طفولة سوريّة
خاص ألف
2011-07-26
قديماً، برهن أرسطو كمؤسِّس لعلم السّياسة على أن الإنسان مدنيّ سياسيّ بالطّبع، فهو يمتلك الحديث الذي يكون بلا قيمة إلا لكائن اجتماعي، والدولة هي غاية الفرد، والنشاط فيها هو جزء من الوظيفة الجوهريّة للإنسان، فالدولة هي في الواقع الصّورة حيث الفرد هو الهيولى. تقدّم الدولة التربية في الفضيلة والفرص الضّروريّة لممارستها ومن دونها لن يكون الإنسان إنساناً على الإطلاق، بل سيكون حيواناً متوحّشاً.
قد يمكّننا مثل هذا الفهم للإنسان كمدني سياسي بطبيعته من استيعاب ما قام به مجموعة من الأطفال في محافظة درعا السوريّة حيث اندلعت إحدى أهم شرارات الثورة مما خطّته أناملهم الطريّة على الجدران من قبيل "الشعب يريد إسقاط النظام" وغيرها من عبارات قيل إنهم اقتبسوها من شاشات التّلفزة أثناء ثورة 25يناير في مصر، ويأتي ذلك في محاولة لتفسير الأمر كنوع من المحاكاة أو التقليد طالما أن الطفل مقلّد جيّد. ربما تكون المسألة تقليداً، وربما تكون أهم وأبعد من مجرّد تقليد أو محاكاة بحيث تقترب من جوهر الفرد الإنساني كفرد مدني سياسي بالطبع. ذلك أنه إن تفكّرنا في الأعمار الصغيرة لهؤلاء الأطفال لربما اكتشفنا ميولهم الطبيعية المبكّرة لأن تكون لهم وظيفة جوهريّة في دولة يشعرون بانفصالها عنهم أو انفصالهم عنها، دولة لا تبدو لهم كحاضنة تقوم بوظيفة تربويّة فاضلة وتمنحهم فرص أن يكونوا بشراً، أو ربما شعر هؤلاء أنهم في دولة تعاديهم. ثم أتى فيما بعد الدليل القاطع على صدق ما شعروا به حين تمّ اعتقالهم وتعرّضهم لأبشع أنواع التّعذيب.
يخوّلنا التفكّر المتأنّي تجاه هؤلاء الأطفال رؤية المسألة من زاوية غير مستهلَكة، زاوية لا ترى فيهم مجرّد متلقّين مقلّدين، بل تراهم مبدعين من حيث هم كائنات ما زالت لم تتكيّف بعد وأجواء و مناخات اعتاد عليها الكثير من الراشدين (القدماء) وتآلفوا وإيّاها كمسلّمات. وللتعمّق أكثر في عالم هؤلاء الأطفال يمكن قراءة ما حدث استناداً إلى مصطلح جيلفورد )1954)
"التفكير التباعدي" divergent thinking. حيث أشار جيلفورد إلى أن الإبداع يتطلب نوعاً من التفكير التباعدي، ويقصد به ذلك النشاط العقلي الإبداعي الذي يستهدف الوصول إلى استجابات غير عاديّة أو غير مألوفة وجديدة، أي أصيلة، كما يؤدي إلى حلول كثيرة للمشكلة الواحدة، حلول متفرّدة وأصيلة.
وبالإضافة إلى التفكير بالصّور الذهنيّة، حيث يحلّ الأطفال مشكلاتهم من خلال ألعابهم الإيهاميّة ورفاقهم الخياليّين؛ فإن التفكير التّباعدي أعلاه قد يميّز عالم الطفولة أكثر ما يميّز، عالم الدّهشة المتوهّجة في عيون مشدوهة صوب غرابة وغموض. والمفارَقة هي أن قلّة من الناس يبقون محتفظين بتلك الروح الطفوليّة طيلة رحلة حياتهم، فدهشة الأطفال غالباً ما ترحل بمجرّد المضيّ في طريق النّمو حيث يغدو الشخص البالغ مجرد كائن متكيِّف وعالم لم يعد فيه ما يثير ويدهش؛ فتتملّكه روح شائعة سائدة، وترحل عنه روح الأطفال، الأطفال كحَمَلةِ أرواح فلسفيّة هائمة في التساؤل، كيف لا وهم الأكثر إثارة لأشدّ وأعقد المسائل ميتافيزيقيّة!
إن التفكير التباعدي الذي انتهجه هؤلاء الأطفال (أطفال درعا) ربما مكّنهم من افتراش مسافة معيّنة بينهم وبين السّواد أو الغالبيّة، مسافة سمحت لهم بإبداع ما أبدعوا؛ فاستحالوا روّاد حرية.
أن تعادي الدولة أطفالها؛ لكارثة إنسانية ما بعدها كارثة! ليس فقط لأن أسّ الدولة وفحواها هم الناس.. الشعب بما فيه الأطفال، بل أيضاً لأن الطفولة هي البداية، بداية كل شيء، بداية أي مستقبل، وأي قادم وأي مُستشرَف. وأن تكون البداية مأزومة معناه أن كل ما هو مرتبط بها وما سيرتبط لا حقاً سيكون مأزوماً ومهزوماً. ومن الصعب – إن لم يكن من المستحيل- حينها انتظار أية خيريّة على أي صعيد كان، سواء أكان روحياً، نفسياً، عقلياً، عاطفياً، أخلاقياً، وجدانياً، علمياً، عملياً، اقتصادياً، اجتماعياً، وسياسياً..
وعادة حين يطلّ الديكتاتور، أي ديكتاتور على "شعبه" ينفث سموماً كثيرة وراء كل كلمة "ود" ينطق بها. وربما يكون أخطر السّموم تلك التي تجعل من الأطفال خصوماً، بل ألدّ الخصوم عداوة وأشدّهم ضراوة. أما كيف يستحيل الأطفال أعداء؟ فهذا ما لا يمكن استيعابه إن لم نحسن فكّ شيفرات العقل السّلطوي، وإن لم نستطع ولوج أدمغة العسكر بدهاليزها ومتاهاتها المفضية غالباً للكره..وللمؤامرة. وما أدرانا ما هي المؤامرة التي تقضّ مضجع العقل السّلطوي أنّى اتجه! كيف لا تفعل وهي من تسلّلت من بين تلافيف دماغ تَعَسْكَر! ومن الوارد جداً أن يعيب الديكتاتور على الأهالي إخراج أطفالهم في تظاهرات محتجّة إذا ما أقدموا على ذلك كون هذا الأمر ينشئهم على كره "الدولة" ويمسّ بهيبتها! ولا شكّ في أن الدولة التي يقصدها الديكتاتور هي تلك التي تعكس ذاته، إذ أن مفهوم الدولة لديه مشوّه ومريض؛ فلو عدنا لمفهوم أرسطو للدولة أعلاه لرأينا أن ما يمنع عن الإنسان التوحّش هو وجوده في دولة تقوم بوظيفة التربية الفاضلة، وهذا ما لا تفعله "دولة" تعكس غريزة الديكتاتور المطلقة.
وكاستطالة للطريقة التي تفكر من خلالها السلطة شاعت بين بعض الناس في سوريا آراء تجعل من الأهل شركاء في أذيّة أطفالهم عند سماحهم لهم بالخروج في تظاهرات احتجاجيّة، مفضّلين منع أطفالهم من المشاركة. قد تبدو هذي المخاوف منطقيّة خصوصاً أنه من الوارد جداً أن يتعرّض الطفل للأذى شأنه في ذلك شأن أي راشد في ظل قمع دموي أحمر تشهده تظاهرات مناوئة للسّلطة. ورغم ذلك تبقى هناك فسحة لمناقشة الأمر عبر ذهنيّة تحرِّر الطفل من كونه ملكيّة خاصة وتستوعب أنه للحياة وأنه أكثر من يتقن فنّ التّماهي وألوانها. والسؤال:
متى سنفهم أن أطفالنا ليسوا لنا - تيمّناً بجبران-؟ أو على الأقل هم ليسوا بأهم ولا أغلى من أطفال الغير؟ فأن يتعلّم الطفل أنه ليس بأفضل من أقرانه وأن عليه أن يعطي الكثير قبل أن يأخذ القليل لأمر من شأنه غرس بذور محبّة لا غنى عنها في بناء علاقات إنسانية سليمة في كل زمان وكل مكان. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى قد يبدو من غير المنطقي تجاهل أن الثورة في سوريا ساهم في خطّ أبجديّتها الأوليّة أطفال اعتُقِلوا وعُذِّبوا، والطفل بالتالي هو أهم من يجب أن يخرج ليردّ الاعتبار لذاته التي انتُهِكت وليكمل تالياً مسيرة إبداعيّة لا ينبغي لها أن تتوقّف، فالأطفال في سوريا ما عادوا طلائع بعث يردّدون شعارات الأمة العربية الواحدة ذات الرّسالة الخالدة ثم يصفّقون الصفقة الطلائعيّة ليخلدوا بعدها إلى صفوف الموت ينهلون من سموم عقيدة تفتك وتقتل.
إنهم الآن لكذلك.. أطفال حقيقيّون.. أطفال حريّة.
وباختصار، هم الآن يتظاهرون كي لا يعودوا ضحايا. ضحايا فقر وعوز، ضحايا قانون لا يمنح الجنسية لأمهاتهم، ضحايا مدارس تركها بعضهم ليتشرّد في طرقات "الوطن"، ضحايا تمييز بشع مورِس عليهم في كل حين، تمييز يقلّل من شأنهم ويهين كرامتهم عبر اختلاق تمايزات مريرة تزرع الكره بينهم وبين أقرانهم "الأفضل" منهم، تمايزات صنعها الاستبداد ليكرّم من لا يستحق ويُعلي من شأن الوضاعة مغيِّباً العدالة. يتظاهرون لأنهم هم من كانت مسلسلات الأطفال الممنهجة تحبطهم أكثر فأكثر لتشعرهم دوماً بأنهم الأبخس والأقل شأناً من أبطال قصص وروايات تتحدّث عن العظام من الأطفال..وهم..وهم..
بخروج الأطفال للشوارع تتبرعم الديمقراطية عبر فعل وسلوك وممارسة من شأنها أن تنمّي فيهم الاحتجاج على الظلم، فشتّان بين خروج الطفل للشارع تشرّداً وبؤساً وبين خروجه مطالبة بالحرية والعدالة كي لا يعود إلى الشارع تشرّداً وبؤساً.
ربما لم تعد التربية بشكلها التقليديّ القائم على الطّاعة والنَّعم مجدية؛ لأن الديمقراطية لا يمكن أن تبدأ بالنَّعم؛ ولأن في الـ"لا"، في الرفض والسلب عصفاً للأذهان وخلخلة لليقين.. وللطمأنينة الوهميّة الزّائفة. ولم يعد يجدي نفعاً أن يكون الطفل مجرد وسيلة منفذة لأوامر سلطات لا تنتهي ولا تكلّ ولا تمل؛ لأن الطفل الآن يقول لا للظلم.. ولا للعبودية والاستعباد. هو الآن يثور على النَّعم البائسة التي أرّقته طويلاً صائحاً في وجهها: اتركيني وشأني. فأي تاريخ ذلك الذي يفتتحه أطفال رافضون للظلم، ومستنكرون للتعسّف واستباحة إنسانيّتهم؟! أي تاريخ مشرِّف ذلك الذي تبدأ سطوره بحرية ..عدالة ..مساواة وكرامة؟!
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |