واجهات المحلاّت التجارية تلك السير المضمرة
2008-03-15
ذات يوم، قرّر روائيّ مغمور ـ في رصيده عشر روايات مطبوعة، ومثلها مخطوطة، ومثلها في البال ـ أنْ يفتح محلاً يعتاش منه،على الأقل كي يريح أمّه العجوز من مصروفه، علماً أنه وصل الخمسين.
عندما استطاع تجهيز المحلّ باقتطاع الغرفة المطلة على الشارع، وتدبير البضاعة بالتقسيط، توقّف خياله أمام الاسم الذي سيطلقه عليه، مستجلباً مكابدة العنوان من حقل الكتابة. وبعد فترة تعثر طالت بعض الشيء، لمعت في باله الفكرة، وهو يحلق ذقنه صباحاً، وكان سيقول للجميع أنّّ المرآة هي من قالت له الاسم، فيما لو أنه يضمن مرور الفكرة دون فضيحة. في ظهيرة ذلك اليوم كان الخطاط يكتب عبارة (بقالية الفينيق) مقابل ثلاث علب مرتديلا.
وسرعان ما احترق الفينيق، دون أن يقوم من رماده، وحلّت خسارة مريعة تسببت بالإغلاق، وكل ما خرج به صاحبنا من هذا المشروع هو الاسم، حيث بات الجميع، كباراً وصغاراً، ينادونه به،
ومن ضمنهم المرحومة أمه التي لحنت جملة من تأليفها، كانت تستخدمها طوال اليوم، لكثرة ما ينام: (فيقْ.. فيق يا فينيقْ).
أسماء المحلات التجارية، والعبارات التي تكتب على الواجهات، بمثابة فرصة للإطلاع على شخصيات أصحابها، خصوصاً أثناء التمشي، أو ركوب السرفيس، حيث نترك لعيوننا الحرية في أن تلوك تلك الجمل والتراكيب بصمت.
على الأغلب ما من أحدٍ لم يسمع بخبر الجوار الطريف، المثقف أيضاً، وقد ذاع صيت محله (ملحمة جلجامش)، على الرغم من غياب الصلة كلياً ما بين الملاحم القديمة وبين بيع اللحوم، إلا في ما يخصّ الجانب اللفظي.
وراء كل لوحة، أو لافتة مضيئة كانت أم عادية، قصة تستحق أن تروى، وسيرة نغفل عنها لانشغالنا بفرضيتها أكثر. ثمة من سمّى ورشة تصليح السيارات التي يملكها وفاءً لذكرى مدينة عاش فيها ردحاً، وثمة من أراد تخليد عائلته على المستطيل المعدني، وثمة من وضع اسماً، ووضع الناس اسماً آخر، اضطر لتبنيه لسعة انتشاره.
من ينسى مطعم الفول الشهير، ملتقى البؤساء السابق، خلف سوق القرماني، والذي أزيل مع السوق؟
لم يفكر أحد بقراءة لوحة المكان، فالجميع يعرفونه باسم (صلّح)، وكان التقليد المتبع فيه دفع (25ل.س) سلفاً، وعلى الفوال أن يظلّ يجدد الصحن، أو (يصلّحه) بالأحرى، إلى ما شاء كرش الزبون.
ثمّة تاجر مطرزات شرقية لا يكف عن تغيير آرمة متجره، ففي فترة هي (مطرزات هدى)، وفي فترة هي (مطرزات شادية)، وفي فترة أخرى تصبح (مطرزات وسن)، ومع ذلك الأمور على ما يرام، وحركة البيع بخير، والزبائن على تعاملهم، أمّا ذلك التغيير فلا يعدو أكثر من كونه تغيراً لحبيبة التاجر!
(فلافل بيسان) في الاسم كثير من الجاذبية والغموض في آن، إذ ما الرابط بين الفلافل بكل شعبيتها، وبين بيسان بكل نخبويتها؟
ليس سراً أن الصحافي والناشر سعيد البرغوثي صاحب هذه العلامة التجارية، فالرجل الذي جرّب من المهن أغلبها وانتهى إلى (المهنة الأسوأ)، كما يقول عن النشر، هو من أسس المطعم، وأعطاه رونقه الأول باسم مأخوذ من الجغرافية (سهل بيسان في فلسطين)، مع أنّه باعه بسبب حسابات خاطئة، وحظّ عاثر.
في مرحلة سابقة، كان الناس يميلون إلى إطلاق أسماء بناتهم على المتاجر والمحلاّت، وهكذا كنت تطالع (بشرى للالكترونيات) و(مكتبة هديل) و(سفريات نور)، وقد وصل شغف الاحتفاء بالبنات أن أخذ رجلاً بالكامل، ليطلق أسماء بناته الأربع دفعة واحدة على باب رزقه (ملبوسات رهف للأفراح والمسرات وتحقيق الأماني)، ومن الملاحظ أنّ هذه العادة تراجعت، لتحل مكانها عادة إطلاق تسميات دينية، من قبيل (ألبان وأجبان طيبة) و(مأكولات الرحمن).. وبعد أن كانت تلك اللوحات تكتب يدوياً، وبالدهانات الزيتية، تغيّر الأمر وصارت تكتب بالكمبيوتر على قماش معالج حرارياً، ليتلاءم مع تغيرات الطقس. وكما كانت هناك تحفظات على استخدام الأسماء الأجنبية باتت الموضة تفرض العكس، وهكذا ستجد محمصة باسم «Mood» ومحل عطور باسم «X5»..الخ.
وكذلك سوف تنتشر تسميات تحت تأثير الأعمال الدرامية في السينما والتلفزيون (ملبوسات الحاج متولي) و(أحذية العرّاب).
المثير حقاً أن يكون يسمّي بائع شاورما محلة بـ(شاورما قرطبة)، أو أن تعلن واجهة للمشروبات الكحولية عن نفسها بكلمة مغناطيسية (الغاوي). أما أكثر الأسماء غرابة على عادة، وبالتجاوز مع اللوحة الرئيسية، تكتب عبارات للجذب، والطريف أن يكتب بقّال (يوجد لدينا ثلج بارد)، أو أن يعلن تاجر ملبوسات على واجهته عن (عرض خاص) ويحدث أن تطير نقطة الضاد، أو أن يكتب أحدهم، وبخط واضح ومقروء (هنا نبيع الدخان المهرب)، وآخر (بضاعتنا أفضل من فرنسا، وأرخص من الصين).
رائد وحش
[email protected]
08-أيار-2021
30-تشرين الثاني-2019 | |
16-تشرين الثاني-2019 | |
09-تشرين الثاني-2019 | |
02-تشرين الثاني-2019 | |
30-أيار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |