Alef Logo
يوميات
              

القتيل في غزة .. نصر الشاعر العسكري

المتوكل طه

2007-07-10

غزة المسيّجة، حلبةُ المصارعة التي أعدّها المحيطون.
وغزةُ ورشةُ الشيطانالتي دمّرت النموذج، وشرّعت ذرائع التغريب، ذلك أنّ ما حدث كان في تاريخنا وفي غيرأرض عربية، ما يعني أن النصّ سيتعرّض للأذى والحرق، وأنّ ما كان هو صناعة فلسطينية بامتياز تستحق الإدانة، وليس منُتجاً إقليمياً أنضجه الحصار وعقود الاحتلال والمداخلات والمصالح!
وأن التمرّد الذي تفوّق على مشرّعيه هو نفسه دليل تقمصّ القاتل الهشّ الضحيّة للقاتل الأصل، ما يعني، أيضاً، أن فلسطين التي كل شيء فيها شهيد، قد دخلت إلى "الكوما" لأنّ مَنْ ماتوا لها كانوا شهداء، أما مَنْ ماتوا في غزة هم قتلى .. وبالمجان.
وغزةُ صحنُ الجمر الريّان، هي قصيدتنا الرديئة، الآن، والتي لا تستقيم معها أية نظرية، سوى ما تناسل من زجاج تكسّر في الأصابع والشفاه.
والقتيلُ في غزة هي غزةُ وأخواتها، ولا أعني القدس أو جنين، بقدر ما هي العواصم التي أصبح
وعيها الكوميدي أكثر تراجيدية لمعرفتها بالكارثة، وعجزها عن الحراك أو الكلام .
والقتيلُ في غزة هو الوحي والموج والصغار، والكوشان الذي احترق بحليب آمرأة كفرت بالنار المُرابية التي أخذت كل شيء.
* * *
وكبرت "ماريانة" ابنة القتيل التي أعدّت له القهوة، وكان استلقى على سرير الرطوبة، ولزوجة التوت المهروس. وكبرت "ماريانة" وهي تسمع شخيره المُرهق بعد سنوات الصدمة، التي أعادته اليها دبابةُ الورق البيضاء، في زمن السلام الجنائزي، وفي المدن التي قطعوا رأسها، وتركوها لهم كابيةً ممزّعة .. ومنقوصة. ولم تر "ماريانة" ذلك الفردوس، الذي لم يعد حتى على ورق المناهج العربية. وكبر الموتُ في غزة !
وغزةُ البحر والمواقد الماسية، صار برتقالها مالحاً صرطماً بفعل بُخارها الحامض الذي يؤوّل النور إلى انحرافٍ وعنف ودماء وخطر ! وغزةُ السمك البسيط والأرغول المنتبه لكسل الخطوات على قلبي في ليل البحر والرمل، تحاول أن تستيقظ على صرخة "ماريانة" المشروخة البريئة المُدّماة، فلا أجد كلمات تليق بإلوهية هذا الُيتْم المفاجئ الذابح، ولعلي لن أجد الكلمات القادرة على مناسبة هذا الُنبْل الذي لن تلمع فراشاته للشمس والغد والأعراس السوداء!
ونصر الشاعر العسكري الذي قطع المارش من بيروت إلى البقاع فإلى غزة، دون أن يكذب أو ينكر على أصحاب الأوسمة حقهم في الافتراء كرمى لفلسطين وللعودة المجزوءة .. اعتقد، بصحبة هذا الموج والناس والعشاء الليلي المتقّشف، بأنه قادر على أن يقيم دولته بقبّتها السماوية وحريتّها الشهيدة الجليلة! لكنهم، ومنذ اتساع هوامش الخطايا، والنزول إلى الواقعية المطلوبة من الأسياد، قد دفعوه إلى نهايته المعدنية القاتلة.
لقد خانوه منذ أن أتوا به إلى السواحل المسّيجة بالمِْجَهرْ العسكري الصاحي والناهض على طوطم الرؤوس النووية. وخانوه منذ أن أوهموه بأن التمايز والفساد عبقرية التتويج لكل السنوات التي قال فيها الشعراء أجمل مراثيهم ونفاقهم اللامع. وخانوه عندما تطامنوا كلهم على حقيبة "ماريانة" وجعلوا ساحل أرضنا بضع خطوات محرّمة على نوافذ الصفيح والنداوة التي اجترحها ناي اللاجئ الحزين.
وخانوه حين جعلوا البندقية المُعرّفة بالبصمة الاحتلالية وَهْماً يتزنّر به نصر الشاعر العسكري، ويحلم بأجنحة تتجرّأ على أن تصل إلى مئذنة يافا أو قرميد حيفا. وخانوه عندما استدرجوا المُعاكس ليتماهى معهم في زفّة الزنا والحرام. وخانوه عندما حشروا البدائي في زاوية التحدي المنغلقة، فكشف عن سِوَاكِهِ الذي يشرّ دماً ويؤكد استحالة استيعابه ديمقراطياً أو قانونياً في مسيرة متعثّرة، تكبو بردود أفعالها الموسمية والهوجاء والمتعاكسة، حتى وصل الجُرح إلى شريان القلب الأحمر، فشَخَب دون حدّ كأنه الجنون أو الزجاج المشروخ الوحشي.
ومات نصر الشاعر العسكري وفي جيبه عشرون شاقلاً، وفي صوته دماءُ القتلى، وفي قلبه صورةُ "ماريانة" تحمل صينية القهوة وتخطو بجرأة الموسيقى إلى أبيها، الذي لن تراه بسبب تلك المكارثية الجديدة، التي تطلق النار على ألسنة التوحيد، وسبّابة الشهادة المؤمنة، ووجه الفدائي الشجاع الذي خانته عائلته الناهبة المنهوبة، بجريرة المتجاوز المتعسّف، ولارتباط القاتل بمفارق إقليمية وأَجِْندات الأغيار.
ومات نصر في ليل غزة الرهيب الموحش، الذي تجوسه خطوات الأقنعة الُمبهمة، والواضحة بسلاحها الأعمى، الذي يقودها على بساط الابتزاز الرانخ بالفجائع، والمؤدي إلى غرفة الإعدام والعدمية.
* * *
كان نصر الشاعر بمعيّة الذئب، في نهار الطراوة القمرية، في رفح ودير البلح يشعل كأس القصيدة مع ندماء الليل الرائعين، الشعراء خالد جمعة ومحمد حسيب القاضي وباسم النبريص، وحمدان؛ الذي أنعمى فجأة من ضآلة الخبز، والفرح السريع، فاتهموه أنه فَقَد بصَرَه الحديد بسبب الفودكا والكافيار، الذي كان يصل إلى "العميد" علانية، ليغطّي على بصيرة الندم التي رأت الجريمة، وصمتت كالشيطان الأخرس.. كان العسكري نصر والعسكري الذيب الصديق عايد عمرو يدحرجان النجوم في حرج الشاطئ، ويأتي صوتهما إلى رام الله مبتهجاً يفيض بالرنين وحّناء السامر الموشوم على الكلمات، التي تتقافز عبر الهاتف، كالأرانب الصغيرة، بين يدي المبدع الصديق زياد خدّاش، الذي يتصّل بي مطمئناً قلبي على الذئاب.
لكن الوباء المدنّس الذي شوّه آخر ما تبقى لنا من ملامح ومعجزات، قد قضى على الأرانب البيضاء ، وأحرق ضفائر "ماريانة".
إن هذا النتوء الأهوج المأزوم الذي عرّى بندقية نصر، وكسر المحرّمات بعنف مرعب، هو الذي يطبع ديننا الجميل بأقسى وأسوأ الضلالات والتلوّث المُهلك، ليلتقي مع ما يريده النقيض، الذي ضحك حتى الشماته، على مَنْ أراحوه من دمهم، وغسلوا يديه القذرتين من دم الأجنّة والطيور والشجر المخلوع عن عرشه الأبدي.
وعلى الضفة الأخرى شرعية عاجزة عن استيعاب الزلزال، فذهبت نحو اللغة والانتقاء والقيود وإغلاق الباب على العويل، والإنكسار أمام تسونامي الإشتراطات وحاملة النفط والطائرات.
ويا نصر ! ويا أيها الذئب الوديع الباكي على سطح الفراغ وتحت مطرقة السؤال المُعجز، لم نبدأ بعد خطوتنا الأولى، على رغم بيت العزاء الذي لم نفارقه منذ قرن، وعلى رغم المغامرات الحميدة التي تتناثر كبركان الضوء هنا وهناك.. لأن مَنْ خانوا نصر لم يدخلوا إلى حمأة الشمس وعين العاصفة، بل ظلّوا بعيدين يرقبون النوارس التي تسّاقط، فيأخذون ريشها إلى وسائد أبنائهم ونسائهم الصغيرات.
ولم نبدأ بعد، لأن الفعل الذي يصبوّنه على رؤوسنا قد أفقدنا المناعة، وفرّقنا، وأفسَد ضمائرنا، ودفعنا لغزل أكفاننا بأيدينا، وجعل خطابنا الأجمل هو اليأس والاتهام الجاهز .. والهروب.
ولم نكن كلنا سيئين، كان بيننا نصر الشاعر، ونصر العسكري، الذي اكتشف اللعبة الثقيلة الكبيرة، لكنه لم ينكسر، وبيننا مَنْ يحلم .. بالنصر، أيضاً.
* * *
وقام نصر الشاعر العسكري، بعد ثلاث ليالٍ بكامل كريستاله الذي يضفضف بالبَرَد والأغاني، مُحاطاً بمناديل المخيم وأحلام العودة ونداءات أُمّهِ العجوز، التي لم تبك، لأنهم أخبروها بأن الاحتلال هو الذي قتله! فاحتسبته شهيداً تزدهي بصورته الُمعلّقة على الحائط المقشور !! أما نحن؛ فإننا نبكيه، حتى لن يعود دمعٌ أو ماء، لأننا قُلنا كذبتنَا الكبرى، رغم براءة الحيلة .
أما همُ فما زالوا يخونون

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

القتيل في غزة .. نصر الشاعر العسكري

10-تموز-2007

شعر / الفلســطيني

15-تشرين الثاني-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow