في بعض تجلّيات الثورة السورية
2012-04-13
تفتّحت القوة المفكرة لدى الثائرين في سوريا، لتعلن ضرورة "قتل الأب" في هذا البلد، بالمعنى الذي ذهب إليه (فرويد) كعملية رمزية من شأنها إحداث قطيعة مع الماضي، مع نظام أبوي سلطوي. و"قتل الأب" في سوريا الثورة يعني الانتقال إلى نظام عقلاني، ديموقراطي، أسّه ومنتهاه حرية الإنسان/الفرد وكرامته. وحيث أن "الأب" حافظ الأسد حكم ردحاً طويلاً من الزمن، وحتى بعد أن وافته المنية ظلّ حياً يحكم البلاد والعباد من قبره – إن جاز التعبير-، فإن العقل في تفتحه الثوري اتجه أول ما اتجه إلى استئصال جذر الآن، أي "قتل الأب" المؤسِّس لنظام مازالت روحه، أي الأب، حيّة، نابضة فيه. ربما يكون هذا التحليل تفسيراً للعنة الثوار التي حلّت على روح الأب (يلعن روحك يا حافظ)، وتحطيمهم لتماثيله في المدن والبلدات المختلفة، ليواصلوا بعدها عميلة "قتل الأب" مرة أخرى، وفي هذه المرة سيكون الأب، أباً وابناً في آن معاً. إنه ابن حافظ، وأبو حافظ، بشار الأسد الذي ما انفك المحتجون يلعنون روحه أيضاً في إشارة رمزية إلى فنائه من حياتهم، وما حرق صوره والسخرية المستمرة منه إلا تأكيد على الرغبة الدفينة في "قتله"، ما يعني في نهاية المطاف نزع "الخلود" عن "القائد الخالد"، ونزع "الألوهة" عن العائلة الحاكمة وردِّها لله، لله الأكبر، العالي، والمجرَّد. نلحظ المفارَقة عينها في ضعضعة الثورة لمفهوم "الرئيس السيِّد"، وما كان ليتحدث "السيد" للناس في ساحة الأمويين، ومن دون ربطة عنق (مثلاً)، لو لم تقوِّض الثورة ثنائية السيد والعبد التي جعلت من الإنسان "قرباناً" يفدي "بالروح والدم" الإله أو سيِّد البلاد الأعظم. وبهذا يكون الثوار قد مهدوا السبيل أمام نهوض كل أشكال الحرية، والمدنية، مدنية تكرّس العلمانية من حيث هي فصل الله عن الأشخاص، كما فصل الدين عن الدولة.
مع تفتّح القوة المفكرة بانصرافها إلى "قتل الأب"، تفتّحت فرديّة تحرِّض على رصد الذات، وتأمّلها، فهي الآن تشعر وتفكر وتتبصّر وترفض وتقبل و..و..وتريد. ويبدو أن الصراع مع الأنا العليا الأبويّة، المتسلطة أعمق من مجرد صراع ذي طابع مطلبي أو حاجاتي، فجوهرية الصراع هنا تتصل بمكانة الإنسان وماهية وجوده. إنه صراع غايته تفتيت نظام يماهي بين الناس عبر مساواة سكونية، سديمية تحيل الأفراد إلى قطيع. والجدير ذكره في هذا المقام أن الفردية تفتّحت داخل الجماعة، واتفقت مع غاياتها، فانتقلت من الاهتمام بمصيرها الخاص إلى العناية بالمصير العام، فقد كان المرء صامتاً لعقود وهو بنفسه جاهل، وفي السياسة لا يبالي. بيد أن هذا الانطواء الصامت الطويل الأمد مهّد لنشوب ثورة نيرانها ثنائية الفعل، الحرق والإنارة، فحيث أن الحرق فعلُ ترميد - من رماد- لصفحة الماضي، ماضي الاستبداد والفساد والاستعباد، فإن الإنارة فعلُ إشراق يشيع ثقافة التمرّد والاحتجاج الذي يفضي إلى الديمقراطية التي توفر حياة حرة كريمة؛ لأن كل تعقّل وكل حياة عقلية ومعقولة تبدو مستحيلة ما لم يتم أولاً التسليم بحق الإنسان أن يحيا حياة حرة كريمة.
ومع الإنارة، هبطت الشعارات الطوباوية المتعالية حول الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة، وحول الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وحول الحب المقدّس للوطن والحرية؛ لتتبدّل ماهياتها، فتصبح أرضية ، واقعية، تتلمّس حياة المواطن وتعنيه في الصميم. باتت الشعارات مع الثورة لغة تغيير، تغيير في طرائق التفكير، وأداة لصنع مفاهيم جديدة، وواقع جديد يتخذ من الجدل لا الخطابة وسيلة للتثقيف والتأديب، فالتربية الشكلية التي تعلّم أفكاراً اغترابية تشرّد الإنسان عن موطنه، وعن تفاصيل عيشه واهتماماته السياسية، لا بد وأن تضمحل لتحلّ محلّها التربية العلمية التي تنفذ إلى لبّ الأشياء، وتحاكي الهمّ اليومي، وتشحذ العقل بالتأمل المنعتق من التفسيرات الوهمية للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ناهيك عن ذلك، فإن (التنسيقيات الميدانية) التي وُلدت من رحم الثورة، إن هي إلا نواة مجتمع مدني في طور التشكّل، مجتمع سيكون له الدور الأكبر في الدولة الديمقراطية مستقبلاً. ولأول مرة يجد السوري نفسه ذلك "الإنسان المدني السياسي بالطبع" الذي تكلم عنه أرسطو قديماً، عبر اكتظاظ الشوارع بحشود من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ المطالبين بالحرية والعدالة، أوعبر استحالة بعض الشابات والشبان إلى نشطاء سياسيين، و "صحفيين ميدانيين" ينقلون للعالم ما يجري على الأرض السورية بواسطة هواتف محمولة توثق الأحداث وتحمِّلها على شبكة الإنترنت في ظل غياب كامل للإعلام الحر المستقل.
استطاعت الثورة السورية نقل تأثيرها رغماً عن المسافات، إذ أنها على ما يبدو علّة وحيدة تحتوي في وحدتها جميع الأصول البذرية التي منها ينمو ويتطور كل موجود جزئي، فلما كان صحيحاً أن الاستبداد يعيش على الأزمات، ويسدّ الطريق على أي انفتاح للجزء على الكل، فالصحيح أيضاً أن ثورة الديمقراطية في سوريا قد أحيت مشاعر المحبة، والتعاضد بين أبناء الشعب الواحد بكل مكوناته وأجزائه (واحد واحد الشعب السوري واحد). هكذا تأتلف الحياة والمجتمع دائرياً لاهرميّاً. وفي الحركات الدائرية والمتنوعة تتوفر كل الأسباب التي تحيي الروح الفردي وتعتقه، وعند تخوم الروح الفردي يتحطم صنم الخوف، ولا شك أن تلاشي الخوف يعني ولوج عصر أفول الدولة الأمنية، وحلول سيادة الشعب. ومن الحركات الدائرية والمتنوعة نفسها تتولّد حركة الذهاب والإياب من المركز إلى الهامش، ومن الهامش إلى المركز. إن حركة الذهاب والإياب تلك من شأنها تحرير الهامش من تسلّط المركز واحتكاريته. لقد خلقت الثورة في سوريا مناخاً يسمح بأن تكون العلاقة بين الهامش والمركز جدلية، تقطع مع السلطة البعثية التي كرّست الأعلى والأدنى طيلة عقود، وبنت عليهما تمايزات ظالمة وباطلة جعلت من المركز مقرّاً لحكم "أبدي" عبر إذلال الهامش ونهبه وقمعه، لا بل توسيعه وتكريسه. من هنا كان لا بد من إسقاط "الأبد والأبدية" من الأذهان، عبر تظاهرات محتجَّة تضيء المهمّش المغيَّب، وتؤكد أنه (ما في للأبد.. ما في للأبد).
يعتقد الفيلسوف الألماني (هايدغر) أن الإنسان يمكن أن يحيا وجوده على صورتين مختلفتين، فهو إمّا أن يحيا وجوداً مُبْتذلاً، تافهاً، لا قلق فيه، وإمّا أن يحيا وجوداً أصيلاً مُفعماً بالقلق. وجود يستطيع فيه أن يؤكّد ذاته وأن يصبح نفسه. وقد لا نجانب الصواب عند القول إن السوري الذي قرر الثورة على الوجود المبتذل، التافه، يحيا منذ أواسط آذار 2011م، وجوداً أصيلاً مفعماً بالقلق، يثبت فيه قدرته على إسقاط نظرية القمصان السود، وبؤس الدبابة والمدفع والرشاش أمام الإرادة الإنسانية الحرة، أي إرادة الحياة.
عن موقع "صباح سوريا"
بالاتفاق مع الكاتبة
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |