خالد العظم أحد ثلاثة رجال عظام صنعوا مجد سورية / ج 1
خاص ألف
2012-03-05
الرجل (تمهيد)
كان الوقت قد تأخر قليلا في مساء في آخر شتاء وبداية ربيع 1903، عندما وصلت إلى جامع خالد بن الوليد في حمص سيدة دمشقية من أسرة عريقة، ودخلت مباشرة على الصحابي الجليل مستجيرة به وطالبة منه الشفاعة عند خالقها ليرزقها غلاما، بعد أن مات لها غلامان، على امتداد خمسة وعشرين عاما. وقد وعدت السيدة الصحابي بأن تسمي الغلام باسمه إن تحقق رجاؤها. ولا شك أنها بالغت في هز الشبك المحيط بضريح الصحابي كثيرا، لدرجة أن صاحب الضريح استجاب لها، واستجاب الله لهما، فما أن قفلت السيدة عائدة إلى بيتها في حي ساروجة بدمشق، واستقرت فيه مع زوجها بضعة أيام حتى شعرت بأعراض الحمل، وفي 6 تشرين الثاني، ولدت السيدة وكان الوليد غلاما. على أن ذلك كان منة ليس عليها فحسب، وإنما على السوريين جميعا. كانت السيدة هي حرم محمد فوزي باشا العظم، أما الوليد فكان خالد العظم.
لو طلب إلي أن ألخص تاريخ سورية في ثلاثة رجال لاخترت هاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم. ولو طلب إلي اختصاره في رجل لترددت كثيرا في الاختيار، ولرسوت أخيرا على خالد العظم، مفضلا إياه على صاحبيه، لأن الأولين كانا مناضلين وطنيين عظيمين ساهما في استقلال البلاد سياسيا. أما العظم فكان الرجل الذي أسهم في استقلال سورية الاقتصادي وفي تنميتها وتقدمها، و،أهم من ذلك ربما، إعطائها هويته الوطنية الحقيقية.
كان خالد العظم مسكونا بسورية. وكان رجلا حاد الذهن، وفي أحيان كان عرافة، بيد أن ذكاءه كان عائدا إلى مستوى تفكيره، وهو ما كان شاتوبريان يدعوه بذكاء عظمة الروح. وهو مسكون بسورية كما كان شارل ديغول مسكونا بفرنسا وماو بالصين ونهرو بالهند. بيد أنه يختلف عن الجميع، بأنه لم يطبع البلد باسمه، كما فعل الآخرون.
وذلك ربما عائد إلى طبيعته. فهو، على عكس القادة الكبار، رجل انطوائي، خجول، شديد الحساسية، يميل إلى العزلة، وربما كان الأجدر به أن يكون شاعرا أو فيلسوفا أكثر منه سياسيا. وهو يذكر بتولستوي أكثر ما يذكر بلينين، وبأندريه مالرو أكثر من الجنرال ديغول، وبمحمد إقبال أكثر من محمد علي جناح.
حين بلغ سن التعليم، كان يخاف الذهاب إلى مدرسته وحيدا، فكان على المربية ليس أن تصحبه فقط، ولكن أن تجلس بجواره في الصف. أما المدرسة لابتدائية فلم يستطع تحملها لأنه وجد نفسه وحيدا بين أولاد لا يعرفهم، فانتابه وجل سببه على الأرجح عدم اعتياده مخالطة الناس. ذلك أن أباه كان يمنع عليه مخالطة من كان في سنه، ومنعه من ارتياد المقاهي والملاهي ودور السينما، فكان أن أمضى معظم وقته في بيته معزولا, برفقة معلم خاص، كان يغافله ويمضي للعب أو لتناول الشوكولاتة. ثم أحضر والده له مربية إفرنسية وأخرى سويسرية علمتاه الفرنسية والعلوم وآداب المجتمع.
وما أن بلغ السادسة عشرة حتى عرض عليه أبوه الزواج، فتزوج أول مرة من قريبة له، تكبره سنا. وحضر زفافه (التلبيسة) وحضر الزفاف الأمير فيصل والأمير زيد والحاكم العسكري رضا باشا الركابي وأركان الحكم آنذاك. وحين دخلت العروس بيته، وحاولت لصق العجينة بالجدار، وقعت العجينة على الأرض، ثم انقطع السلك الذي يحمل المصباح الكهربائي الكبير الذي كان ينير الحفلة، فتشائم الخلق. وربما كان تشاؤمهم محقا، فلم يمض شهران على الزفاف حتى مات والد العريس. أما العروس فماتت قبل أقل من سنة. وترك الفتى الخجول المدلل ليكمل طريقه الحياة وحيدا. وكان لذلك أثر سيئ على تركيبته النفسية حيث أمسى منكمشا على نفسه، شاكا – ونحن نستعير هنا عباراته بالحرف "في الجميع، وفي كل ما يقال، عديم الاعتماد على أحد، سيئ الظن بأقرب الناس وأخلصهم." وبينما كان يرى إلى البشر كيف يكونون صداقات بيسر وسهولة، كان هو يبقي علاقاته بمن يتعرف عليهم سطحية في غالب الأمر، فغلب عليه وصفه بالتكبر والعجرفة. في حين أن الأمر لم يكن أكثر من طبع خجول انعكس في كونه رجلا "غير أليف،" لا يحب رفع الكلفة بينه وبين الآخرين. وكان لا يحبذ أن يكون محط الأنظار ويستحي من احتلال مكان الصدارة في مجلس. وكثيرا ما كان يذهب إلى صالة السينما لمشاهدة فيلم، فيدخل بعد أن تطفأ الأنوار، لكي لا يميزه أحد.
ومرجع ذلك كله هو أبوه محمد فوزي باشا العظم، الذي كان واحدا من أهم وجهاء دمشق وبلاد الشام. فهو كان نائبا في مجلس المبعوثان العثماني لأكثر من مرة، كما كان وزيرا في حكومة الصدر الأعظم مختار باشا. وكان له الفضل في الضغط السياسي الذي دفع بالحكومة المركزية إلى طرد جمال باشا السفاح من ولاية الشام، وجر مياه عين الفيجة بقساطل الفولاذ إلى منازل دمشق. وبعد انسحاب العثمانيين، وقيام الحكم الوطني، نافس قائمة (رجال الغيب) بقيادة شكري القوتلي وجميل مردم التي كان يؤيدها الأمير فيصل والقائد رضا الركابي بقائمة وطنية وفاز في الانتخابات، ثم نافس الرئيس هاشم الأتاسي، زعيم سورية الأول، على رئاسة المؤتمر الوطني السوري، وفاز برئاسة المؤتمر حتى وفاته.
هذه الشخصية الكبيرة تركت ظلالها على الصبي الصغير والفتى الذي تزوج في السادسة عشرة وفقد أباه وزوجته في سنة واحدة. ولعل تربيته، صبيا، لعبت دورا في تعقيد شخصيته. فهو مفكر اقتصادي وزعيم سياسي، بيد أنه طالما افتقر إلى الحزم والشجاعة، ولم يعرف التهور في حياته، وغالبا ما فضل الحلول الدبلوماسية على الحلول الراديكالية. ونستطيع أن نقول إنه كان يفتقر إلى الشجاعة الشخصية والإقدام. وقعت أخته مرة في بحيرة قرب بيته في تركيا وكان يلعب معها ومع ابن خالة له. وعندما رآها تغوص في الماء ولم يعد يظهر لها أثر، تولاه الخوف فقفز هاربا إلى البيت. وكان من الممكن أن يفقها إلى الأبد لولا أن ابن خالته تملك جأشه، وظل واقفا قرب البحيرة حتى رآها تطفو فحاول إخراجها بخشبة ففشل، ثم ناداه ليساعده فعاد خالد من البيت، وتعاون الولدان على إنقاذ الصبية. غير أنه لم يقل الحقيقة لأخته وظل يمننها بأنه هو الذي أنقذ حياتها. و عندما اندلعت ثورة 1925، هرب إلى مصر، حيث أقام هناك أربعة أشهر، حتى خفت حدة الثورة، فرجع إلى دمشق. وعندما استلم العسكر مقادير الأمور في البلاد منذ الثلاثين من آذار سنة 1949، لم يواجههم بشكل مباشر، وإن عمل كل جهد مستطاع ليحد من تأثيرهم السلبي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
على أنه كان شديد الذكاء والحساسية. وكان يتمتع بحس قيادي مرهف، تميز مبكرا مثلا بإصدار جريدة كان يحررها مع ثلاثة من صحبه في المدرسة الابتدائية، ويوزعها على أربعة أشخاص هم في الواقع آباء أعضاء هيئة التحرير. ولم يكتف خالد الصغير بكتابة القصص على الورقة مباشرة، بل كان يطبعها على الجيلاتين، بقياس 22 X 30 سم. وهو يصف ذلك فيقول:"وكنا نتقاضى بدل الاشتراك (حسب) مقدرة المشترك المالية، ونعنى بالتحرير والطبع ونقضي أوقات فراغنا في هذه المهنة، حتى يأتي يوم الإصدار الأسبوعي." وهكذا لم يقض خالد وقته يلعب كرة الشراب في الشارع، بل قاد فريقا من ثلاثة صحاب لإصدار مجلة.
من الاقتصاد إلى السياسة:
عاش خالد العظم طفولته وصباه وشبابه في دمشق وبيروت واستنبول. وحين عاد إلى دمشق أخيرا بعد غياب دام سنتين منذ اندلاع ثورة 1925، قرر أن يبدأ حياته في الحقل الاقتصادي ولكنه فشل في تجنب الحقل العام الذي كان نوعا من الإرث الذي ورثه عن مركز والده الرفيع.
وفي 1927، ارتبط اسمه بحدثين مهمين: الأول كان مساهم في تأسيس النادي السوري-الفرنسي، سوية مع رئيس الجمهورية المقبل محمد علي العابد وأمين العاصمة واثق العظم. أما الحدث الثاني فكان تأسيس غرفة للزراعة. فلقد أدى المسعى الذي قام به العظم الشاب لدى رئيس الحكومة آنذاك الداماد أحمد نامي بك للحصول على موافقته على تأسيس غرفة زراعية، تعنى بشؤون المزارعين. وشغل العظم منصب أمين السر فيها، وكان العمود الرئيسي في أداء أعمالها، وخاصة عقدها مؤتمرا زراعيا هو الأول في تاريخ سورية.
إلى ذلك، وعندما كان عضوا في مجلس بلدية دمشق، كان أحد الساعين وراء بناء مدينة حديثة الطراز، نظيفة ومتألقة. وكان المجلس البلدي هو الذي استدعى المهندس التخطيطي الشهير دانجه ومعه المهندس إيكوشار، اللذين ارتبط اسماهما بجمال مدينة دمشق، قبل الفوضى المعمارية التي اجتاحت المدين بعد الستينات. فهما اللذان وضعا المخطط العام للمدينة، وبفضل مخطط دانجه أصبحت دمشق المدينة الجميلة التي ظلت على جمالها حتى نهاية الستينات، تزهو بأحيائها الحديثة، وبحدائقها العامة، وبحسن تنسيق شوارعها، والأشجار المغروسة على جوانبها. على أن مأثرت في بلدية دمشق هي إصراره على الوقوف في وجه الحاكم الإداري وائق المؤيد الذي كان يريد بالاتفاق مع الإفرنسيين تزوير لانتخابات النيابية عام 1032 ذلك أن الانتخابات كانت تجرى بإشراف المجلس البلدي وقتذاك. وهو يقول في ذلك: "كنت في الواقع أشعربأنني لا اقوم بأي عمل لخدمة بلدي، ولا أشارك المجاهدين والعالمين في سبيله، فأحببت أن أدخل المعترك، ووجدت تلك المناسبة فرصة قيمة." تلك إذن أولى الصدامات بين العظم والسلطات الفرنسية. وهي على أية حال لم تكن كثيرة.
غير أنه لم يترك نشاطه الاقتصادي، إذ أنه كان مساهما كبيرا في شركة لصنع الإسمنت، وكان مديرها العام لفترة من الزمن. وهو لم يستثمر أمواله في مشاريع تدر عليه ربحا سريعا، وإنما ساهمدائما في تأسيس منشئات كانت بمعايير ذاك الزمان تعتبر مؤسسات عملاقة بالنسبة للقطاع الخاص.
واستفاد من إدارته لشركة الإسمنت خبرة في الإدارة ووعيا اقتصاديا استثمره فيما بعد في إدارة الدولة. وزد على ذلك أنه سافر مرارا إلى أوروبا لشراء آلات والبحث في عقود جديدية، مما أكسبه أيضا وعيا في العالم لذي حوله، ولم تكتف حدود ثقافته بحدود الثقافة العثمانية التي تلقاها في طفولته ومطلع صباه. ولقد استهلك العمل الخاص من وقته بضعا من سنوات الثلاثينات التي كانت موارة بالعمل الوطني، ففيها تم انتخاب مجلس نواب 1932، وفيها حل، وفيها وصلت النازية إلى الحكم في ألمانيا ووصلت حكومة اشتراكية إلى الحكم في فرنسا، ووقعت فرنسا معاهدة الاستقلال مع الحكومة السورية ثن نقضتها. وإنه ليكرس جل وقته في توسيع معمل الإسمنت، عندما زاره السيد نجيب الأرمنازي، مدير مكتب رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، وعرض عليه أن يكون وزيرا في حكومة جديدة سيشكلها السيد نصوح البخاري. فأثنى العظم على اختيار البخاري للمنصب، ولكنه فوجىء بعرض حقيبة وزارية إليه، وقال للأرمنازي إنه منشغل الآن بتوسيع معمل الإسمنت وليس لديه وقت للعمل السياسي. بيد أن الرئيس الأتاسي أصر على استيزاره، وزاره كذلك الرئيس الملف نصوح البخاري، ليقنع بالاشتراك بحكومة وصفها العظم فيما بعد بانزاهة والحزم. وهكذا صار العظم لأول مرة وزيرا بينما كان لا يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر. على أن وزارته لم تتجاوز بضعة أسابيع، إذ وصلت حكومة البخاري إلى طريق مسدود مع المفوض السامي الفرنسي الذي كان يريد النكوص عن معاهدة 1936، ورفض البخاري إضافة أي ملحق للمعاهدة يغير من مضمونهاالذي يصفه هو بأنه لم يكن "شيئا يبكى عليه." فاستقالت الحكومة وفشل الأتاسي بتشكيل حكومة جديدية واستحصل المفوض السامي على صلاحيات مطلقة لإدارة سورية، وأعلن فك ارتباط لواء اسكندرونة وجبل الدروز عن الحكومة السورية، فاستقال الأتاسي، وأوقفت الحياة لانيابية وشكلت حكومة مديرين لتسيير أمور البلاد.
في هذه الظروف الحرجة التي كانت تزداد سوءا يوما بعد يوم، عرض على خالد العظم أن يشكل حكومة جديدة. هو موقف لا يحسد عليه. فمن جانب سيكون تشكيل حكومة مدنية إنهاء لحكم الفرنسيين المباشر وحكومة المديرين وانتهاء الحكم غلى أمثال تاج الدين الحسيني أو بهيج الخطيب؛ ومن جانب آخر فإن التاريخ لن ينسى أنه قبل برئاسة الحكومة دون إعادة الحياة الدستورية إلى البلاد. هل تحسم المسألة بزيارة للرئيس المستقيل؟ يركب خالد العظم سيارته ويتجه إلى حمص ويناقشه في الأمر، حتى يحصل على مباركته. بيد أن القوتلي وأعضاء التلة الوطنية في دمشق يعملون لإفشال مشروعه تشكيل حكمة وطنية. ورغم أن العظم لم يكن يحب المواجهة ويرجح المسالمة في كل أمر حتى ولو أدى هذا الأمر إلى خسارته، فإنه ههنا يقرر العزم على المضي في طريقه، ومواجهة الجاعة التي يوقول عنها إنها وقفت في وجه ترشيحه للنيابة سنة 36، وابعدته عن كل شأن عام، خوفا من منافسته لها وتفوقه عليها. وشجعه على موقفه دعم الرئيس الأتاسي والسيد فارس الخوري، فشكل أول حكومة برئاسته، وضمت محسن البرازي وحنين صحناوي ونسيب البري وصفوت قطرأغاسي.
وبذلك انضم خالد إلى القافلة العريقة من حكام سورية من آل العظم . وستكون تلك أول حكومة من خمس حكومات يشكلها طوال حياته السياسية. والغريب أن رياسته للوزراة كانت غالبا ما تنتهي بكارثة أو ثورة أو حرب.ففي 1941 قامت الحرب بين الديغوليين والفيشيين، وانتهت وزارته الثانية بانقلاب حسني الزعيم ودخوله السجن، وآلت وزارته الرابعة إلى استيلاء الشيشكلي على مقاليد الأمور، أما وزارته الأخيرة فانتهت بانقلاب 8 آذار 1963.
خلال وزارته الأولى، استطاع العظم على امتداد 165 يوما أن يحقق الكثير للسوريين، إن لم يكن سياسيا فعلى صعيد الحياة المعيشية والاقتصادية. وكان أهم ما قامت به حكومته هو حق تسيير أمور الإعاشة التي كانت حكرا على الفرنسيين وتخفيض سعر الطحين، باستصدار قرار يجيز للحكومة إدارة مطاحن الحبوب الخاصة. وأطلق سراح جميع المعتقلين السياسيين. بيد أن مأثرته الكبرى كانت في تعامله مع واحد من أصعب الأوضاع التي مرت بها سورية قبل الاستقلال: اجتياح القوات البريطانية والديغولية لسورية. وتبرز هنا حكمة هذا الشاب الذي لم يصل إلى الأربعين بعد في إدارة الأوضاع محاولا أن يجنب دمشق أي خسارة محتملةز واستطاع أن ينتزع من المفوض السامي صلاحيات استثنائية استخدمها في تجنيب دمشق قصفا بريطانيا كان يمكن أن يكون مدمرا. كان يمكن لأي غر في إدارة الحكم، كما كان حال العظم، أن يقع في الوهن والتشوش ويؤثر السلامة أو يرتجل قرارات كارثية مستفيدا من السطةالمطلقة التي منحها في الفترة الأخيرة. ولكنه تجاوز المحن بأقل الخسائر، وتوج نجاحه بجلسة حوار طويلة مع الجنرال المنتصر شارل ديغول، طالبه فيها بإعادة الحياة الدستورية وإعادة الأتاسي إلى الحكم. وبهت ديغول بهذا الشاب الذي يطلب الحكم لغيره ولا يطلب شيئا لنفسه.
وحين أحس بأنه أدى دوره، تنحى عن رئاسة الوزارة. وأراد أيضا أن ينسحب من الشأن العام، لينال قسطا من الراحة، فلم يسجل اسمه لانتخابات 1943، لولا إلحاح السيد صبري العسلي عليه في الساعة الأخيرة قبل إغلاق الباب أمام الترشيح. وانضم غلى قائمة الرئيس شكري القوتلي فقط لتبدأ بين الرجلين علاقة فذة من الاختلاف الدائم والاحترام المتبادل. لم يكن القوتلي يروق للعظم. ورغم أن والده طلب إليه أن يعزز صداقته معه، عندما كان فتى صغيرا، ورغم احترامه الكبير لأبيه، فإنه لم يستطع أن يستلطف الرجل. ولعل العظم كان محقا، فإن شخصية قيادية طاغية مثل القوتلي، جاءت من قلب الميدان، الحي الدمشقي الوطني العريق ولكن الأقرب إلى الهوج والحدة ما كان لتأتلف مع شاب مثقف مرهف الحس، غربي الثقافة، قادم من حي ساروجة، مثل خالد العظم. ومع ذلك فإن القوتلي كان يحترم ذكاء العظم وثقافته، بينما كان العظم يكبر فيه روحه الكفاحية العالية، وينسب إليه بدون تردد فضل تحقيق جلاء القوات الأجنبية وتحقيق الاستقلال الناجز لذي لا تحده معاهدة أو محالفة مع أية دولة أجنبية.
والحق أن العظم كان موضوعيا إزاء خصومه. فلطالما أبدى خلافه مع طريقةالكتلة الوطنية في السياسة وإدارة الحكم. ومع ذلك، فقد كان له رأي إيجابي بفارس الخوري وسعد الله الجابري وجميل مردم وغيره، وإن كان لا يجاملهم في مواطن ضعفهم. فالقوتلي فردي، يستأثر برأيه ويريد فرضه على الجميع؛ والخوري كان رجل دولة خبيرا ولكنه لا يملك جأشه في الأزمات، أما الجابري فشجاع لا يهاب الإقدام على شيئ فيه صلاح البلد. وأما صبري العسلي فقد وصفه لالوطنية والحزم والوفاء وسعةالتفكير.
مسيرة العظم والقوتلي أسفرت دائما عن منصب وزاري كان العظم يشغله في معظم حكومات الرئيس القوتلي. فشغل حقيبة المالية والاقتصاد والعدلية والإعاشة والخارجية والدفاع. وكان في كل واحدة يقدم عملا يقرن باسمه: ففي المالية، قام بسياسة إصلاح النقد وفصل المؤسسات المالية السورية عن الفرنسية؛ وفي وزارةالإعاشة، أصدر قانونا يضرب على يد المتلاعبين بالمواد الغذئية ويرفعون الأسعار وأنشأ مستودعات ضخكة لتخزين الحبوب؛ وفي وزارة العدلية، الغى المحاكم المختلطة التي كانتتعطي للأجانب وضعا خاصا عند ارتكاب جرم على الأراضي السورية.
ولست ادري إذا ما كان من حسن حظه أنه كان وزيرا مفوضا لسوريا في باريس أثناء اندلاع حرب فلسطين، على أنه من حسن حظ السوريينأنه تراس الحكومة بعد الهزيمة، فسار بالبلد بهدوء وروية ليبتعد بها عن الآثار السلبية التي خلفتها هزيمة العرب وخسارة فلسطين.
.
08-أيار-2021
17-نيسان-2021 | |
10-نيسان-2021 | |
13-آذار-2021 | |
27-شباط-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |