نساء خلف الكواليس: "الحضور الفاعل والمستتر للسوريات في الثورة"
2011-12-23
(لم نكن أكثر من خمس وثلاثين امرأة متّشحات بالسواد، مستّلات الشموع التي تناوشها الريح الصاخبة ذلك المساء، وذاهبات لنرفعها في ظلام ساحة البلدة في جرمانا، حداداً على أرواح شهداء الثورة السورية. كنا في منتصف الشهر الرابع من هذا العام ولكنّا اعتمدنا في شجاعتنا تلك، على الرغم من العنف المستشري في أنحاء سوريا، على عدم دخول العنف إلى ساحات جرمانا بعد، لخصوصيتها الطائفية والسياسية أولاً ولأن المظاهرات لم تبدأ بشكل حقيقي فيها. وعلى الرغم من وقوفنا صامتات مداريات شموعنا إلا أن مجرد وقوفنا هكذا كان كافياً لاستفزاز مجموعات المؤيدين والشبيحة الذين تحلّقوا حولنا بالعشرات خلال دقائق. وعلى الرغم من أننا اعتمدنا على عرف اجتماعي يقول إن من غير الممكن للرجال أن يهجموا على النساء وإلا انتظرتهم الفضيحة، إلا أن العرف تم كسره بسهولة حين استعانوا بامرأة خلقت أمامنا خلال ثوان متسلحة بصورة الرئيس لتهجم علينا وهجم من ورائها العشرات.
تم تفريق الاعتصام بالتأكيد، ولم يستمر لأكثر من عشر دقائق فقد كان لخوفنا ورهبة الموضوع وعدم الخبرة دوراً أساسياً، وربما لأننا نساء محمّلات بإرث الخوف من العنف الذي راح ينتشر حولنا كالنار في قمح ناشف).
هذا مثال عن العديد من النشاطات النسائية المماثلة التي ابتدعتها النساء السوريات في خضم الثورة. ولكن الكثير مما قيل همساً عن عدم حضور النساء الفاعل والواضح في الثورة السورية صار يطرح على الملأ، وذلك من باب غمز السلطة إلى أنها ثورة رعاع أو سلفيين، أو أنها ثورة غير حضارية وما إلى ذلك من الاتهامات التي وجهها الإعلام الرسمي والمتواطئون معه. وكان هذا أيضاً مأخذ الكثير من المتخوفين من الثورة ومن الانفلات والفوضى الذي من الممكن أن تخلفه في حال سقوط النظام، حسبما كانوا يروّجون. ولم تشفع المظاهرة الرائدة في 16 آذار التي قامت أمام باب وزارة الداخلية، حتى حين تكشّف أن العنف الذي مورس على النساء المشاركات بفاعلية فيها يشابه أو يفوق العنف الممارس على رفاقهن من الرجال، واعتقل يومذاك عشر نساء منهن ناهد بدوية ودانة الجوابرة وسهير الأتاسي وسيرين الخوري وهيرفين الأوسي وصبيتين من عائلة اللبواني وغيرهن.
لكن العنف الشرس الذي راح النظام يجابه به المتظاهرين والناشطين والمعارضين كان يتوضّح منذ اللحظة الأولى في مظاهرات درعا البلد، حين تم إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في 18 آذار، ولم يتوقف الحل الأمني عند هذا الحد بل رُمي المتظاهرون السلميون والعزل في مناطق كثيرة بالرصاص الحي والمتفجر، وضربوا حتى الموت بالهراوات والصواعق الكهربائية، وراحت المدن والقرى تحاصر، وتقصف البيوت بالدبابات، وقوافل الشهداء لا تكاد تنتهي، كل ذلك جعل من خروج النساء أصعب فأصعب خصوصاً وأن الخارج في مظاهرة أضحى أقرب إلى مشروع شهيد. أما الاعتقالات التي طالت النساء في القرى والحارات التي تمت مداهمتها فقد زادت الأمر سوءاً وخطورة، ذلك أن ما يمكن أن يقترفه عناصر الأمن في فروع الأمن المتعددة، والتي تعتقل الجميع وتنكل بهم، كان أكبر مما يمكن أن تحتمله أولئك النسوة، بحكم طبيعتهن الأنثوية غير العنيفة، وأكبر مما قد يحتمله ذويهم أيضاً. وعلى الرغم من أن الزمن القادم سيكشف الكثير من جرائم الاغتصاب التي اقترفت بحق النساء والأطفال في الثورة السورية، إلا أن ما بات مثبتاً هو أن العنف الممارس ضدهن إن بالضرب أو بالإهانات اللفظية أو السلوكية (من مثل حالات نزع الحجاب عن المحجبات والتهديد والوعيد الذي يرهب غير المحجبات) فقد كان واضحاً أن كل ذلك لم يشفع للنساء عدم تواجدهن الواسع في التظاهرات.
وعلى الرغم من أن الوقت طال قليلاً حتى تدخل النساء إلى الثورة من أوسع أبوابها، إلا أنها كانت تشارك منذ اللحظة الأولى من خلف الستار الإعلامي بأكثر الأمور فاعلية وتأثيراً، من قبيل إسعاف الجرحى وإحياء المشافي الميدانية، التي لم تكن في مناطق عديدة لولا نساءها البطلات. كما كان التشبيك ونقل المعلومات وإيصال المساعدات وتحفيز الشباب الثائر والتوثيق وما إلى ذلك ممارسات أساسية قامت بها نساء سوريا في الأشهر الماضية. ولم يكن هذا، ربما، إلا امتداداً لتاريخ النساء الطويل والحافل في سوريا والمنطقة عموماً، ولن تتبدل بنية المجتمعات بهذه السهولة. ومن ثم كان الحل، لتوجيه رسالة إعلامية أولاً إلى الخارج والداخل، وهو خروج مظاهرات نسائية صرفة وليس الخروج مع الرجال، معتمدات في ذلك، كالعادة، على أعراف اجتماعية وإنسانية قديمة تقضي بعدم إيذاء النساء علناً في الشوارع أو على الأقل عدم قتلهن، وليس كما صار يروّج ضدهن من أنها حالات فصل جنساني تدخل باب التعصب والانغلاق. فخرجت مظاهرة نسائية صامتة في سوق الصالحية مثلاً في آخر نيسان، اشتركت فيها حوالي خمسين امرأة اعتقل منهن إحدى عشرة امرأة، ثم خرجت مظاهرة أخرى في ساحة عرنوس اعتقل منهن أيضاً، كما كان ريف دمشق يُخرج مظاهرات نسائية متتالية في دوما وداريا والمعضمية وغيرها، كما خرجت مظاهرات نسائية في العديد من المدن السورية، وكانت معظم المشاركات في هذه التظاهرات، خصوصاً في دمشق، يُضربن ويُهن في الشوارع وعلى مرأى ومسمع الجميع. وعلى الرغم من ذلك استخدم الإعلام الرسمي هذه المظاهرات ضد الثورة بأكثر من طريقة، أهمها أن نساء المظاهرات كن في معظمهن منقبات، ومن المعروف أن النساء تتنقبن في المظاهرات لسبب وجيه وهو عدم معرفة وجوههن كي لا يتم مداهمة بيوتهن أو اعتقالهن فيما بعد، كما حدث ويحدث مع الكثيرين من الناشطين في عموم سوريا، فالنقاب لم يكن منتشراً في سوريا قبلاً. ولأن الشعوب الحية لا يمكن أن تعدم وسيلة فقد صارت النساء في الكثير من المظاهرات يتنقبن بالعلم السوري، ومن ثم تمّ اختراع طريقة جديدة لقول "لا" وهي الاعتصامات النسائية المنزلية: مجموعة من النساء يجتمعن في بيت، يقلن ما يردن قوله ويحتججن بطريقتهن الخاصة، يصوّرن الاعتصام ثم ينشرنه. وقد صارت الاعتصامات المنزلية طريقة رائجة في فترة ماضية وآمنة أيضاً. وبالتزامن مع اختراع أشكال مختلفة للاحتجاج فقد راحت التجمعات والتنسيقيات النسائية تظهر تباعاً وتوالياً وتزداد فعاليتها مع الوقت.
في النهاية يبدو واضحاً أن أمد الثورة السورية طويل، وأنه مازال على السوريين والسوريات دفع المزيد من الأثمان في طريق حريتهم، كما يبدو واضحاً أن المرأة السورية راحت تحتل مكانها (المعهود في وقت السلم) اليوم، إن كان على مستوى القيادة الشعبية والتنسيق وغيرها من الأشكال المبتكرة أو على مستوى الحراك في الشارع، محاولة بذلك صبغ هذه الثورة بخصائصها كأنثى، وهي السلمية وقبول الآخر والتعددية والخصب والحب، الحب ذاك الذي راح يعمّ قلوب السوريين تجاه وطنهم حينما أحسوا بأنه من الممكن أن يضحي ملكهم بحق وليس كما اعتادوه سابقاً: ملكاً للآخرين.
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |