بين أبقار الدانمرك... وحمير قبرص
إسلام أبو شكير
2006-04-04
تصدّرت قضيّة الرسوم الكاريكاتورية لشخصيّة الرسول نشراتِ الأخبار في جميع المحطّات على اختلاف توجّهاتها وأماكن بثّها وفكر القائمين عليها.. وأطلّ آلافٌ من البشر (مثقّفين ومحلّلين ورجال سياسةٍ واقتصادٍ ودينٍ وتاريخ..) يدلي كلٌّ برأيه، ويعبّر عن وجهة نظره فيما يحدث، وما قد ينتج عنه من آثار.. كما خرجت جموعٌ من البشر في تظاهراتٍ سلميّةٍ وغير سلميّةٍ، وأُحْرِقتْ أعلامٌ، واقتُحِمت سفاراتٌ، وعقدت اجتماعاتٌ، واستقال وزراءُ، وصدرت بياناتٌ، واستدعي سفراءُ، وألقيت قنابلُ، واحتجز رهائنُ، واعتقل صحفيّون، و...، و...، و... أضف إلى هذا كلّه أن القضيّة تصدرت المجالس العامّة والخاصة، وبدا العالم كلّه مشغولاً بها، لا بدافع الفضول فقط، بل لأن الجميع كانوا معنيّين بها إلى هذا الحدّ أو ذاك..
القضيّة إذاً على قدرٍ عالٍ من الخطورة.. وممّا هو مفترض في مثل هذه الحالات أن تكون حيثيّات القضية وملابساتها متاحة أمام من يجد نفسه مضطراً إلى اتخاذ موقف ما تجاهها.. ذلك أنه من غير المعقول أن تحمل نفسك تبعات أي موقف ما لم يكن لديك ما يكفي من المبررات، وعلى نحو ملموس ومقنع..
وأنا شخصياً وجدت نفسي ـ في غير مناسبة ـ مطالباً بالتعبير عن موقفي، وغالباً ما يكون ذلك بالإشارة إلى البضائع الدانمركيّة (وأحياناً النرويجيّة) التي تمّت الدعوة إلى مقاطعتها والامتناع عن التعامل معها.. وقد أطالب أحياناً بالمساهمة في نشر رسائل تدعو إلى هذه المقاطعة وتشجّع عليها.. كما عرض عليّ التوقيع على بيانات تندد بما حدث، وتدعو إلى مواجهته والكشف عن حقيقة ما وراءه من دوافع وغايات..
حالات كثيرة من هذا النوع، وكانت تتكرر كل يوم، الأمر الذي أوقعني في إحراج شديد لم أعرف كيف أتجنبه.. ذلك أنني ـ شأني في ذلك شأن الملايين ـ لم أر شيئاً من هذه الرسوم.. محاولاتي كلها كانت عبثاً في عبث.. هذا مع أنني أصنف نفسي ـ أو هكذا أحسب ـ ضمن خانة المغرمين بتتبع الأخبار وملاحقتها، وأزعم أنني من المتابعين لأشهر الصحف العربيّة وأكثرها انتشاراً، ومن الذين لا يكلّون ولا يملّون من تقليب صفحات أهم مواقع الانترنت العربيّة.. ولكي لا أتهم بالمبالغة فسوف أعترف بأنني وفقت ـ ذات مرة ـ في الوصول إلى بعض هذه الصور، لكنها كانت بأحجام صغيرة جداً، وقد كان بالإمكان تكبير هذه المصغّرات بالضغط عليها، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال، إذ سرعان ما أطلت عليّ تلك الشاشة الزرقاء المعروفة، وقد توسّطتها باللون الأحمر عبارة (الموقع محظور)..
السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي خلال ذلك كلّه: كيف لمئات الألوف من البشر (بل الملايين) أن يتّخذوا مواقف على هذا القدر من الخطورة، تجاه أمرٍ لا يعرفون عنه شيئاً؟.. لقد قيل إنّ في هذه الرسوم ما يسيء إلى حريّة الاعتقاد، وأنّها فعلٌ لا صلة له بشعار حريّة الرأي والتعبير.. قيل إنّها رسومٌ فيها من البذاءة والإسفاف والعنصريّة ما لا ينبغي السكوتُ عليه.. وقيل إنّها تكشف عن أحقادٍ دفينةٍ، وعدوانيّةٍ بغيضةٍ تجاه كلّ ما هو إسلاميّ أو عربيّ.. كما قيل إنّها تحتوي على قدرٍ من الاستفزاز أكبر من أن يطاق، ومن الإهانة أعظم ممّا يمكن احتماله.. وقيل أيضاً إنّها إعلانُ حربٍ على الإسلام، الأمر الذي يستوجب من كلّ مسلمٍ أن ينهض بواجبه في دفع الأذى عن دينه ومعتقده..
غير أنّ ذلك كلّه بقي ضمن إطار (قيل ويقال..)، وبقيت الرسومُ لا يعلم بها إلاّ عددٌ محدودٌ من أصحاب العقول الراجحة، واليقين الراسخ الذين لا خوف عليهم من الفتنة. أمّا أمثالنا من عامّة الناس ودهمائهم فما عليهم إلاّ السمع والطاعة..
لقد كان المطلوب من هذه الملايين أن تصدّق ما يقال لها، وأن تصدع بما يلقى عليها من أوامر وتوجيهاتٍ، فتخرج وتندّد وتحتجّ وتحرق وتموت، وليس لها من بعد ذلك (ولا من قبله) أن تطلب رؤية ما يقال إنّه مسيءٌ لها ولدينها ولنبيّها، فهذه الملايين لا تمتلك من الوعي وسلامة الإدراك والقدرة على التمييز ما يؤهّلها لمثل هذا.. وما أدراك، فلعلّ مؤمناً صالحاً يرى صورة نبيّه على هذه الحالة التي تخيلوه بها، فيتأثّر، وينفتح باب للشيطان إلى قلبه، ليلقي به في مهاوي الشرك والضلال، فتخسره بذلك طائفة المؤمنين الصالحين الطاهرين..
لقد حاولتْ صحفٌ في اليمن ومصر والأردن والجزائر وسواها نشر بعض هذه الصور، فكانت العاقبةُ سيلاً من الاتّهامات والتهديدات والعقوبات الزاجرة. فصحيفة (اليمن أوبزرفر) على سبيل المثال غامرت فنشرت أجزاء من بعض هذه الصور في حجومٍ صغيرةٍ، وبشكلٍ مشوّهٍ، ثمّ زادتْ فشطبتْ عليها بعلامات (إكس) كبيرةٍ جدّاً، ومع ذلك فقد لقي رئيس تحريرها ما لقي، وها هو خلف قضبان السجن ينتظر، لعلّ وعسى.. أمّا في الأردنّ فقد قرّرت شركة (الطباعون العرب) المالكة لصحيفة (شيحان) الأسبوعيّة سحب جميع النسخ التي نشرت فيها ثلاثة من الرسوم، كما أوقفت رئيس التحرير عن العمل، وذلك بعد تهديداتٍ تلقّتها من الحكومة باتّخاذ إجراءاتٍ رادعةٍ، نظراً لما يمثّله هذا التصرّف من خرقٍ للقوانين.. وفي مصر حاولت صحيفة (الأخبار) في أحد أعدادها إعادة نشر تلك الرسوم، وشرعت بذلك فعلاً، إلاّ أنّ رحمة الله قد لحقت بها، فتدخّل العقلاء من المسؤولين فيها في اللحظات الأخيرة، وأمروا بوقف الطبع وإعدام عشرات الآلاف من النسخ التي كانت قد طبعت بالفعل. وفي الجزائر واجهت صحيفة (الرسالة) الأسبوعيّة انتقاداتٍ حادّةً بعد أن نشرت اثنين من تلك الرسوم، رغم أنّها برّرت ذلك بالرغبة في إفهام المسلمين حقيقة ما يُحاك ضدّهم في الغرب..
وإذاً، فقد كشفت هذه القضيّة عن خللٍ مخيفٍ تعاني منه مجتمعاتنا، من حيث خضوعها لسلطةٍ ما (دينيّةٍ هنا)، وهو خضوعٌ لا يتخلّله أدنى رغبةٍ في المساءلة أو الحوار.. إنّه نوعٌ من الاعتقاد الضمنيّ بالعجز وانعدام القدرة على اتّخاذ القرار، لذلك فنحن نكل هذه المهمّة إلى أصحاب الشأن من الحكماء العقلاء الأتقياء الأنقياء الصالحين، ليفكّروا، ويحكموا، ويقرّروا، وما علينا نحن سوى التنفيذ.. وبدورهم، فإنّ أصحاب الشأن هؤلاء ينظرون إلى سائر الناس على أنّهم جموعٌ لا تستحقّ منهم أدنى قدرٍ من الاحترام، فهي محكومةٌ بغرائزها البدائيّة، وفاقدةٌ للقدرة على التمييز، بل إنّها ليست سوى كتلٍ من اللحم والدم، مع قليلٍ من الذكاء الفطريّ البسيط، والمشاعر التي يمكن التلاعبُ بها، والقدرات المحدودة ذات الطابع الحيوانيّ البهيميّ على الأغلب، ولذلك فمن الخطورة بمكانٍ الثقةُ بها، أو الارتكانُ إليها في أمرٍ من الأمور..
لقد عوملت شعوبنا في هذه القضيّة كما تعامَلُ البهائمُ تماماً، فنحن مطالبون باتّخاذ موقفٍ نعادي العالم كلّه من خلاله، تجاه أمرٍ لا نعرفُ عنه شيئاً، ولا ينبغي أن نعرف عنه شيئاً.. والغريبُ أنّنا قبلنا هذا الدور، وأدّيناه خير أداء، وحرمنا أنفسنا بعضاً من ألذّ ما تنتجه بهائمُ (أعني: أبقارَ) الدانمرك المدلّلةُ المحترمة، دون أن نؤدّي واجبنا تجاه أنفسنا، فنتساءل: هل كان ذلك حقّاً؟.. ولماذا علينا أن نصدّق ما يقالُ لنا؟.. لماذا لا تتاحُ لنا رؤية تلك الرسوم، فقد يكون الأمر على غير ما يزعمون؟.. كيف يُطلبُ إلينا أن نقتل (سلمان رشدي) و(تسليمة نسرين) بدعوى الكفر والهرطقة، ونحن لم نقرأ ما كفرا به، وضمّناه هرطقتهما؟.. لماذا لا يثق بنا أولو أمرنا من الحكّام والشيوخ وأصحاب المنابر والإطلالات الفضائية وشركات الألبان الوطنيّة التي تزداد أرصدتها طرداً مع تمادي الدانمركيّين في ضلالاتهم؟.. لماذا لا يعرض هؤلاء الحقيقة علينا كما هي، ويدعون لنا حريّة اختيار القرار الذي نريد؟.. أيعدّون أنفسهم من مرتبةٍ فوق مرتبة البشر، مستأثرين بما أنعم به الخالق عليهم ـ لحكمةٍ منه لا نعرفها ـ من عقلٍ راجحٍ ونظرٍ نافذٍ ورؤيةٍ سديدةٍ، لنظلّ نحن نتخبّط في العماء حيث الجهلُ والطيش والحمق والعجز والجوع والقهر وسائر أنواع المرض؟..
إنّها الأبقار الدانمركيّة المدلّلة.. ومن يدري.. فربّما كان الهجوم غداً على أفيال كينيا.. أو كناغر أستراليا.. أو دببة روسيا.. أو حتّى على حمير قبرص..!!