حفريات في التوراة أين هابيل أخوك؟
2011-01-14
لم يكن طرد يهوه للإنسان من الفردوس بمثابة نهاية للعلاقة بين الطرفين. فهذه العلاقة التي اتسمت منذ البداية بالتوتر وانعدام الثقة، سوف تتطور ولكن من خلال التجربة والخطأ. فيهوه لم يكن في ذهنه خطة من أجل الجنس البشري الذي يوشك على الظهور من تناسل الزوجين الخاطئين. وهو لم يؤسس بعد لطقوس تَعقد الصلة بينه وبين البشر، ولم يستنَّ لهم شرعة أخلاقية حتى الآن. وهو عندما أصدر أمره لآدم بعدم الأكل من شجرة المعرفة، لم يضعه أمام خيار أخلاقي بل فرض عليه شرطاً من أجل التمتع بما تقدمه الجنة.
بعد الانتهاء من سرد قصة التكوين وخلق الإنسان في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين، والتي قرأناها في روايتين مختلفتين كان الله/إيلوهيم البطل في الأولى ويهوه/الرب الإله البطل في الثانية، ينتقل المحرر في الإصحاح الرابع إلى سرد قصة نسل آدم التي يقدمها في روايتين مختلفتين أيضاً، واحدة إيلوهيمية وأخرى يهوية. ولنبدأ بالرواية اليهوية:
"وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقالت اقتنيتُ رجلاً من عند الرب. ثم عادت فولدت أخاه هابيل. وكان هابيل راعياً للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض. وحدث بعد أيام أن قايين قدَّم من أثمار الأرض قرباناً للرب، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر. فاغتاظ قايين جداً وسقط وجهه. فقال الرب لقايين: لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنتَ أَفلا رفعٌ… وكلم قايين أخاه. وحدث إذ كانا في الحقل أنَّ قايين قام على هابيل أخيه وقتله. فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أعلم. أَحارسٌ أنا لأخي؟ فقال: ماذا فعلتَ؟ صوت دم أخيك صارخٌ إليَّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فمها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض. فقال قايين للرب: ذنبي أعظم من أن يُحتمل. إنك طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال الرب: لذلك من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه. وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده." (التكوين 4: 1-15).
في قصة نسل آدم اليهوية هذه، نجد أن يهوه يتابع تعامله مع الإنسان من موقف غير متعاطف، وبطريقة لا تقود إلى المصالحة بعد التباعد الذي أحدثته الخطيئة، بل إلى المزيد من سوء التفاهم والتباعد. فبعد أن دفع آدم إلى العصيان بإصداره أمراً غير مفهوم أو معلَّل، وأسّس للخطيئة التي بقيت سمةً لموقف الإنسان من إلهه حتى نهاية القصة التوراتية، فقد زرع بين ذريته الشقاق عندما قبل قربان الراعي وعزف عن قربان المزارع. هذا السلوك غير المبرر والذي لا يقوم على مرجعية أخلاقية، أدّى إلى حقد قايين على أخيه وإلى التأسيس لأول جريمة في التاريخ. أما ما تلا ذلك من تفَجّر غضب يهوه وصبه اللعنات على قايين وعلى الأرض التي لعنها سابقاً في قصة التكوين فغير مبرّر أيضاً، لأن يهوه لم يكن قد بيّن للإنسان ما هو خير وما هو شر، وقايين الذي لم يكن واعياً للخطأ والصواب فيما فعل كان بحاجة إلى توجيه أخلاقي بدل العقاب. ولكن يهوه عند هذه المرحلة المبكرة من تاريخه لم يكن في ذهنه مفهوم واضح عن الأخلاق، ولم يكن قد استن شِرْعَةً أخلاقية تنظم حياة البشر الاجتماعية. على أنه حتى عندما تكوّن لديه مثل هذا المفهوم واستن لشعبه شرعة أخلاقية، اعتبر نفسه في حِلٍّ من هذه الشرعة، وبقي سلوكه المنفلت من أي ضابط سمةً لعلاقته مع البشر. فلقد قال لموسى : "لا يُقتل الآباء عن الأبناء ولا يُقتل الأبناء عن الآباء. كلٌّ بجريرته يُقتل." (التثنية 24: 16). ولكنه لم يعتبر نفسه ملزماً بهذه الوصية عندما قال أيضاً : "أنا الرب إلهك إله غيور. أفتقِدُ ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ." (الخروج 20: 4). هذا السلوك كان موضع نقد كاتب المزمور 89 الذي وجه لإلهه تهمة نقض العهود والمواثيق والحنث باليمين: "حينئذٍ كلمتَ تَقِيَّكَ (= داود) برؤيا وقلتَ:.. مرةً حلفتُ بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس أمامي مثل القمر يَثبت، والشاهد في السماء. آمين. لكنك رفضتَ ورذلتَ، غضبتَ على مسيحك، نقضتَ عهد عبدك، نجست تاجه بالتراب، هدمت كل جدرانه، جعلت حصونه خراباً." (المزمور 89: 19-42).
ويلفت نظرنا بشكل خاص في قصة قايين وهابيل ما ورد في نهايتها على لسان قايين قوله ليهوه: "فيكون كل من وجدني يقتلني". وجواب يهوه: "لذلك كل من قتل قايين سبعة أضعاف يُنتقم". فمن الذي سيقتل قايين إذا لم يكن في الأرض بعدُ سوى آدم وحواء وابنهما؟ وممن تزوج قايين بعد ذلك وأنجب نسلاً طالما أن حواء لم تنجب إلا ثلاثة ذكور؟ هل كان هنالك على الأرض نسل بشري آخر لا ينتمي إلى آدم وحواء؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يقوض ذلك فكرة تناسل البشرية من زوجين بدئيين، وتفقد قصة آدم وحواء مغزاها؟ إن المحرر التوراتي الذي لا تشغل باله مثل هذه الأسئلة، يتابع بعد ذلك سرد القسم الثاني من القصة والمتعلق بنسل قايين:
"فخرج قايين من عند الرب وأقام بأرض نود شرقي عدن. وعرف قايين امرأته فحملت وولدت حنوك. وكان يبني مدينة فدعا المدينة كاسم ابنه حنوك. ووُلد لحنوك عيراد. وعيراد وَلد محوائيل. ومحوائيل وَلد مَتوشائيل. ومتوشائيل وَلد لامك. واتخذ لامك لنفسه امرأتين اسم الواحدة عادة واسم الأخرى صلَّة. فولدت عادة يابال الذي كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي. واسم أخيه يوبال الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار. وصلّة أيضاً ولدت توبال قايين الضارب على كل آلة من نحاس وحديد. وأخت توبال قايين نعمة… وعرف آدم امرأته أيضاً فولدت له ابناً ودعت اسمه شيثاً قائلة: لأن الله قد وضع لي نسلاً آخر عوضاً عن هابيل لأن قايين كان قد قتله. ولشيث أيضاً وُلد ابن فدعاه أنوش. حينئذٍ ابتُدئ بالدعاء باسم الرب." (التكوين 4: 16-26).
استناداً إلى ما ورد أعلاه نستطيع رسم شجرة نسل آدم على الوجه التالي
:
وكما نلاحظ من قول المحرر بأن قايين كان يبني مدينة عندما ولد ابنه البكر، فإن وجود نسل بشري آخر لا ينتمي إلى آدم وحواء يغدو أمراً مؤكداً في النص. فلمن كان قايين يبني مدينة طالما أن خباءً واحداً يتسع له ولزوجته وابنه؟
على أن إشكاليات قصة نسل آدم لم تنتهِ بعد. والمحرر بعد انتهائه من سرد القصة اليهوية في الإصحاح الرابع، يبدأ في الإصحاح الخامس بسرد القصة الإيلوهيمية المختلفة بشكل جذري، والتي نقرأ في مطلعها:
"هذا كتاب مواليد آدم. يوم خلق الله (=إيلوهيم) الإنسان، على شبه الله عمله، ذكراً وأنثى خلقه، وباركه ودعا اسمه آدم يوم خُلق." (التكوين 5: 1-2).
في هذا النص عن خلق آدم لا وجود لجنة زرعها الرب في عدن شرقاً وأسكن فيها آدم (راجع أيضاً رواية التكوين الإيلوهيمية في السفر التكوين 1: 27-28). ولا لخطيئةٍ أو طردٍ من الفردوس، وحواء غائبة عن المشهد. وقد خُلق آدم ثنائي الجنس على ما نفهم بوضوح من قوله: "ذكراً وأنثى خلقه وباركه ودعا اسمه آدم". وبما أن إيلوهيم خلقه على صورته، فإن الخالق لا بد أن يكون ثنائي الجنس أيضاً. ومن المحتمل أن يكون آدم قد انقسم قبل الإنجاب إلى ذكر وأنثى مثلما كان الحال في قصة التكوين اليهوية عندما صُنعت حواء من ضلع آدم، ولكن المحرر لا يوجه أذهاننا إلى مثل هذا التفسير عندما يتابع قائلاً:
"وعاش آدم مئة وثلاثين سنة ووَلد ولداً على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثاً. وكانت أيام آدم بعدما ولد شيثاً ثمانمئة سنة وولد بنين وبنات. فكانت كل أيام آدم التي عاشها تسعمئة سنة وثلاثين سنة، ومات." (التكوين 5: 3-5).
بعد ظهور البنين والبنات في ذرية آدم، ننتقل من التكاثر اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي. ويتابع المحرر بعد ذلك سرد أخبار سلالة آدم عن طريق ابنه البكر شيث، والتي تنتهي بعد ثمانية أجيال بنوح وأولاده الثلاثة (التكوين 5: 22). وتغدو شجرة نسب آدم الإيلوهيمية على الشكل التالي مقارنة بشجرة النسب اليهوية:
السلسلة اليهوية السلسلة الإيلوهيمية
آدم وحواء آدم
قايين هابيل شيث شيث أولاد مجهولون
حنوك آنوش آنوش ؟
عيراد ؟ قينان
محوائيل مهلائيل
متوشائيل أخنوخ
لامك ميتوشالح
يابال، يوبال لامك
توبال، نعمة نوح
سام، حام، يافث
وكما نلاحظ فإن قايين وهابيل غائبان عن القصة الإيلوهيمية التي جعلت من شيث بكراً لآدم ومن خلاله تتابع السلسلة وصولاً إلى نوح وأولاده: سام وحام ويافث. بينما جعلت القصة اليهوية من قايين بكراً لآدم وتابعت من خلاله السلسلة إلى لامك وأولاده وتجاهلت نوحاً.
إن غياب قصة قايين وهابيل عن القصة الإيلوهيمية هو واحد من المؤشرات على الفروق بين شخصية الله/إيلوهيم وشخصية الرب/يهوه. فالله عالٍ ومتسامٍ لا يدخل في علاقة مباشرة مع البشر، وهو يكتفي بأن يباركهم ويدعوهم إلى النماء وإلى التكاثر. إنه واثق من طبيعتهم الخيرة بعد أن رأى في اليوم السادس من أيام الخلق أن كل ما خلقه حسن جداً (التكوين 1: 31). أما يهوه فينظر بعين الشك والحذر إلى البشر. وسنرى فيما بعد كيف وصفهم بأنهم أشرار بطبيعتهم. ومع ذلك فإنه منخرط في علاقة مباشرة معهم حتى يكادون أن يلمسوه. ولسوف نجد في قصص الآباء اللاحقة كيف استضافه إبراهيم أمام خبائه، فجلس تحت الشجرة وأكل من العجل المسمّن الذي أعدته سارة وغلامها. ولقد أحب الله العالم والإنسان عندما باركهما، أما يهوه فقد كره العالم عندما لعن الأرض بسبب آدم: "ملعونة الأرض بسببك" (التكوين 3: 17). وعندما لعن نسل آدم في شخص قايين: "ملعون أنت من الأرض" (التكوين 4: 11). إن تعبير المحبة في وصف علاقة يهوه بالبشر (أو بالأحرى بشعب إسرائيل، لأن يهوه لم يعقد علاقة مع البشرية عامة) لم يرد عبر أسفار الكتاب سوى ست مرات، بينما ورد تعبير سخط نحو ستين مرة، وتعبير غضب نحو مئة وعشرين مرة، وتعبير انتقام نحو أربعين مرة.
أما في تفسير وجود هاتين القصتين المتناقضتين إلى جانب بعضهما البعض، فيبدو أن القصة الإيلوهيمية تنتمي إلى الجماعات الزراعية التي كانت تعبد الإله إيل/إيلوهيم في مناطق المرتفعات الفلسطينية قبل أن تنضم إليها جماعة العابيرو (أو العبرانيين) الرعوية القادمة من الصحارى الجنوبية. ولذلك فقد قدس إيلوهيم الطعام النباتي عندما جعله غذاءً للإنسان دون أن يأتي على ذكر الطعام الحيواني: "إني أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً على وجه الأرض، وكل شجر يبزر بزراً ليكون طعاماً لكم." (التكوين 1: 29). وهو لم يأتِ على ذكر الطعام الحيواني إلا بعد الطوفان على ما سنرى لاحقاً. أما القصة اليهوية فيبدو أنها تنتمي إلى جماعة العابيرو التي عبدت الإله الصحراوي يهوه عندما كانت تتجول في سيناء والمناطق الجرداء الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت. ولذلك فقد رفض إلهها قربان قايين الذي قدمه من ثمار الأرض وقبل قربان هابيل الذي قدمه من سمان غنمه.
أما لماذا حافظ المحررون التوراتيون، سواءً في سفر التكوين أم في ما سيليه من الأسفار على ما سنرى لاحقاً، على مثل هذه الروايات المتناقضة للقصة الواحدة وعرضوها في سرديات متتابعة، أو شبكوها في سردية متصلة على ما سنرى في قصة الطوفان، فمسألة عائدة إلى طبيعة عملهم الذي يمكن تعريفه بالجمع التراثي لا بالتحقيق التاريخي. فهؤلاء كانوا يعملون على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، وتنتمي إلى مختلف الجماعات التي تشكل منها مجتمع منطقة المرتفعات الفلسطينية. ويبدو أن هذه الروايات المتناقضة قد بقيت حية حتى وقت قريب من زمن تحرير أسفار التوراة، وأن المحررين كانوا أمينين في تسجيلها بدل الإبقاء على بعضها والاستغناء عن البعض الآخر. وهذا يعني أننا في قراءتنا لكتاب التوراة لن تطالعنا إيديولوجيا دينية متسقة، وإنما إيديولوجيا توفيقية بعيدة عن الوحدة والانتظام. هذه السمة التوفيقية لعمل المحررين التوراتيين سوف تغدو أكثر إرهاقاً للقارئ عندما نأتي إلى الأسفار المدعوة بالتاريخية، حيث سنجد سلسلة من الأحداث تروى بطريقة ما في أحد الأسفار، ثم تروى بطريقة أخرى في السفر الذي يليه، حتى يبدو البحث عن التاريخ في النص أشبه بالبحث عن السمسم في كيس من البندق.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |