أول مــرّة
خاص ألف
2011-11-08
أضمكَ مرتجفة ... تحتضنني بقوة، مندفعاً بلهفةِ خمسة عشر عاما من الغياب.. تقبلني.. فابكِ .. لم اعد يتيمة بعد اليوم، بعد أشهر تشرينية سأكمل عامي الخامس عشر، هذه أول مرة احتفل فيها معك، بك... أول مرة أراكَ خارجَ مساحةِ العدم، يدانا لأولِ مرةٍ تتشابك، خمس أصابع تعانق نظيرتها في اليد اليمنى وخمس مع خمسٍ في اليد اليسرى، الآن فقط أتقن العدّ ... إنها عشرة، وأنت أمامي، كامل العينين والأنف والملامح والفم الذي يحاولُ احتواء كل ما مضى، وإلقاءه بصوتٍ يخترق أذنّي وإذا به يبعثر داخلي ويلحُمني مع سنين مضت .. تحدثني مسرعا .. خائفا أن يمر الوقت ولا يكفي لتقول لي كل ما ينبغي على أبٍ أن يقوله لابنته في خمسة عشر عاما، تمس شعري وجديلتي وتتفقدني خلية خلية، كيف كبرتُ في غيابك؟
كان من الصعب علي وأنا ابنة غيابك أن أتعرف عليك، أتيتني كلغةٍ غريبة لم اسمعها في طفولتي لأرددها بالمثل، أنا الآن خارجَ حدودِ الفهم بالفطرة، كان يستعصي على فهمي، ويكبر منطقي أن أفسر دخول رجل إلى حياتي الآن، أنا من عشتُ حياتي ناقصة ً من الرجال، دون أب ودون أخ، ماذا علي أن أسألك؟ كيف أتعرفُ عليك؟
أنا وأنت لا نعرف شيئا سوى انك أبي وأنني ابنتك التي ولدتَ لك وأنتَ مقيدٌ بين أربعة جدرانٍ من الاسمنت الرديء، لا تتجاوز مساحتها الواحد متر مربع، كالغرباء، امشي نحوك مدفوعة بصراخِ الآخرين وبكائهم فرحا بعودتك، هل عدت حقا؟ هل الغي انتمائي إلى الفراغ وانتمي لك ؟
تتمنى لو أن ذراعيك أوسع أو أن صدرك يحضن كامل جسدي الذي نما في غيابك. تدهشك خطوط الضوء هنا، الشوارع، الوقت، البنايات، نعم انه ليس المكان الذي تركته، ليس جسدي وحده من تغير، حتى انكساراتنا أكثر حدةً ونحن أكثر هشاشة، وحدك أنت كنت صلبا وتسلقت أيامنا من قاع البئر، خانتك المعالم التي ظننت أنها ستبقى قيدَ انتظارك، ولكنك أيضا لم تكن بكامل الانتظار، شعركَ الذي استل لونه الأبيض من عتمة أيامك، تجاعيد حول عينيك تطوي بين ثنايا انحناءاتها كل عذابات غيابك. قطبية التعابير هنا، فوجهي الذي يبدو كصفحة بيضاء خالية من الانحناءات تخفي أيضا، قصص غيابي، وربما لعمق شدتها لم تكتب شيئا على وجهي. هل كنتُ على قدرِ الجمال الذي توقعتني به، هل أنا كما تخيلتني؟ أحدق في ملامحك، هل أشبهك حقا؟ أم أن ما قاله الناس عن شبهنا كان محض اختلاق وحسب. من يرى ما أحدثه غيابك في زواياي الداخلية، ليس غريبا أن يكون لك ولي نفس شكل الأصابع، ذات الانحناءة التي تجعل ملاصقة أي إصبعين مفتوحة بشقٍ يشيرُ إلى أقصى اليمين و اليسار.
كل ليلة كنت اخطً لك رسائل لا تقوى على التحليق خارج غرفتي، وحدها ربما مذكراتي ومذكراتك تصلح لتكون رسائل متبادلة، هل لو لم تكن مأسورا لكان اهتمامي متوجها نحو شيء آخر غير أدبِ السجون ؟ . ذات يوم تخيلتك رجلا من رجال عبد الرحمن منيف في شرق المتوسط، وبدأت احبك وأتعاطف معك عن ظهر رواية. هل علم سجانوك الفراغ الذي زرعوه داخلي وأخذ ينتشر على جلدي بخبثٍ مع فوضى الوقت والمساحة، وعبث سنوات كنت أعيشها يتيمة. كنت اكذب على نفسي، أقنعها أني سأتعرف عليك ذات يوم، عندما كنا أطفالا علمونا قصة الراعي والذئب، الذي كان يكذب على أصدقاءه ويصرخ " الذئبُ أكل خرافي" وحين يهرعوا لينقذوه، يكتشفوا خداعه، وفي المرة الثالثة حين أتى الذئب حقا، لم يستجب أحد من أصدقاءه على صراخه، لأنه كاذب. علمونا أن الكاذب لا يقف إلى جانبه احد... لم يعلمونا أن الكذب ينقلبُ حقيقة أيضا.
تنظر إلى الكنبة جانبي ربما تسعى للبحث عن إخوتي الذين يفترض لو انك عشتَ حرا لأنجبتهم. إلى بيتنا، أهلا بك أنت الغريب ونحن الغرباء عنك. في ذروة الحزن كنت دوما أجهز نفسي كيف سأستقبل لقبي الجديد بان أصبح ابنة شهيد، كيف سُأيتم مرتين، وكيف ستنسحب من حياتي مرتين دون أن تكون قد دخلتها حقا.
كنت دوما متفوقة في المدرسة ربما لسببٍ واحد فقط ليجعل المعلمة تستخدمني كمثالٍ للطلاب وهي تقول " شوفوا إنها تعيش دون أبيها وتفوقت عليكم جميعا... ما الذي ينقصكم لتصبحوا مثلها؟؟ "، ومائة علامة استفهام تطبع فوق كينونتي، هكذا من حقيقة سجنك أصبحت أنا مميزة عنهم بغيابك، من قال لها أني كنت أعيشُ دونك، كل الرسائل تحت سريري طيلة سبعة أعوام منذ أن تلاءمت أصابعي مع الكتابة، كانت لمن؟ ومن قبلها من يُحصي رسائل الصمت ؟. الخريف ودوما اكتب لك، وأمضي زاحفة نحو العمر، وأنا وأنت لم نمارس الأبوة ولا البنوة، أجمع الأوراق الصفراء من على رصيف الغائبين، لأعُد؛ خريف .. خريفان ، شجرة .. شجرتان ، عُمر ..عمران، وحدها الأشجار بصلاتها الواقفة تتعرى كل خريف لتعلن حاجتها للدفء، اليوم أشفق علي الخريف ودفئي بك.
لأول مرة يخونني ظني وتأتي الوقائع على كتفي اقل ألما، واستطيع حملك، ربما نحن لا نحمل إلا الأشياء الكبيرة، لذلك تستعصي علينا الأشياء الصغيرة أغلب الأحيان.
هل نستطيع الآن أن نمضيَ قدما نحو زمن ما، مسقطين منه ما مضى من عمرك وعمري كل على حده، لم تشاركني يوما قهوتي الصباحية، ولا سيجارة المساء، غيابك جعلني اكبر بسرعة وأتجاوز أعمار طفولة لا حاجة لي بها دونك، غيابك اوغلني في صمتي، مقننة كل الكلمات التي يسعني قولها، مخبأة كل شيء إلى وصولك، الآن أنت أمامي جسدا وصوتا كاملا، نتعرف كما يتعرف أي عاشقين إلى بعضهما، التقيا في مدينة ما خطأ، بعودتك لم اعد اذهب إلى مقرات الصليب الأحمر لأتوسل أبا.
وأنت تجلس إلى جانبي وتحدثني عن سنواتك الماضية، مذكراتك التي كتبتها مع الفأر والنملة... الفأر كان رفيق وجباتك غير الشهية. والنملة لتطرق ذاكرتك بحكمة سليمان وتُحملك على الصبر. وأنت مسلوب الإرادة هناك وصل سقفُ الأشياء البسيطة التي تتمنى فعلها هي أن تفتح وتغلق الباب وحدك. تنتظر أن تسمع بالمقابل عن حياتي، اخجل بم أجيبك، وأنا لا املكُ من عدة نضالك شيء. عم أحدثك؟ عن الأبواب التي مازالت تفتح وتغلق على مصراعيها في وجه هويتي، أو عن حياتي البسيطة على هامشِ الوقت، لذلك وقفت أتفرج على الحياة وهي تسير... ولم يحدث ما يثير الدهشة أبدا، أتجنب أن انطق بين كلمة وأخرى ليتك كنت معي، كنتُ انتظر خروجك، أتجنب أن أتقاذف كرة تشي بالخراب داخلي، كل ما انعكس عن جسدي تحت الشمس ظلٌ مقطعٌ إلى ثلاثة أجزاء، ظلٌ لا يتقن الاتجاهات الأربعة كان يبحث عن اتجاه واحد يفضي للوصول إليك.
نداء امريش
08-أيار-2021
21-نيسان-2012 | |
23-آذار-2012 | |
20-كانون الثاني-2012 | |
03-كانون الثاني-2012 | |
17-كانون الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |