رسالة إلى نجيب محفوظ:
2011-12-13
(بخصوص روايتك الجديدة عن سوريا وثورتها!)
أستاذي العزيز نجيب محفوظ:
لا أعتقد أن تزامن الذكرى المائة لمولدك مع رياح الربيع العربي أمر اعتيادي! كما لا أعتقد أن ما يجري في بلدي سوريا، من ثورة على الطغاة والطغيان، سيمرّ على وجدانك بدون أثر، فلو اطّلعت جيداً على ما يدور فيها من أحداث بلون الألم وتفاصيل برائحة الدم ستكون أول من يخلّدها في واحدة من رواياتك، فأنت ككاتب حقيقي، كما أراك، وستظل ملتزماً بقيم الحق والعدل والحرية، وليس مصفقاً للأنظمة والديكتاتوريات.
أستاذي العزيز:
لطالما اقتنعت بأن كلماتك هي التي صنعت ذاكرة المجتمع المصري أكثر مما فعلت الوثائق الرسمية، فأنت لم تكن (ملتزماً) فحسب بل مثقلاً بضمير إنساني يجعلك تنتقد الأوضاع الفاسدة منذ عهد الملكية وحتى عهد الثورة، وضميرك الإنساني ذاك سيجعلك اليوم تكتب عن شباب ئائر في سوريا يقتل كل يوم برصاص قوات رسمية لأنه ينشد الحرية! ولأن شخصياتك كانت دوماً أقرب إلى نماذج إنسانية حية منها بكاركتيرات لغوية فستكون أمٌ سورية ثكلى تبكي ابنها الشهيد، لأنه حلم بمستقبل مغاير، وتغني نائحة: "أم الشهيد تنادي.. بشار يقتل بولادي.." تيمة روائية بالغة السطوع في روايتك المزمعة عن الثورة السورية.
- "محفوظ كان يحب أن يكون موجوداً وسط كتلة من البشر، لذلك كان يفضّل الترام في تنقلاته على التاكسي"..
هذا ما كنت أسمعه مراراً ومنذ صغري، لذلك أعتقد أن مكانك اليوم سيكون بين الدبابات والمدرعات التي تحاصر المدن السورية، مراقباً جيوش الشبيحة والأمن التي تتهيأ للانقضاض على المتظاهرين تحت جسر ما، أو وراء قنّاص على سطح بناية ينتظر شاباً محمولاً على الأكتاف يهتف للحرية وإسقاط النظام، وذلك كي تستطيع البدء بكتابة روايتك الجديدة عن ثورة وطني!
ثمة من قال لو كان نجيب محفوظ حياً لكان فتح صالونه في ميدان التحرير، وأنا أشاركه قناعته بكل جوارحي، فالوقائع التاريخية عن الحرب والثورة كانت دعائم أساسية لكل ما كتبت، هذا يعني أن مقتل أكثر من 260 طفلاً سورياً خلال ثمانية أشهر من عمر الانتفاض الشعبي سيكون، على ما أفترض، دعامة مبتكرة لروايتك!. ولأنك بعد ثورة 52 انقطعت عن الكتابة خمس سنوات، وقد شعرت بأن ما كتبت من أجله قد تحقق ولم يعد لديك شيء يقوله، وهذا ما استغربته حقاً، فقد عدت حينما راحت الأمراض تغزو الثورة من خلال (الثوريين) أنفسهم، فكانت ثلاثيتك وأولاد حارتنا خلال سنوات قليلة، ولذلك أعتقد أن مرحلة جديدة تماماً ستخلق في أدبك بعد ثورة سوريا، يسطّرها عفن النظام وممارساته، ثورة لن يكون أبطالها برجوازيو مصر بل شعب سوريا بكل فئاته وشرائحه. في تلك المرحلة الجديدة لا يجبر الفقر والحاجة شخصياتك لتتشكل حسب إرادة الأقوى اقتصادياً، بل كبرياء الإنسان المغيّب وغريزة الحرية هما اللذان يجبران شخصياتك على التغيير، كما هرولة مجتمعاتنا العربية المتخلفة نحو الضوء والديمقراطية.. أنت أيها التلميذ النابغ للمدرسة الواقعية الغربية، بلزاك وستاندال وزولا، التي رصدت تطور المجتمعات الغربية البرجوازية نحو البرجوازية الكبيرة والرأسمالية، ستعمل على فضح ما يجري عندنا بأدوات الروي، أنت يا "بلزاك العرب" ستكتب عن بلدي كي لا يذهب ما يحدث أدراج النسيان، كما قلت في روايتك أولاد حارتنا: "آفة حارتنا النسيان".
وكما كتبت في روايتك الكرنك، التي كتبتها العام 1971، جملة مؤلمة: (عجبت لحال وطني، إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق، ويملك القوة والنفوذ، ويصنع الأشياء من الإبرة إلى الصاروخ، ويبشر باتجاه إنساني عظيم، لكن ما بال الإنسان فيه قد تضائل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضه، ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، وما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء).. فستكتشف مذهولاً، حينما ستأتي إلى سوريا لتكتب روايتك الجديدة، أن ما قلته آنفاً تحوّل إلى مجرد ترهات لا معنى لها، وأن ذلك الإنسان/ البعوضة تبدّل في وطني ليتحوّل من مهمّش مُهمل إلى بطل، وأن الجبن أضحى ذاكرة مقيتة ومفككة.
أستاذي العزيز نجيب محفوظ:
أخيراً، سبق وقلت في إحدى مقابلاتك مع رجاء النقاش: "من خلال قراءاتي في التاريخ، خاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً، وقد أشرت إلى ذلك في رواية "ثرثرة فوق النيل"، وهى أن الثورة يدبّرها الدهاة، وينفّذها الشجعان، ويفوز بها الجبناء".. هنا أعتقد أنك ستغيّر رأيك أيضاً، وتدخل في قناعات مغايرة، فالثورة في سوريا لم يدبّرها إلا تراكم الظلم والخوف والفقر، ونفّذها أولئك الشجعان حقاً، أما من يفوز بها فهذا ما لم يظهر بعد، ولكني، كما الكثيرين غيري، موقنة بأن الحرية والعدالة ستكون من نصيب السوريين مهما طالت الرحلة المضنية التي نقطعها.
ودام أدبك خالداً مقيماً
روزا ياسين حسن
كاتبة من سوريا
نشرت في مجلة الدوحة الثقافية، عدد ديسمبر 2011 ضمن ملف عن مئوية نجيب محفوظ.
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |