره الأخلاقية ولا الأيديولوجية ولا الوعظية. النصوص الأيديولوجية بمعظمها، عدا استثناءات قليلة، راحت تموت بموت الأيديولوجيات المعبرة عنها، والنصوص القصدية راحت تموت بموت القصد إلا في حالات استثنائية أيضاً.
في إحدى رسائله الشهيرة إلى صديقته كولي، كتب فلوبير ذات يوم وجهة نظره في الرواية، قال إن الكاتب في عمله ينبغي أن يكون: "حاضراً في كل مكان ولا يرى في أي موضع". باعتقادي كان فلوبير سابقاً لعصره في تلك الرؤية، فقد طرح أن دخول الكاتب في التفاصيل الدقيقة للشخصيات لا يعني أن يتبنى ما في دواخلها، بمعنى آخر هو ضد ما قد يسمى الكاتب/ السلطة ذاك الذي يسيطر على الأحداث وتطوراتها، وعلى مشاعر الشخصيات وأرواحها، حتى يجيرها كما يشاء وينهيها كما يشاء، يعاقب من يخالفه ويسبغ رحمته على من يعتنق وصاياه اللغوية. هذا الكاتب يصبح بالمختصر: الديكتاتور، وبالتالي تجنح الكتابة بالضرورة إلى اللاذاتية، يعني آخر ما يمكن أن يفكر فيه هذا الكاتب هو فضح دواخله على الورق، أو فضح دواخل الشخصية بما تعبر به عن نفسها، إنه مشغول بتسيير العالم الروائي الذي سيفنى دون إدارته، مشغول بسن القوانين والأنظمة، بتطبيق شريعته على كل العالم الذي يخلقه. هذا ما يفكر به بكل غروره. لعبة هذا النمط من الروائيين عموماً هي تقويل الشخصيات ما يريدون قوله هم. أي ما تريد الأفكار المنجزة والكبيرة المسيطرة قوله. وهنا المشكلة الأكبر، أي تقويل النص ما يمكن أن يشكل بالضرورة هماً عاماً موحداً، أو السعي، عبر الكتابة، إلى تكريس قيم مجتمعية والحض على سلوكات مبدئية ما، وقد انقضى زمن طويل، طويل جداً، كانت فيه قيمة الأعمال الأدبية تتأتى من ملامستها لتلك القيم وتقويم المعوج منها بالمنطق الاجتماعي السائد طبعاً. الروايات كانت تقيم لفترة طويلة، وربما حتى اليوم في البلدان المتأخرة، باعتبارها مجرد أناجيل تعليمية، أو مانيفستات أخلاقية، تبدو اللغة فيها مجرد إكسسوارت تزيد من جمال المعنى، وما الشكل فيها إلا قالب واه لما ينبغي قوله في المتن.
في الفص الرابع عشر من فصوص الحكم، يقول الشيخ ابن عربي: (وما أدركت إلا بحسب استعدادك)، أي أن النص الأدبي لن يمتعك إلا بمحتويات روحك نفسها، وهي منظومتك الفكرية والقيمية واللغوية حتى. إذاً كيف سيكون استعداد القارئ لتمثل النص المفعم بعالم الذات، شعورياً ومعرفياً وحتى مجتمعياً، بعد أن اعتاد على حكم المنظومات الخارجة عن الفرد، الكبيرة والمستديمة والقامعة لفردانيته! سيكون من الطبيعي إذاً كردة فعل على زمن الآداب الجمعية، أياً كانت تمظهراتها الأيديولوجية، أن تبيع سلسلة هاري بوتر ملايين النسخ خلال سنوات قليلة، وأن تبيع مجموعة بسيطة كمجموعة أنا غافالدا، التي تكلمت عنها في البداية، مئات الآلاف من النسخ! الأمر باعتقادي جدير بإعادة النظر، وبإعادة التفكير في مقاصد الكتابة الأدبية برمتها.
في كتاب تزيفتان تودوروف الجديد المعنون بـ: "الأدب في خطر" يتحدث عن الأدب الذي يروى في العالم ويعلم في الثانويات والجامعات. وهو يعتقد أنه لم يعد يتحدث عن الإنسان بقدر ما يتحدث عن نفسه وعن الفرد الذي يكتبه. وبأنه، أي الأدب الحديث، راح يقع في شباك الثالوث المعاصر: الشكل والعدمية والأحادية. كما أنه يرى أن النقد الحديث راح يغرق في الشكلانية كثيراً، وأضحى يفتقد البعد الإنساني والبساطة، وهذان العنصران، برأي تودوروف، يحتاج النقد إليهما كل الاحتياج، ليتمكن من التواصل مع قارئه ومع الكاتب صاحب النص.
رأي كهذا يبدو غريباً حين يصدر عن ناقد ألسني كتودوروف، تتلمذ على يد رولان بارت وشارك في ثورة النقد الحديث. ولا أعرف لم انتظرت منه شخصياً رأياً مغايراً، خصوصاً فيما يتعلق بالرواية وليس بالنقد! ذلك أن القارئ أضحى، في زمن الانعزال والفردية، بحاجة لمعرفة الداخل وليس الخارج، أي معرفة كل ما قد يعتمل في دواخل كاتب أو شخصيته وليس ما يعبر عنه الكاتب من خارجه؛ بحاجة للاكتشاف والسؤال، وليس للتلقين والأجوبة المنجزة. أفكر أحياناً أن سرد الكتاب/ الكاتبات لذواتهم/ ذواتهن، ضمن موجة الفردانية نفسها، هي مجرد محاولة للتعبير عما لا يستطيعون التعبير عنه، أو محاولة قول ما لا يستطيعون قوله اجتماعياً. أو لنقل إن الكتابة عن الذات هي طريقة مختلفة لجعل الكاتب/ الكاتبة يتحول إلى شخصية من شخصياته، وبالتالي يجلس على مشرحة اللغة ليتمشى النص فيه دون رقيب. وربما كان الحديث عن الذات محاولة أخرى لارتياد آفاق غريبة إشكالية ومثيرة، أو طريقة متفردة لإسقاط دواخل الكاتب على دواخل كل إنسان في زمانه. أو ربما، كتفسير براغماتي صرف، مجرد محاولة لاجتراح أشكال سردية جديدة، بعد أن غدت غاية الروائيين اليوم استنباط أساليب وتقنيات لغوية تدخلهم جنة الرواية، في زمن غدت فيه الرواية سفراً للعالم .
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |