عن الفهم الجديد للشارع..
خاص ألف
2011-08-22
منذ اندلاعها مع إطلالة العام الجاري لم تغيّر الثورات في العالم العربي/الإسلامي الكثير مما في الواقع فحسب، بل غيرت أيضاً الكثير مما في العقل من مفاهيم، مقدِّمةً عبر هذا التغيير الدليل الدامغ على وهم وسلطويّة المفاهيم المحسومة، المطلقة، والصالحة لكل زمان ومكان، فالمفاهيم موضوعات للغة، واللغة ليست مجرد قواعد وكلمات، إنما هي انعكاس للحضارة.. للثقافة.. للروح البشرية.
قد يكون "الشارع" هو المفهوم الأهم الذي حرَّضت الثورات العقل على ضرورة إعادة قراءته ومراجعته في ضوء ما يجري على الأرض طالما أن للمفهوم، أي مفهوم دلالات زمانية ومكانية، فقد كشفت ما يرزح تحته هذا المفهوم من مغالطات، إذ أن الشارع ارتبط طويلاً في ذهن الناس أنه بلا أخلاق، إلى حد ما، وتمّت قولبته بمجرّد امتداد يرتاده اللصوص ومدمنو المخدرات وبنات الهوى والمتسوّلون والمتشرّدون والحثالة و.. و..، لطالما كان الهاجس الأكبر للمربّين، آباء كانوا أم أمهات أم رجال دين.. أساتذة أم ساسة.. هو تحذير الناس كـ"قصَّر" من الشارع وثقافته، وما على الشخص إلا أن يخطئ أي خطأ مهما كان بمنتهى الهامشيّة والصغر حتى يُشتَم ويُهان بالقول أنت "ابن شارع"، غير أن رياح التغيير ولّدت مفهوماً جديداً للشارع المعتاد.. فمن هذا الشارع نفسه انطلقت صيحات مطالبة بأنبل القيم الإنسانية وأشدّها عمقاً، وعبره تم الإصرار على إسقاط الشرّ الطاغي والفساد المستشري الذي طالما استفحل بالأمة منذ عقود. ضجّ الشارع بالناس الثائرين على الظلم والقهر والتهميش والإقصاء، وعلى الاستبداد والديكتاتورية. إنه الشارع بمفهومه الجديد إذن.. بوابة الدولة الحديثة المعاصرة.. دولة القانون.
جاء في (لسان العرب): - الشَّارِع هو الطريقُ الأَعظم الذي يَشْرَعُ فيه الناس عامّة وهو على هذا المعنى ذُو شَرْعٍ من الخَلْق يَشْرَعُون فيه.
- وكلُّ دانٍ من شيء، فهو شارِعٌ.
- والدارُ الشارِعةُ التي قد دنت من الطريق وقَرُبَتْ من الناس. وفي (الصِّحاح في اللغة) جاء: الشَريعَةُ: مَشْرَعَةُ الماءِ، وهو موردُ الشاربةِ.
- طريق أعظم يشرع فيه الناس عامة.. دنو من الشيء.. انفتاح على الطريق وقرب من الناس.. ماء ومورد للشاربة!
كنت أتساءل وأنا أتوغّل في عمق تلك المعاني، لماذا لم يعلمنا أهلونا ومدرّسونا وغيرهم ممن تولّوا مهمّة تربيتنا كيف نجيد مكابدتها وترجمتها سلوكاً وممارسة، فيما أمعنوا في تخويفنا من الشارع ومن مغبّة الخروج إليه حتى، فكيف بالانتماء؟! لماذا أصرّوا أن البيت المغلق النوافذ والأبواب أفضل، وأن القصر أهم وأعظم، وأننا في المدرسة نتعلم ما لا يمكن تعلّمه في الشارع...لماذا والشارع بكل هذا الصّخب الجميل تم تشويهه ونسف كل ما ينتمي إليه؟ حقاً إنه قد ينطوي على ما ليس بمحمود شأنه في ذلك شأن كل الأمكنة في كل الأزمنة؛ ولكن الثورات كشفت عن جانب آخر للشارع كان غائباً عفواً أو مغيَّباً قصداً وقسراً. استعرت الثورات لتعيد الاعتبار لشارع مهمَل منذ زمن طويل، معلنة بدقة عن: لماذا كانت السلطة بكل أشكالها ومتاهاتها ودهاليزها لا تريد للشارع أن يحتلّ مكانة جيدة في عقول من تربّيهم. أدركنا الآن لماذا كان يُقلِق الشارع الحكّام أكثر ما يُقلِق, ويرتعد هؤلاء خوفاً من كل صوت يتسلل منه، كان الشارع يرعبهم رغم صمته المطبق، وكان خطراً أعظم يمسّ وجودهم "المقدس" "الأبدي". الآن عرفنا كل ذلك وما سنعرفه لا حقاً ربما سيكون أخطر.
ما عاد الشارع شارعاً.. ما عادت المعاني الملصقة به قسراً هي ذاتها. لقد تم فهمه الآن من خلال اقترانه كواقع يعجّ أحداثاً بقيم الحق والخير والجمال والعدالة. إنه الشارع الذي منه تفتّحت ورود شباب ثائر على الظلم والتعسّف واستباحة الكرامة الإنسانية. الشارع الآن هو منبع حرية وانعتاق.. شارع أحرار لا حثالة. صار له الكلمة الفصل في تغيير مسار التاريخ، و صار من شيم المرء الشريف الشجاع الانتماء إليه. انقلبت الأمور رأساً على عقب ولم يعد قول "ابن شارع" سبّة - إلا في ذهن السلطة، كل سلطة، مثل أنظمة الحكم التي طالما اعتبرت المطالبين بالحرية من الشارع (حثالة..جراثيم..جرذان..مندسين..مخربين..متآمرين..خونة..عصابات مسلحة.. متمردين..تكفيريين..قاعديين وطالبانيين..!)
واللافت للانتباه - باستثناء شعور الموالي أو المستفيد من أي نظام قائم- هو ذلك الشعور بالرّهبة أو القصور والتقصير أمام الشارع.. شعور يدفع بالقوى السياسية التقليدية المعارضة سواء أكانت شخصيات مستقلة أم أحزاب للانضمام إلى الشارع المنتفض وقد استحال معارضة جديدة ومختلفة، وبارعة في فعاليتها نظراً وعملاً، وكذا الأمر بالنسبة للمثقف، حتى أن ثمة حذراً شديداً صار من الواجب أن يطغى على لغة من يريد الانضمام أو إعلان تأييده للشارع.. إذ ينبغي أن تكون لغة تكرِّس فكرة اللّحاق بالشارع لا ادعاء تمثيله أو الوصاية عليه، وهذا على الأغلب مردّه للتضحيات النبيلة الشجاعة.. للثمن الباهظ الذي قدّمه المنتفضون المطالبون بالحرية من قلب الشارع، فكل منتفض إما صار شهيداً أو معتقلاً أو مفقوداً.. وإما مشروعاً لهذا كله في كل مرة يخرج فيها للتظاهر والاحتجاج وخصوصاً في سوريا!. من هنا تفوّق الشارع على المكتب -مثلا- فمن يطالب بالحرية عبر بحث أو مقال أو عبر مقابلة إعلامية عقابه أقل وطأة بكثير من عقاب ذلك الذي يهتف للحرية من قلب شارع أدنى ما يُقال فيه إنه معمَّد بالرصاص الحي.
صار للشارع كلمته.. صوته.. مفهومه، وما عادت حقوق الإنسان وقيم الحداثة والتنوير والديمقراطية والمدنيّة تطلّ من أبراج عاجيّة هنا وهناك؛ لأن الوعي بات يدرك أنها المسار التاريخي الذي يصنعه كل فرد يمضي فيه، وأنها فعل شاق ومضن وإصرار على السير قدُماً مهما كانت الطريق موحشة ووعرة. إنها عيش ومكابدة.. وتدريب للذات وتهذيب لها.
لم يقتحم التغيير مفهوم الشارع فحسب؛ فهناك مفاهيم كثيرة عملت الثورات على دحض الفهم المكرور لها، مثل مفهوم "الحوار"..الحوار العار إذ يُقرَن بالقتل والقتلة.. الحوار الذي طالما كان مطلب المعارِض المهمّش الذي غيّبته لعقود أنظمة فاسدة ومفسدة، أنظمة مستبدّة لا تقبل من يعارضها أو ينقدها ويناقشها، صار الحوار الآن استجداء ينبعث حتى من أعتى الديكتاتوريات وأشدّها استفحالاً في قهر الإنسان كالنظام السوري وغيره من الأنظمة المهترئة التي تتساقط، وهذا ما يقتضي الاستطراد فيه كموضوع مستقل.
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |