حفريات في التوراة في البدء خلق إيلوهيم السماوات والأرض
2011-01-02
في قراءتنا للفصول الأولى التي تفتتح الكتاب المقدس العبراني في سفر التكوين، نجد أنفسنا في لبّ إشكالية الكتاب، وهي إشكالية لا تسير نحو الحلّ كلما توغلنا فيها، بل نحو مزيد من التعقيد، لأنها تنبع أصلاً من إشكالية الإله العبراني نفسه. فهذا الإله لا يتمتع بشخصية واضحة ومستقرة يمكن التنبؤ بسلوكها وردود أفعالها، كما هو حال آلهة الشرق القديم الأخرى، وإنما بشخصية قلقة وانفعالية ينبئ سلوكها عن تناوس بين صفات ألوهة عليا مهيبة وجليلة وكريمة وسمحاء، وصفات ألوهة حقودة ومحبة للانتقام ومجانية في غضبها. هذا الطابع الشديد التركيب للإله التوراتي ناشئ عن طبيعة تاريخه. فلقد وفد الإله يهوه إلى مناطق فلسطين الزراعية قادماً من المناطق الجبلية الصحراوية في الجنوب. وقد حفظ لنا المحررون التوراتيون موروثات قديمة تنبئنا عن أصله. فلقد جاء من سعير وآدوم (القضاة 5: 4)، ومن تيمان ومن فاران (حبقوق 3: 3)، ومن سيناء (التثنية 33: 2). وسعير الواردة في هذه النصوص تقع في المنطقة الجبلية الواقعة في الطرف الشمالي الغربي من صحراء العرب. أما فاران فتقع في المنطقة الشمالية الشرقية من صحراء سيناء، وأما تيمان وآدوم فتقعان في المنطقة الجرداء الوعرة الواقعة بين البحر الميت وخليج العقبة.
وقد جاء هذا الإله إلى مناطق المرتفعات الفلسطينية، التي قامت عليها فيما بعد مملكتا إسرائيل ويهوذا، مع جماعة رعوية كانت تتجول في المناطق الجنوبية قبل أن تستقر وتتحول إلى الحياة الزراعية، وذلك في زمن ما من مطلع عصر الحديد الأول (1200-1000 ق.م). في سياق عصر الحديد الثاني (1000-587 ق.م) غدا هذا الإله معبوداً رئيسياً لمملكتي إسرائيل ويهوذا، بعد مسيرة طويلة أفلح خلالها في التماثل والتطابق مع الإلهين الرئيسيين المعبودين في كنعان وهما إيل إله السماء ورئيس مجمع الآلهة، وبعل إله الخصب والظواهر الطبيعانية. وكلمة إيل في اللهجات الكنعانية ومن ضمنها العبرية، تُستخدم كاسم علم للدلالة على الألوهة المطلقة، أي الله، كما تستخدم كنكرة في الإشارة إلى إله ما من آلهة المجمع، وتُجمع بصيغة إيليم/إيلوهيم أي آلهة. أما الاسم بعل فنكرة بمعنى رب أو سيد، تحول فيما بعد إلى اسم علم لإله الخصب الذي يُدعى في الأصل هدد.
في تطابقه مع إيل اكتسب يهوه لنفسه اسم العلم إيل أو إيلوهيم (= اللهم) المشتق منه، والذي يرد في الكتاب بشكل تبادلي مع اسم العلم الأصلي يهوه. وفي ترجمات الكتاب إلى العربية يورد المترجمون كلمة الله في مقابل كلمة إيل أو إيلوهيم، وكلمة الرب في مقابل كلمة يهوه التي لا ينطق بها اليهود إجلالاً لإلههم، ويستخدمون بدلاً منها كلمة آدوناي التي تعني السيد أو الرب. أما في تماهيه مع بعل فقد اكتسب يهوه لنفسه جميع وظائفه وصلاحياته، ولقبه الرئيسي الذي نعرفه من نصوص أوغاريت وهو راكب السحاب. ولدينا في الكتاب إشارات تدل على أنه قد دُعي أحياناً بالاسم نفسه (راجع على سبيل المثال سفر هوشع 2: 16-17). وبذلك فقد تراكبت في شخصية الإله التوراتي أربعة مستويات :
1- المستوى الأول القديم ينتمي إلى إله المناطق الجبلية الجنوبية. وهو إله بركاني يتجلى في ثورة البراكين وقوتها التدميرية. ومنه اكتسب الإله التوراتي طبعه الغضوب، وهيجانه الدائم، وميله إلى الانتقام، وردود أفعاله التلقائية التي لا يسبقها تروٍّ أو تفكير. فهو لا يفكر ثم يفعل، وإنما يفعل ثم يفكر بنتائج عمله، ولهذا كان يشعر بالندم في كثير من الأحيان على ما قدمت يداه. والاسم الخاص بهذا المستوى هو يهوه (= الرب، أو الرب الإله في الترجمات العربية).
2- المستوى الثاني ينتمي إلى كبير الآلهة الكنعانية إيل، إله السماء؟ وهو ألوهة خالقة وحافظة لخلقها، مهيبة وجليلة، مفارقة للعالم ولكنها في الوقت نفسه رحيمة وحنونة على مخلوقاتها. والاسم الخاص بهذه الألوهة هو كما أسلفنا إيل أو إيلوهيم (= الله في الترجمات العربية).
3- المستوى الثالث ينتمي إلى الوجه الأول للإله بعل باعتباره سيداً للظواهر الطبيعانية المولدة لخصب الطبيعة، مثل الرعد والبرق والندى والمطر.
4- المستوى الرابع ينتمي إلى الوجه الثاني لبعل، وهو وجه المحارب الذي يستخدم الظواهر الطبيعانية نفسها في الحرب ضد خصومه، فيرهبهم بصوته الراعد ويلاحقهم ببروقه وصواعقه.
فالإله التوراتي هو الخالق (إيل/إيلوهيم)، وهو المدمر (يهوه/الرب أو الرب الإله)، والمنعم (بعل 1)، والمحارب (بعل 2). وهذه المستويات لم تندمج في شخصية واحدة متكاملة، وإنما بقيت محتواة في حضور إلهي لا يمكن التنبؤ في كل مرة عن أي وجه من وجوهه سوف يكشف. وها هو يتحدث بنفسه عن التناقض القائم في صميمه: "أنا الرب وليس آخر، مصوِّر النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا صانع كل هذا." (إشعيا 45: 76). "أنا هو الرب وليس معي إله، أنا أُميت وأحيي، سحقتُ وإني أشفي، وليس من يدي مخلّص." (التثنية 32: 39-40). "الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى من عند الرب." (يشوع بن سيراخ 11: 14-16).
هذا الانقسام في شخصية الإله التوراتي يتبدى لنا في مستهل الكتاب مع قصية الخلق والتكوين، التي تبدو لنا للوهلة الأولى قصة واحدة لكنها في حقيقة الأمر قصتان مختلفتان في شخصية البطل وفي معظم التفاصيل. فالبطل في القصة الأولى هو الله/إيلوهيم، وفي الثانية هو الرب الإله/يهوه. هذا الاختلاف في الاسم ليس مسألة شكلية، لأن الإله التوراتي يلعب تحت كل اسم دوراً مختلفاً عن الدور الذي يلعبه تحت الاسم الآخر، على ما تبينه المقارنة التي سنعقدها بين القصتين.
ففي البدء لم يكن سوى لجة مائية وروح الله يرف فوقها. ثم قال الله ليكن نور، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. كان هذا في اليوم الأول من أيام التكوين. وفي اليوم الثاني خلق الله قبة السماء التي فصلت اللجة المائية البدئية إلى قسم علوي وقسم سفلي. وفي اليوم الثالث جمع المياه السفلية إلى جانب هو مجمع البحار، وأظهر اليابسة من تحتها. ثم أنبت على الأرض من كل عشب ومن كل شجر مثمر. وفي اليوم الرابع خلق الشمس والقمر والأجرام السماوية المنيرة. وفي اليوم الخامس خلق الكائنات البحرية وكل طائر ذي جناح. وفي السادس خلق كل ما يدب على الأرض. وأخيراً خلق الإنسان: "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض واخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. وقال الله: إني قد أعطيتكم كل بقلٍ يبزر بزراً على وجه كل الأرض، وكل شجر فيه ثمرُ شجر يبزر بزراً، لكم ليكون طعاماً. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيتُ كل عشب أخضر طعاماً. وكان كذلك. ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً. وكان مساءٌ وكان صباحٌ يوماً سادساً." (التكوين 1: 1-31).
في كل عمل من أعمال الخلق في هذا الإصحاح الأول من سفر التكوين، نجد أن الخالق يظهر تحت اسم الله (إيلوهيم)، وهو يخلق بكلمة فمه، بقوله: "ليكن"، فيكون له ما يريد. وعندما يأتي الله إلى خلق الإنسان فإنه يخلق البشر دفعة واحدة ذكراً وأنثى، ولا وجود هنا لزوجين بدئيين ولا لفردوس وضعهما الله فيه، لأن الأرض برمتها كانت عبارة عن فردوس فيه كل عشب لطعام الدواب وكل ثمر لطعام الإنسان الذي عمله الله على صورته كشبهه، ليكون خليفته في الأرض فيخضعها ويتسلط على بقية الكائنات التي عليها. هذه الألوهة التي تظهر هنا بكامل جلالها وعطائها لا تطلب من الإنسان شيئاً بالمقابل، وهي لا تأمر بشيء ولا تنهى عن شيء. وما على البشر إلا النماء والتكاثر وملء الأرض التي يحكمونها نيابة عن خالقهم.
في الإصحاح الثاني نجد قصة أخرى للتكوين يحُلُّ فيها يهوه محل الله، وفيها إشارة إجمالية إلى خلق السماء والأرض دفعة واحدة ودون تفاصيل. كما أن خلق البشر يأتي قبل خلق حيوان الأرض لا بعده كما هو الحال في القصة الأولى، وهذا الخلق يبتدئ بالإنسان الأول المدعو آدم، وهي كلمة كنعانية قديمة تدل على جنس الإنسان. والخالق هنا لا يملأ الأرض عشباً وشجراً، وإنما يغرس بيده جنة فوق الأرض القاحلة ويُسكن فيها آدم الذي كوَّنه بيديه من حفنة من تراب الأرض، ثم صنع له من ضلعه شريكة. وعلى عكس القصة الأولى التي أُعطي الإنسان فيها سلطاناً مطلقاً على الأرض، وحرية لا يقيدها شيء، فإن سلطة الإنسان وحريته في القصة الثانية تقيدها كلمة يهوه الآمرة: "لا" التي تفتتح العلاقة بين الألوهة والإنسان، وهي علاقة قائمة على الأمر من جهة الخالق والخضوع من جهة المخلوق:
"هذه مبادئ السماوات والأرض حين خُلقت : يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات. كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل الأرض. ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض. وجَبَلَ الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية. وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب من الأرض (في الجنة) كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر… وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من كل شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت." (التكوين 2: 4-17).
في أول مواجهة بين الخالق والإنسان الذي خلق، تتوطد تلك العلاقة المتوترة بين الطرفين والتي تتسم بعدم الثقة المتبادلة. فيهوه هنا لا يبارك مخلوقه كما فعل الله في الرواية الأولى، وبدل البركة التي نطق بها الله ينطق يهوه في أول خطاب له موجه إلى الإنسان بوصيته الأولى: "لا تأكل من هذه الشجرة."، وهي وصية لا علاقة لها بالأخلاق من جهة، وغير مفهومة أو مبررة من جهة أخرى، ولذلك فإن الإنسان لا يجد نفسه ملتزماً بإطاعتها. وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر الإلهي هو الذي زيَّن الخطيئة والعصيان للإنسان، لأنه بدون تحريم لا توجد خطيئة، وفي قول الأمر: "لا تفعل كذا" بذرة: "افعل كذا". أما عن تبرير يهوه لوصيته الأولى هذه بقوله لآدم: "لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت"، فيكشف عن النقائض الداخلية المتحكمة بسلوكه، فهو ليس كاملاً مثل الله وإنا يعاني من النقص مثل البشر، ولهذا لم يجد سوى الكذب وسيلة لتبرير هذا الأمر الأول غير المفهوم، وكذب يهوه سوف ينكشف للإنسان عندما يأكل من الشجرة المحرَّمة ثم لا يموت.
هذا العالم الذي خلقه يهوه لم يكن حسناً وكاملاً مثل العالم الذي خلقه الله، وإنما منقسماً على ذاته مثلما هو حال خالقه. ففي هذا العالم لا تسود إرادة يهوه بل أكثر من إرادة. فهنالك الحية، وهي أحد مخلوقات الرب، تتصدى لإحباط مخططه، والإنسان يُفصح عن عناد متأصل في طبعه، فلقد أراد الرب أن يجد لآدم مُعيناً له ونظيراً يؤنسه، فجبل أيضاً من تراب الأرض كل حيوانات الأرض وطيور السماء وعرضها على آدم فدعاها بأسمائها، ولكنه لم يجد بينها نظيراً له :
"فأوقع الرب سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأةً وأحضرها إلى آدم. فقال آدم : هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تُدعى امرأة لأنها من امرئٍ أُخذتْ. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً. وكان كلاهما عريانين، آدم وامرأته، وهما لا يخجلان." (التكوين 2: 18-25).
في الوقت الذي كان سلوك المخلوقات غير الواعية التي ظهرت قبل الإنسان يسير سيراً مرضياً بالنسبة إلى يهوه، تكشَّف سلوك الإنسان عن انحراف غريب ومفاجئ، وذلك بمعونة جاءت من كائن غامض لا يفيدنا النص في معرفة حقيقة دوافعه:
"وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله. فقالت الحية للمرأة: أَحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية : من ثمر شجر الجنة نأكل وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر.
"وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له : أين أنتَ؟ فقال : سمعتُ صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال : من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم : المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال : الرب الإله للمرأة : ما هذا الذي فعلتِ؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية : لأنك فعلتِ هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنتِ ترصدين عقِبهُ. وقال للمرأة : تكثيراً أكثّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليكِ. وقال لآدم : لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذْتَ منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود… وقال الرب الإله : هوذا الإنسان صار كواحد منّا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها." (التكوين 3: 1-23).
إلى ماذا ترمز الحية في هذا النص الإشكالي؟ إن حيوانات البرية التي ظهرت قبل الإنسان هي كائنات غير عاقلة، أما حية الفردوس هذه فعاقلة وحكيمة وأكثر معرفة من الإنسان، حتى أنها قادرة على النفاذ إلى عقل يهوه نفسه وعرفت بأنه كان يكذب على آدم عندما تنبأ له بالموت إذا أكل من الشجرة، وأنه لم يكن يريد له الوصول إلى مرتبة الألوهة بأكله من شجرة المعرفة أو أكله من شجرة الحياة التي تجعله خالداً.
وفي الحقيقة، فإن هذه القصة تكشف لنا عن مستوى جديد في شخصية يهوه المنقسمة على نفسها ينتمي إلى شخصية الشيطان. فهذا الإله الذي لا يقبل إلى جانبه إلهاً آخر، ينبغي أن يكون مسؤولاً عن كل ما في الكون والنفس الإنسانية من تناقضات، وأن يكون صانعاً للخير وصانعاً للشر أيضاً. وقد كان أول عمل استهل به هذا الشيطان الوليد حياته المهنية هو تقويض خطة الرب، والحكم على الإنسان بالطرد من الفردوس. وعلى الرغم من أن شخصية الشيطان لم تتمايز عن شخصية يهوه في الأسفار التوراتية القانونية، إلا أن مثل هذا التمييز قد قام به مؤلفو الأسفار غير القانونية التي أخذت بالظهور منذ أواخر القرن الثاني قبل الميلاد. ففي سفر أسرار أخنوخ (أو أخنوح الثاني)، يقدم لنا المؤلف تنويعاً على قصة التكوين الرسمية يضيف إليها عنصر خلق الملائكة في اليوم الثاني من أيام التكوين. فلقد خلق الرب الملائكة من جوهر النار وجعلهم في عشر طبقات لكل طبقة رئيس. ثم إن أحد رؤساء هذه الطبقات والأعلى بينها طمح إلى العلو إلى مرتبة الرب، فتمرد على خالقه ثم حرض أتباعه على العصيان فانساقوا لغوايته. ولكن الرب رماه من الأعالي مع ملائكته ففقدوا بريقهم الملائكي وتحولوا إلى شياطين متمردة تهيم فوق الهاوية السفلى. وبعد أن خلق الرب آدم وزوجه وأسكنهم في الجنة، تسلل الشيطان الرئيس المدعو ساتانا-إيل (= الإله شيطان) إلى الفردوس وأغوى حواء على الأكل من الشجرة المحرمة. ولدينا تنويعات على هذه القصة في عدد آخر من الأسفار غير القانونية، يمكن الرجوع إليها في مؤلفي الرحمن والشيطان، الفصل السادس.
بعد ظهور الفِرَق المسيحية الغنوصية في القرن الثاني الميلادي، أعاد الفكر الغنوصي الوحدة بين يهوه والشيطان، ورفع الله (إيلوهيم) فوق تناقضات هذا العالم المليء بالنقص والشرور والآلام. فالله ليس خالق العالم وليس مسؤولاً عما يجري فيه. والعالم لم يُخلق كاملاً ثم دَاخَلَهُ النقصُ من خارجه، بل إن المادة بعينها هي الشر، ومصدر الشر هو إله التوراة يهوه، الذي لجهله بوجود عالم نوراني فوقه، تربع على عرش الكون الذي صنعه وصاح متفاخراً: "أنا الرب ولا إله غيري، إله غيور.". وعندما جاء هذا الإله لصنع الإنسان جبل جسده من مادة الأرض الظلامية، ولكنه أخذ روحه من نور العالم العلوي وحبسها في قوقعة الجسد. فالإنسان والحالة هذه لا ينتمي إلى العالم وليس خاضعاً لإله هذا العالم، وما عليه سوى العمل على التحرر والانعتاق عن طريق التعرف إلى أصله الإلهي.
فكرة الفصل بين الله ويهوه هذه، كانت وراء تكوين فكر مرقيون البنطي الذي أسس لكنيسة عمرت طويلاً وكانت منافساً لكنيسة روما الرسمية. فإله العهد القديم عند مرقيون ليس الآب السماوي الذي بشر به يسوع، لأنه إله ناقص صنع عالماً ناقصاً، وهو لا يستحق الطاعة والعبادة التي يطلبها. والآب السماوي الذي يدعوه مرقيون بالإله المتعالي والإله المجهول ليس له علاقة بمجريات العالم، وهو لم يتدخل إلا بإرسال ابنه يسوع المسيح من أجل تحرير الإنسان من ربقة إله التوراة.
ولمزيد من التفاصيل بخصوص أفكار المسيحية الغنوصية وتعاليم مرقيون، يمكن للقارئ مراجعة كتابي : الوجه الآخر للمسيح – مقدمة في المسيحية الغنوصية.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |