أيام حمصيّة 2
خاص ألف
2012-05-30
إذا كانت حمصُ، الآن، تذكّرُ العالمَ يومياً بالموت؛ فإنها، على المُنقلب الآخر، قد قُدّرَ لها أن تفعل ذلك بي أكثر من مرّة في سالِفِ العُمْر. الحادثة البكرُ، تمتّ لأولى أيام خدمتي الالزامية، إلا أنها مع ذلك استوطنت ذاكرتي أبداً، كما وشقيقتها سواءً بسواء.
تلميذاً غراً، في دورة صف ضباط مجندين، كنتُ إذن في كلية الدفاع الجويّ، المُعسكرة بأبنيتها وكائناتها في أعالي ضاحيَة " مَسْكنة "، الحمصيّة. شتاءٌ مُثلج، ينتمي للكوانين الكامدة، كان يَهمي على المكان، حينما وَجَدّتني في الطريق المؤدّي إلى الشام: لقد تسللتُ منذ بعض الوقت، عبْرَ السياج المَعدنيّ الشائك، مُنتهزاً سانحَة العتمَة البهيمَة، وكذا، نوبة تغيير الحَرَس. عليّ كان أن أهبط المنحدراتِ المُشجّرة، الوَعِرَة قليلاً، وفي آن واحد، التماسَ عن بعد كافٍ مع السياج ذاك؛ لكي لا أتيهُ في مَفازة المَجهول هذه. ما أن بانَ، أخيراً، طريقُ اوتستراد الشام، العريض، المُنار ببعض المَصابيح المُقيمة والمركبات العابرَة، حتى أخذ الفؤادُ يخفقُ بقوّة ولا غرو.
" ما وقوفكَ هنا، أيّها الشاب..؟ "، سألني رجلُ الأمن بنبرَة أهل ريف الساحل. هذا، كان قد غادرَ للتوّ سيارة " بيجو "، بيضاء، تتحدّى بنصاعتها سوادَ آخر الليل. إلا أنه، للحق، كان لطيفاً رجلُ الدوريّة ذاك؛ حتى وبلغتْ ثقته بجوابي أن استنكف عن طلب هويّتي العسكريّة. وبالغ صاحِبُنا باللطف، فأوقفَ من ثمّ سيارة خاصّة، مُتجهة إلى الشلم: " عليكَ بايصال هذا الشابّ حتى بيته، هناك في دمشق.. مفهوم؟ "، قالَ لصاحب المَركبة بلهجةٍ تتبطنُ، معاً، المودّة والأمر. ينبغي هنا التنويه، بأنها تلك كانت المرّة الأولى في حياتي، التي أركبُ فيها سيارة " مرسيدس " على أحدث طراز. ولكنها لم تكُ المرّة الأخيرة، على كلّ حال.
كان صاحبُ السيارة، على ما بدا من كلامه، يَمتهنُ تجارة ما، ناجحة، ثمّة في العاصمة العتيدة. وَهلة أخرى، والرّجلُ التاجرُ سيَغرقُ في صَمتٍ مُطبق، طويل. إلى أن أخرَجْتُه، على حين فجأة، من صمته: " أهوَ حادثٌ هـ... ذا؟ "، سألته بلا مبالاة. وبالكاد أتيحَ لكلمتي حَظ الاكتمال، عندما رأيتُ الرّجل يُبادر بلهوجَة وسرعة إلى الشدّ على الفرامل. حينما توقفت سيارتنا، بزمجرةٍ صاخبَة، كان يَفصلها أقلّ من متر عن مؤخرةِ سيارةٍ أخرى.. أو بالأصح، ما بقيَ من أشلائها.
" أتدري؟.. لقد كنتُ غافياً أهوّمُ، حينما بادرتَ أنت بسؤالك ذاك "، قالَ لي مُرافقي وهوَ يتنهّدُ بعمق إثرَ تجاوزنا تلكَ المركبة، المَنكوبة. يبدو أن هذه، على الأرجح، كانت قد اصطدمَتْ للتوّ بأسنّة الصخور المُخيفة، الخطِرَة، المُحْدِقة بجانب الطريق السريع.
***
بالرغم من نيلي ستة أيام سجن، كعقوبة على فراري اسبوعاً من دورة الأغرار، إلا أنني لم أرعو. فما أن انقضت فترة بسيطة على اطلاق سراحي، حتى كنتُ في طريق الهرَب ثانية ً. هذه المرّة، كان يُرافقني أحد زملاء الفصيل. إنه من الحارَة ( أيْ من حَيّ ركن الدين )، ينتمي لها بالولادة لا بالأصل. ثمة، في الكلية، كان " م.. " قد فاجأني ذات يوم حينما سألته عن ذاكَ الضابط، الذي كان يكلمه عند باب مطعم الكلية، حيث أجابني ببساطة: " إنه ابن عمّتي "
" ولكنّ هذا الرائد، على حدّ علمي، من دير الزور..؟ "
" نعم، ألم تكن تعلم قبلاً أنني ديري بالأصل؟ "، أجابني صديقي مُتبسّماً عن أسنان صدئة. وينبغي الاشارة، إلى أنّ " م.. " كان يُدخن بشراهة، فضلاً عن كون سجائره " ملغومة "، أحياناً. هذه الحقيقة، عرفتها من زميل آخر في الكلية، دمشقيّ أيضاً. إذ سبق أن علّقَ هذا على طلب " م.. " أن أجلب له كيلو من حلوى العوامة، بالقول ضاحكاً: " ولاه، أنتَ تحشّش. ولذلك يُصبح دمكَ جافاً، مُتحرّقا على أكل الحلوى ".
***
على أيّ حال، كنتُ وزميلي " م.. " قد تناهينا إلى طرَف الطريق السريع ذاك، المَوْصوف آنفاً، حينما لمَحنا سيارة " بيكآب " قادمة من جهة مدينة حمص. ومن حُسْن فألنا، أنّ السائق ومرافقه كانا من الأريحية أن وافقا على نقلنا في طريقهما إلى الشام. هناك، في مؤخرة المَركبة، بوغتنا نوعاً بوجود فتىً في نحو الخامسة عشر من ربيع عمره. على المقعد الخشن، العريض، المُقابل لمجلس الفتى، قعدتُ وصديقي مُتململيْن بسبب ضيق المكان: إذ كان ثمة صندوق خشبيّ كبير، مستطيل الشكل، يَحتلّ جلّ مساحة قسم البيكآب، الخلفيّ؛ أين كنا نقبَعُ ثلاثتنا. هنيهة من الثرثرة، ثمّ ما عتمَ صديقي أن بدأ يَمدّ رجليْه رويداً. كانت قدماه إذن، المُنتهيتان بفردَتيْ البصطار العسكريّ الفظ، مُتهالكتيْن فوق سطح ذلك الصندوق، المُغلق، حينما رأيتني بنفسي أجاريه في ذلك. على إثر تلك الحركة، الطائشة ولا مَراء، فإنني تنبّهت نوعاً للنظرَة المَليّة، المؤسيَة، المُنبَعِثة من عينيّ مُرافقنا الفتيّ. فسألته عندئذٍ، بغير كبير اكتراث: " أأنتم تحملون بضاعة ما، في هذا الصندوق؟ "
" بل هوَ.. أبي "
" آه، إنه والدكَ، إذن، صاحبُ هذه البضاعة؟ "
" لا. أعني، أنه هنا.. "، أجابَ الفتى متردداً، مومئاً برأسه إلى أسفل؛ أين الصندوق الجاثم تحت الأرجل المُسترخية. ثمّ أردفَ، قبل أن يَتسنى لي الافاقة من صدمتي وذهولي: " نحن بصدد نقل جثمانه للشام، لكي يُدفن هناك ". عند ذلك، رأيتنا نقفز معاً، أنا و " م.. "، كما لو بفعل لسعة عقرب. ثمّ ما لبث كلّ منا أن طوى، مُرتبكاً خجلاً، رجليْه ودخيلته على حدّ سواء. هكذا بقينا جميعاً على صمتٍ مُقيم، مُثابر، حتى وَصلنا الشامَ.
بالرغم من مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على الحَدَث، فإنّ نظرة ذلك الشاب الصغير، التي رمَقني بها بأسىً شفيفٍ، ما فتأت راسخة في ذاكرتي حتى اليوم؛ حتى هذه الآونة المُحزنة، المأسويّة، التي تشهدُ دوماً ولا رَيْب عشراتِ الصناديق الخشبية، المَحمولة على العربات في الطريق من حمص إلى دمشق.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |