أيام حمصيّة 1
خاص ألف
2012-05-23
قد أكونُ، بنظر البعض، دَعيّاً بشكل ما إذا نوّهتُ بأنني أعتبرُ نفسي مُلمّاً بتاريخ دمشق؛ مدينتي الأثيرة ومَسقط رأسي. لا أعني هنا، الدراسة الأكاديمية، والتي لم أحظَ بإكمالها، على أيّ حال، لا في الوطن ولا خارجه. إذ لطالما كنتُ، ولم أزل، ذلك المُتسكّع الأزليّ على ناصيَة الحياة الروتينية، المُتدفقة ـ مثلما السَيل المُنذر بالطوفان القيامة. بالمُقابل، فإنّ هذا التسكّعَ هوَ من تعيّن عليه مُبْكّراً تغيير مَسار حياتي: الشغفُ بالتجوال بين الأوابد القديمة، من بازاراتٍ وخانات ومدارس ومقامات وقباب، يُمكن أن يقودَ المَرء إلى التأمّل مَلياً فيما يَكمنُ خلفها من تاريخ غابر، تليد.
من ناحية أخرى، فإنّ قراءاتي المُكثفة لتاريخ الشام، وخصوصاً تلك المُدوّنات العائدة لعهود الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، قد جعلتني على تواشج أيضاً مع تواريخ أختَيْها؛ حماة وحلب. ولكن، ماذا عن مدينة حمص، المُتوسّطة تينك الحاضرَتيْن..؟
***
بمَحض الصّدفة، ولا رَيب، كنتُ آنذاك أمرّ عابراً، لا مُقيماً، خللَ التاريخ الحمصيّ. بيْدَ أن المُدهش، هوَ مُطابقة ذلك للواقع أيضاً؛ المُتمثل بندرة زياراتي لإبنة العاصي هذه، والمُقتصرَة غالباً على حقيقة كونها المحطة، الوحيدة، على الطريق التي تربط دمشق بالشمال والساحل على حدّ سواء. حتى حينما تمّ فرزي إلى كلية الدفاع الجوي، الكائنة في أحد ضواحي المدينة، فإنني لم أكُ أمكث في مركزها عادة ً سوى سويعات قليلة بانتظار الحافلة العمومية، المُتجهة إلى الشام. ومن بعد، لما استقرّت خدمتي العسكرية في مدينة اللاذقية، فإن الحافلة الكبيرة والحديثة ( البولمان، التابعة وقتئذٍ لشركة " الكرنك " الحكومية )، دأبتْ على التريّث لنصف ساعة، أو نحوها، في محطتها الحمصيّة لكي يتسنى للركاب أن يتناولوا طعامهم وشرابهم ثمة.
وفي هذا الشأن، أتذكّرُ مَدى تأثري بإحدى أقاصيص الكاتب وائل السواح، التي اطلعت عليها في بداية الثمانينات: إذ تمثلتُ حينئذٍ مشاعر بطل القصّة، المُتعيّن عليه في خدمته زبائن محطة قطار، أو ربما حافلات، أن يلتقي يومياً تقريباً بهذه الفتاة أو تلك. إذ ذاك، تمضي الرحلة مع فتاته، ولا يبقى له سوى الفراغ والسأم والاحباط. وإذا لم تستعص عليّ الذاكرة، فإنّ وائل السواح كان لدى نشر تلك المجموعة القصصية مُعتقلا بتهمة الانتماء لرابطة العمل الشيوعي.
***
موقع حمص، من جهة أخرى، كان له مَدلولٌ تاريخيّ هامٌ للغاية، لا في سورية حَسْب، بل وفي حوض المتوسط بأسره: إنّ " تدمر "، الواقعة إلى الشرق من حمص، قد شكّلتْ مملكة ً مُزدهرة، مَرهوبة الجانب حتى من لدن الرومان؛ أسياد العالم في ذلك الزمن. وربما الكثير من السوريين يَجهلون اليومَ، أنّ مدينة حمص نفسها سبَقَ ومنَحَتْ الامبراطورية الرومانية إحدى أقوى أسرها الحاكمة: أسرة " جوليا دومنة "، التي برز من سلالتها أباطرة على شهرة عظيمة؛ مثل تيبريوس وكاليغولا وكلوديوس.
" لا أرتاحُ إلا بين الموتى "، هذا ما قاله يوماً كاليغولا. إنه سفاحُ روما، القديمة، مَن ارتكب الجرائم المَشنوعة خلال فترة حكمه، القصيرة، المٌختصرَة بأربعة أعوام؛ بالنظر لاغتياله باكراً. ومن موبقات هذا الطاغية، قتله لجلّ أفراد أسرته خشيَة منه على عرش النسّر من منافس تجري في عروقه الدماء الزرقاء. ومن طرائفه، استهتاره بمقام رجال الدولة، حدّ أن يُعيّن حصانه مُستشاراً شخصياً.
لكأنما سفاحُ حمص، المُعاصر، كان يتمثلُ ذلك القول المَذكور على لسان شبيهه كاليغولا؛ لكأنما دمُ الجنون ـ على الأقل رمزياً ـ يَربط بين وَريثيْ السلالتيْن، القيصرية والأسدية. هذا الأخير، شاءَ بالمُقابل أن يَسفك دم الشعب السوريّ، خوفاً على عرشه. والهزليّ هنا أيضاً، أن سفاحنا شاءَ الاستهتار بمقامات بلده، حينما عيّن ذاك " الدبّ "، أو تلك " البطة "، ضمن مُستشاريه المُقربين. وإذن، شتان ما بين سلالة العَظَمة والحضارة، وسلالة الضِعَة والقذارة.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |