هل الحريّة مطلبُ الثورة السوريّة أم روحُها ؟
2012-05-23
يبدو أن سؤال العنوان ليس إلا واحداً من جملة أسئلة وعِرة وشائِكة تنبثق عن ثورة كالثورة التونسية أو المصرية أوالسورية..؛ ويبدو أننا نحتاج، للإجابة عنه، إلى استيعاب كل واحدة من هذه الثورات بصفتها ثورة اندلعت في مُناخ "ربيع عربيّ" تجلّت فيه الحرية لدى الشعوب الثائرة ممارسة أو فعلاً خلاقاً. فعل انعتق إلى حدٍّ كبير من ربقة الأحكام المسبقة، وربما خلا من شوائب الأيديولوجيا وبراثن التفكير المغلق كونه فعلاً لم تقده قوى أو أحزاب أوجهات منظَّمة؛ ما جعل الثورات تتميّز بعفوية صادقة وغير متعثِّرة، وقد تكون هذه العفوية هي نفسها الحرية، بعد أن غادرت عالم المفارَقة اللامنظور ثم انبثقت فعلاً منظوراً له كثافة الواقع. وإذ الحرية، في أصلها خفّة؛ فإنها حين تصير (فعلاً) يمنحها الفعل نوعاً من الثقل، يمكّنها من التحريك والتأثير، على الأرض، من خلال الفاعلية الإنسانية، الفردية والجمعية.
وعلى الأرض السورية، التي شكّلتنا، وما فتئت تفعل ذلك، ما كان ليقوم للثورة قوام لو لم تكن الحرية قوامها ومبدأها، فهي داخلية، مباطِنة للثورة ومحايثة لها، مثلما هي استعداد دائم، ثابت، متوافق مع ذاته، ويُعلي من امتياز الإنسان. الحرية هنا ليست مشتقّة من نزوع يطلقه تصوُّر، وليست موضوعاً خارجيّاً تشرئبّ إليه الثورة؛ بل هي ذلك الجوهر الذي منه تستمدُّ الثورة وجودها وقيمتها، من حيث هي، أي الحرية، الدَّافع الدّفين لتعلّق السوريّ بذاته الثائرة، ومن حيث هي منبع شجاعته، واستعداد داخليّ يحضّ على فعل خارجيّ هو غاية لن تتجسّد إلا في موقف داخليّ للإرادة؛ مادامت الحرية لا تبارح، حتى في مبدئها، مجال الإنسان الفاعل، ولا تنشدُ أيّ خير خارج نطاق الاستعداد الإراديّ، ومادام الثائر السوريّ قد أسلس قياده لجموحها الذي لا كابح له. ما يعني أخيراً ردم الهوّة بين الحياة التأمّلية والحياة العمليّة ليُستنتَج أن الحرية لا يمكن أن تكون ترَفاً.
إضافة إلى ذلك، الحرية في الثورة السورية ليست استدلالاً مجرّداً وجافاً، ولا شأن لها بالمصطلحات والشعارات الزائفة، وهي لا تتّسم حتى بذلك الاطِّراد، والتدرّج أو المرحليّة، بل تبدو كأنها انبثاق. انبثاق يندفع كسيل جارف، وتبدو قوّتها الحقيقيّة في انسيابيّتها غير الطّامحة لا للإقناع ولا للإفحام، كونها تندفع اندفاعاً يلجم كلّ تعثّر أو توقّف أو تمهّل، ويجرف عنوة كل ما من شأنه إعاقة المضيّ قدُماً، كما يردع الفكر عن الشّرود خارج الثورة. هكذا؛ تنجلي حقيقة (الحرية في الثورة) لا من حيث كونها جزءاً من كل؛ بل من حيث هي كلّ يتوزّع على الكلِّ وفي الكل، وتدخل في بنية الثورة ومنظومتها وتتحكّم في العلاقات بين عناصر هذه المنظومة وتنظّم ذاتها بذاتها. مثلما تنجلي أيضاً حقيقة (الثورة في الحرية) من حيث هي وحدة مثلى، مستكفية بذاتها وكليّة القدرة. وعلى هذا؛ فإنّ الاعتقاد بأنّ الحرية مطلب للثورة السورية، اعتقاد واهِم وباطل.
أن تكون الحرية مبدأ داخلياً، لا غاية خارجية أو مطلباً موضوعياً ؛ يعني أن هذا المبدأ يحرِّر المرء من التبعيّة للمواقف والظروف الخارجيّة المتقلّبة، التي قد تؤثِّر سلباً على معنويّاته وعزيمته. وكان بمقدور الظّروف والمواقف المحلّية والإقليميّة والدوليّة العصيبة والمتواطِئة والرَّاغبة في إجهاض ثورة الديمقراطية في سوريا، أن تنال من عزيمة ثوّار الكرامة لو لم تكن الحرية مبدأ ثورتهم؛ لذا لم يكن بإمكان الرَّذيلة والضَّلال أن يشقّا لنفسيْهما منفذاً إليها طالما أنها داخليّة ومباطِنة للثورة. ولئن كانت الثورة والحرية متماهيتيْن؛ فقد توفّرت كلّ الأسباب التي تحرِّر المخيّلة وتمرّنها، وبهذا الضَّرب من مران المخيِّلة التي غُذِّيَت بهواجس النَّصر، اصطنع الثائر السوريّ لنفسه أفراحاً مستديمة جعلته يصبر على مآسي الرَّاهن، وفي المقابل فإنَّ التوجّس من الآلام أو الخوف والرّعب أصبح المحرِّض الأساس لإشعال مخيّلة من شأنها تعميق الشّعور بالنَّصر. إنه الشعور بالوضوح وبالرّضى الرّوحي المصاحِب لحدس روحيّ متبصِّر يحثّ الثوار في سوريا على مواصلة النِّضال والمقاوَمة ضدَّ آلة القتل الهمجيّة المتوحِّشة؛ وبذلك لا يعود الموت أعظم الشُّرور؛ بل يغدو، من حيث يدري الثائر أو لا يدري، جسراً يعبر من خلاله إلى الحياة الفذّة. فالحرية هنا مثل إيمان يقينيّ على أساسه نهضت الثورة السورية، بعد أن خلع الثوّار قيمة مطلقة على كلّ ما يربط وشائج الفرد بالحرية وجعلوا من هذه الرَّابطة شرطاً لا غنى عنه للثورة.
وعبر انحلالها في الحرية، أفسحت الثورة السورية في المجال لتفجير الطّاقات الشعبيّة، وجعلت من السَّاحات والشوارع مسرحاً لحشود ثوّار يمارسون طقوس الحرية. وبعد كل مأساة تنقبض فيها الأنفس الحرّة في الحزن؛ يعود الغارقون في تعاسة تامّة لتنبسط أنفسهم فرحاً على قرع الطّبول وإنشاد الفرح في تحدٍّ صارخ لذوي الأنفس المتصدِّعة والعاجزة عن مكابدة الحرية. وفي حين نرى أن كل ما هو خارج الثورة يتّخذ طابع التشاؤم والوهن المتاخِم للامبالاة؛ يبدو الثائر السوريّ وكأن جسمه أصبح عصيّاً على أوصاب تهتصره، ونفسه لا يبلبلها تعاطف هشّ ورخو، والقدَر لا يمكن له أن يبدّد آماله أو يبيدها، فحتى نوائب القدَر تبدو كأنها متحدّاة من جانبه. وقد اتّشحت الثورة بغزير الصّور عن البطولات والشجاعة. ويبدو هنا أن "الانفعال" الثوريّ النَّاجم عن انقباض النّفس في الحزن وانبساطها في الفرح هو "عقل"، وحُكم بلغة الفيلسوف الرّواقي (كريزيبوس)، لكنه (عقل لا عقليّ)، متمرِّد على العقل. أي أنّ "الانفعال" الثوريّ هنا هو "عقل" جديد أسّه الحرية، ويتمرِّد على "عقل" قديم، أمنيّ/سلطويّ، مُحَمَّل بمنطق الفساد والاستبداد والاستعباد.
وثمة نقطة حقيقة منّا بالإلحاح، فلما كانت الحرية تتأدّى، بحكم طابعها المرن والحيويّ، إلى نفي كل ما يناقضها من قمع وعنف وتصلّب وتشدّد؛ فإنك على خطأ عظيم من أمرك حين تقول: إن الحرية مطلب الثوّار، أو كما درج في وسائل الإعلام مثلاً "خرج المتظاهرون يطالبون بالحرية وبإسقاط النظام". فإذا كان صحيحاً وصف إسقاط النظام بالمطلب، هل يصحّ الوصف نفسه بشأن الحرية؟ وكيف يمكن للحرية أن تُطلب ممن اندلعت الثورة ضدّه، ومن يختزن في داخله كلّ نقائض الحرية؟! هذا من جهة. ولمّا كانت سوريا - من جهة أخرى- محكومة بعلاقة (سيّد وعبد) منذ زمن بعيد؛ فإنه لا يصحّ منطقيّاً، وتاريخيّاً، وواقعيّاً أن تُطلب الحرية من أسياد حكموا البلاد والعباد بالحديد والنار (عائلة الأسد). ناهيك عن ذلك، فالسيِّد والعبد كلاهما يستقي وجوده من وجود الآخر، وحين يختفي أحد طرفيّ هذه الثنائيّة يختفي الطرف الآخر تلقائيّاً لأن العلاقة التي تجمعهما هي علاقة تضايُف، إذ لا يُفهم أحدهما إلا من خلال الآخر. لذا يجدر بالعبد (الشعب السوريّ) وقد وعى عبوديّته أن يثور على سيّده لا أن يطلب منه حرية غير موجودة لديه أصلاً. ثم إن الحرية لا تُعطى ولا توهَب منّة من أحد لأنها نسغ الحياة الإنسانية، وبما أنها لا تُعطى؛ فإنه لا يمكن طلبها كموضوع خارجيّ يدلف على الإنسان/الفرد من خارج وجوده.
الحرية إذن: روح الثورة السورية لا مطلبها..!
عن موقع "صباح سوريا"
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |