محمد الماغوط: هل جائز العويس تتويج لانحداره
رائد وحش
2006-04-04
لا خلاف حول المكانة المرموقة التي يتبوأها الشاعر محمد الماغوط، فهذا الكبير صنع قصيدة جديدة، بعدما أهال التراب على جثة نص السلف، واغتصب العربية بشراسة بريٍّ، محبّلاً إياها بنطاف صراخه ورعبه الأسود. أعماله (حزن في ضوء القمر) و(غرفة بملايين الجدران) و(الفرح ليس مهنتي) جعلت منه أسطورة شعرية، وركناً أساسياً في الكتابة الشعرية العربية، منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
أجيال كثيرة رضعت حليب قصيدته المتروكة على الرصيف، حتى جاء الوقت الذي أفلت فيه اللجام من يد الفارس، فتشوهت القصيدة، وبدأ، هو ذاته، يخسر مزاياه. كان الأمر صدمة، فالشاعر الذي وقع في الفخ، ركد ماؤه، وبدأت شمسه بالغروب، مع أنه ما يزال يواصل الحياة. صار صانع القصائد الدموية تراثاً، حتى صديق عمره زكريا تامر قال عنه: "كان الماغوط يعزف السيمفونيات، الآن يعزف على الربابة".
أخيراً نال الشاعر جائزة سلطان العويس التي سبق ورفض التوقيع على طلب الترشيح. قبوله أثار التباسات كثيرة، خاصة وأنها جاءت في أوج انحداره، وكأن في الأمر لعبة مضادة.
ورغم ذلك محمد الماغوط حاضر بقوة، حسب رأي الشاعر فاتح كلثوم، "فالماغوط كان ويبقى أحد أهم مفاتيح الحداثة الشعرية، ولا يوجد شاعر إلا وتأثر به بشكل أو بآخر". كلثوم يرى أن الجائزة، أي جائزة، جيدة من الناحية المعنوية للمبدع، ولكن فيما يخص جائزة العويس فهو يرى "ربما كانت لدينا مآخذ كثيرة على هذه الجائزة، إلا أن منحها للماغوط أعطاها براءة ذمة".
الشاعر خضر الآغا يعلق على نصوص الماغوط الجديدة: "يمكن أن نعتبرها غنجاً ماغوطياً، ويحق له ذلك، طالما منحنا تلك اللقيطة التي تسمى قصيدة النثر".
الجائزة هي التي كسبت، حسب الآغا، أما الماغوط فيقول عنه: "لن ينظر التاريخ إلى محمد الماغوط ما قبل الجائزة وما بعدها، سينظر إلى بدائي، كان يختبئ خلف الأغصان هرباً من الوحوش، ويكتب، عوضاً عن أن يصرخ رعبه ودماره الشخصيين، وسينظر إلى هذا البدائي الذي وضع القوانين الشعرية في كيس الخيش الذي أحضره من سلمية إلى دمشق فبيروت، القوانين التي صاغها أصدقاؤه الكبار، ثم رماه إلى الجحيم، وأطلق أمره المدوي إلى الشعر العربي ليهبط من عليائه وأبراجه إلى الشارع، حيث الوحل والخراب، فهبط".
يستغرب الصحفي التونسي المقيم في دمشق منصف نصري من الدعاية الكبيرة لهذا الشاعر، حيث يتم تقديمه دوماً على أنه يختزل الشعر السوري في شخصه ونصه "مع أن هناك أسماء وتجارب أهم بكثير ساهمت في رفد الحركة الشعرية، وتجديد جريانها، أمثال نزيه أبو عفش ولقمان ديركي وآخرين بالطبع".
"الماغوط يستحق الجائزة" يقول الشعر محمد خالد رمضان ويضيف "ليست لنا الحق بمحاسبته على ما يكتبه الآن، يجب أن نأخذ تاريخه الشعري كله".
لا يثق الشاعر فايز حمدان بالجوائز التي تخضع تقييمات اللجنة فيها لاعتبار الشهرة قبل أي شيء آخر "على حساب القيم الشعرية"، من هنا تبدو الجوائز العربية بحاجة إلى رجّة، كما أنها تأتي متأخرة، ويصدق هنا قول آخر لزكريا تامر "مشكلة الجوائز العربية أنها تأتي في أرذل العمر". فايز حمدان يقول "يمكنك أن تصبح شاعراً دون المرور بدواوين شعراء كثيرين، وليكن أدونيس أو أنسي الحاج.. لكنك لا تستطيع، ولن تكون مغامراً شعرياً دون قراءة أعمال الماغوط الأولى".
الشاعر طارق عبد الواحد يدعو إلى وقفة متأنية حيال ظاهرة محمد الماغوط "لا يمكن النظر إلى الماغوط باعتباره شاعراً جائزاً أو عابراً، بل يجب الالتفات إليه، والتمعن فيه، على أنه حالة مكينة في الشعر العربي". وعبد الواحد يرى أن الجائزة رغم ما تحركه من تداعيات نفطوية ولؤلؤية "لا تقدم إضافة هامة إلى قيمة الماغوط، خاصة وأننا لا نعرف كواليسها (لطالما أن عالمنا العربي هو عالم كواليسيّ للغاية) قيمة الشاعر جاءت بسبب افتراقه عن النسق والسائد والمتصل مع المنجز الشعري شكلاً ومضموناً، رؤية وتعبيراً" ويعيد النظر بانجازه الشخصي "هو الشجرة الوطنية المظفرة، الممتلئة بالدمع والأجراس، كاتب غريزي بدائي، لكن الدارسين درجوا على وصفه بالطفل المشاغب، إلا أنه ليس كذلك، بل هو –تماماً- مراهق يجاهر بسيجارته الطويلة، كاتب ملتبس حتى الوضوح الفاقع، ممالئ حتى الشتيمة، ساخر يعلن فشل الواقع واللغة معاً"، ويشير عبد الواحد إلى عادة الأسلاف القديمة بوصفهم للشعراء الكبار بصفة "الفحول"، ليؤكد على ضرورة تأمل مفهوم الفحولة مع التقدم في السن.
من جهته يرى الشاعر والناشر سامي أحمد أن الماغوط مدعٍ، يقول بالفقر والحرمان وهو في حياة يسيرة مريحة "إنه يستهلك، يومياً، من ليتر إلى ليترين من الجنّ الرفيع الباهض، إضافة إلى ثلاث علب من الجيتان، وهذا أكثر من احتياج أسرة في ثلاثة أيام" يسمي سامي أحمد ما ذكره "متاجرة واستجداء"، ويتساءل: "هل الماغوط حقاً (خريج جامعات الفقر الأسود)". وهناك ادعاء آخر يظل الماغوط يثيره ويتحدث به وهو "السجن".
أما على المستوى الشعري فيقول سامي "يجب أن نقرأ الماغوط قبل سنية صالح وبعدها، فتأثيرها واضح، ومراجعاتها وتدخلاتها في نصوصه واضحة أيضاً، فمثلاً لا تستطيع أن تقرأ (غرفة بملايين الجدران) وتقرأ (غرب عدن شرق الله) دون الشعور بغياب شيء ما، بالتأكيد هذا الشيء هو لمسة الشاعرة سنية صالح".
الماغوط برأي سامي أحمد "ابن الصدفة" فهي من جعلته شاعراً، وأوصلته إلى ما هو عليه، أما عن قبول الماغوط للجائزة التي رفضها فيعبر عن ذلك "هو شخص متناقض، يكره الجوائز ثم يحصدها. لا يحب النفط، ولكنه يحب مال النفط، يكره الحياة، ويحمل سخطاً كبيراً عليها، وفي نفس الوقت تراه يعيش كل ملذاتها".
الشاعر أحمد تيناوي، بحزنه، يتأمل ردّة فعل الماغوط التي أعلنها في لقاء صحفي، فيقول معلقاً "من حقه أن يفرح، وأن يغير عنوان حياته من (الفرح ليس مهنتي) إلى (الفرح مهنتي)، لكنني كنت أتمنى أن يكون تغيير عنوان حياة الماغوط، من اللافرح إلى الفرح غير مرتبط بجائزة، لأن إعلانه السابق كان إعلاناً شعرياً، وهو ما جعل الماغوط ماغوطاً بالنسبة لنا. لا أعرف إن كان الماغوط يريد أن يفرح ونحن نحزن.. لماذا؟ بإعلانه اللافرح، كنا نقرأ شعراً ونفرح، الآن ما الذي سيعطينا إياه؟ كيف نفرح؟" "إذا كانت هناك نانسي عجرم وهيفاء وهبي في الفن، ولا أحد في الشعر والثقافة، لماذا لا يعلن الماغوط فرحه الصريح بحصوله على جائزة توضع في حسابه البنكي، وليس في رصيده الشعري؟ ألا تعتقد أن الخراب حين يعم، لا يستثني أحداً، حتى الماغوط؟"
يسرد لقمان ديركي قائمة طويلة جداً من أسماء الشعراء العرب الذين يعتبرهم جزءاً من التراث الشخصي، وطبعاً الماغوط واحد منهم، فهو "الشاعر الذي يمتعك بلا مواربة ، ولا
تنسى عوالمه بسهولة".
وماذا عن الجائزة؟ يجيب لقمان: "الجائزة فازت بالماغوط، لأنها كانت ستفقد مصداقيتها، لو لم يكن أحد الفائزين بها" وماذا عن الماغوط؟ أين كان؟ وأين صار؟ "قبل كل شيء الماغوط حالة علينا أن نتقبلها كما هي، وعليه، بالمقابل، أن نتقبل كلّ ما يوجه إليه من انتقادات في الفترة الأخيرة، أجمل ما قرأته له هو (الفرح ليس مهنتي) وأسوأ ما قرأت له هو كلّ ما يكتبه الآن. الماغوط صعد بصعوبة شديدة، على حد تعبيره، وسقط بسرعة لا متناهية، على حد تعبيره أيضاً. ونحن القراء لن نتذكر منه سوى تربعه على قمته التي بناها بنفسه، وصعد إليها بنفسه، وسقط منها بنفسه".