كان يدّعي الجنون
خاص ألف
2012-06-08
أيامٌ معدودات، عليها كان أن تمضي عليّ بمقرّ خدمتي في مدينة اللاذقية، قبل أن يَتسنى لي معرفة " السالوخة ". كان ذلك خلال الاجتماع الصباحيّ، الشاهد على تألق الضابط المُناوب؛ رئيس قسم التوجيه السياسي. هذا النقيب، كان إذن قد شرع في موعظة حولَ ضرورة الالتزام بالنظام العسكري، الصارم، حينما صدرت بغتة ضحكة مُبتسَرَة، شبيهة بثغاء الحملان. انتفض الضابط مُغضباً، ولا غرو، مُوجّهاً شررَ عينيْه السوداوين نحوَ أحدهم: هذا الأخير، كان مُجنداً على ما تفصح عنه هيئته، وبالرغم من أنه يُماثل النقيب في السن؛ النقيب، الذي ما لبث أن هتف به بنبرَة يختلط فيها السخط بالوعيد: " ولاه، سالوخة، ما هذا؟.. أأنت مجنون؟ "
" إيْ مجنــــون.. وعندي شهادة بذلك "، أجابَ المجند بلهجة أهل مدينة اللاذقية، المُحبّبة. أعقبَ كلامُهُ، كما هو متوقع، مَوجة من المَرَح في صفوف المجتمعين، وخصوصاً المجندين. ذلكَ، ولا رَيْب، ضافرَ من أوار اللهب الأحمر في سحنة النقيب. إلا أنه، لدهشتي، أشاحَ بنظره عن دعيّ الجنون، وراح يواصل خطبته المُملة. حال عودتي إلى مكتب المراسلات ( أين كنتُ أخدم في مستهل حلولي بالمقر )، اهتمّ فضولي بمساءلة زميل لنا عن مواطنه ذاك، الأخرق. فأجابني هذا الجنديّ المتطوّع، العامل على موتورسيكل مراسلاتنا العسكرية: " إنه أعقل مني ومنك. ولكن طول فترة بقائه في الجيش، هو المتسبّب في غرابة مَسلكه "
" كم أمضى هوَ، في الاحتياط..؟ "
" إنه لم يَصِل إليه بعد، مع كون سنوات خدمته قد قاربت اكمال الدزينة "، ردّ المراسلُ وهوَ يتبسّم بشيء من الأسف، أو ربما التهكم. ومثلما لحظته، لاحقاً، عند من عرفتهم من أهالي مدينة اللاذقية، فإنّ ثمة عبارة كانت تتردد على لسان مراسلنا: " كذا... أمّ فرنسة "؛ وهيَ العبارة، التي كانت تعقبُ دوماً مُجادلة، أو مَشادة، مع أحد المنتمين لريف المدينة.
***
في اليوم التالي، على الأثر، كان " السالوخة " على مرمى أبصارنا، حينما كان يُغادر الندوة. خللَ النافذة الكبيرة، المُشرفة على الدرب، ندَهَ مساعدُ المكتب على دعيّ الجنون. هذا المساعد الثاني، كان أيضاً من أهالي المدينة، القديمة. الزائرُ المَدعو، شاءَ أن يَدخل المكتبَ من جانب، وعلى دفعات: هذا، لعمري، كنت قد لحظته من قبل عند همشرية الحارَة ( أيْ حيّنا الدمشقي )؛ الذين دأبوا على مخالفة المألوف في تصرفاتهم وأقوالهم سواء بسواء.
" أخي سالوخة، هذا الشاب جديدٌ لدينا في المكتب؛ وهوَ يرغب بالتعرف إليك "، خاطبَ معلّمنا مواطنه الأخرق ببساطة. احمرار وجهي، وتلعثم عبارتي من ثمّ، ربما كانا دافعَيْن لصاحبنا كي يُطلق ضحكته تلك، المَوْصوفة. في زياراته الأخرى للمكتب، كنتُ بالمقابل أقلّ تحفظاً في حديثي مع ذاك المجند الأبديّ. وعلى لسانه، عرفتُ بعضَ تفاصيل مغامرته العسكرية، المَديدة والمَريرة.
***
بعد أعوام طويلة، حينما كانت فكرة كتابة رواية " برج الحلول "، تشغل ذهني، فقد جاز لي جعل احدى شخصياتها المُتخيلة تتمثل شخص " السالوخة "، الواقعيّ. ومن ذلك، نقلي حرفياً تقريباً ما سبق وقصّه بحضوري عن حكاية طريفة، حصلت له في مبتدأ الخدمة مع عريف المطبخ؛ المُنحدر من ريف المحافظة. هذا الأخير، على ذمّة الراوي، انتهى به المطاف إلى السباحة في خلطة الفاصوليا باللحم، الساخنة، جزاء لنكده وغروره. ولغرابة الاتفاق، فقد جمعتهما الخدمة، مُجدداً، وفي مطبخ مقرّ لوائنا هذه المرة. إذ ذاك، كان العريف قد أضحى مساعداً، فيما أنّ المجند بقي مجنداً.
***
في نهاية العام الأول لثورة الحرية والكرامة، شاءت الصدفة أيضاً أن أعثرَ على اسم " السالوخة " بين أسماء معتقلي حيّ الصليبة، وبصفته " شخصاً خمسينياً، خفيف العقل " ـ كما ورَدَ في أحد البيانات الثورية. نعم، إنه الحيّ نفسه، الذي اشعلَ في نهاية صيف 1979 انتفاضة أهلية، شاملة، في مدينة اللاذقية؛ وبالرغم من نجاح النظام بتصويرها كفتنة طائفية، بعدما تمكن من اخمادها.
آنذاك، كان مجندنا الأبديّ ( مثل بقية زملائه ) قد قذِفَ به في مواجهة المنتفضين. وكان، إلى ذلك، يَتمتع بوسامة جديرة، حقاً، بممثلي السينما الكلاسيكية؛ من ملامح متناسقة وقوام رشيق، إلى عينين خضراوين وشعر أشقر وشارب كثيف نوعاً، معقوف الطرفين بعناية. لا أدري، بطبيعة الحال، ما فعلته السنون بهيئة صديقنا القديم، الباهرة؛ وما إذا كانت قد انطلسَتْ أخيراً بين براثن الأمن، الوحشية.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |