القاتل المثالي
خاص ألف
2012-06-19
يقدّم لنا الأدب العظيم عوالم إنسانية مدهشة إلى درجة ٍ أنه يجعلنا نتقبل غير المألوف والشاذ ، إنه يزلزل قناعاتنا فيجعلنا نتعاطف مع شخصياته المتخيلة التي نرى ممارساتها مستهجنة ، فيما لو كانت على صعيد الواقع وأخضعناها لقوانين منطقية جامدة ؛ فالقاتل إنسان مجرم يمتلك صفاتٍ كريهة مُنفرة ، تُبرز بشاعته وتلغي إنسانيته ، لكن الأدب يستطيع أن يقدم لنا مجرماً استثنائيا يجعلنا نتعاطف مع لحظات ضعفه ِ بما يمتلك من رهافة حسّ وشاعرية، أو بما يمتلك من رؤية إنسانية إصلاحية تبيح له ارتكاب جريمة القتل لإصلاح المجتمع . الفن يدهشنا، ينقلنا من عالم النمط إلى عالم ٍ مدهش ٍ جديد ، فالفنُ لا قاعدة له يشذّ عن القاعدة، ولكنه لا يشذّ عن حقيقة الإنسان؛ فإن نموذج القاتل المثالي يمتلك شخصية جذابة ، كما يمتلك حسّاً إنسانياً ،لهذا يخترق هذا النموذج ما ألفناه من صورة ٍ كريهة للمجرمين في تصرفاتهم وأخلاقهم ، وإن تسليط الأضواء عليه لا يعني تسليط الضوء على الجريمة أو تشجيعها " إن نموذج القاتل يجسّد موقفاً من الحياة، أي يجسّد علاقة الإنسان ببيئته وبالآخرين ، هو كشف للإنسان وعمّـا يحيط به من عوامل لا يستسلم لها ، بل يحاول تغيرها من أجل أن يعيش المثل الأعلى في حياته ويحاول الدفاع عنه ، لذلك يرتكب جريمة القتل ". وقد تطرّق شكسبير في مسرحية ( عطيل ) ودوستويفيسكي في رواية ( راسكو لينيكوف ) إلى التحدث عن القاتل المثالي .. فـ" شكسبير " مثلا ً قدّم هذه الأطروحة عبر بطل مسرحيته ( عطيل ) القائد الشجاع الذي ينتمي إلى إفريقيا ، وكان زنجيّاً متزوج من فتاة شقراء من إيطاليا تسمى ( دزد يمونه ) وكان له صديق يسمى ( ياغو ) الذي قرر الانتقام من عطيل ، لأنه لم يحصل على ما يستحق من مرتبة عليا في الجيش، إذ كان شخصية أنانية ، ونجد في الوقت نفسه أن ( ياغو ) يزيد من ريبة عطيل حين يحدثه عن أخلاق المرأة الإيطالية بأنها خائنة ، لكي يُدخل الشك إلى عطيل بزوجته ، وقدم له ياغو دليلاً ملموساً دامغاً حين سرقت زوجة ياغو منديل ( دزد يمونه ) وأعطته لياغو ، ليضعه في غرفة صديق آخر لـ" عطيل " عندها يقرر عطيل بعد أن رأى الدليل المقنع ، الانتقام لشرفه وللمثل العليا التي انتهكتها زوجته ، فيقتلها ليقتل الشر والخيانة في العالم، وعندما يعلم عطيل بالمكيدة التي دُبرت له ، يُقدِم على قتل نفسه عقاباً على جريمته ، ويقول : ( قولوا قاتلٌ شريف فأنا ما فعلتُ شيئاً بدافع البغضاء بل الشرف ) . وهذا ما يؤكد أنه إنسان شريف ، حساس ، يرى الوفاء في كل أصدقائه لا يعتريه الشك في الآخرين ، شديد الحساسية لكرامته، يتعامل مع العالم بحساسية ٍ مرهفة ، ولذلك لا نعطي الحقَ لعطيل في هذه الجريمة، لأنه ينقصه الخبرة في النفس البشرية . إن قيمة الشرف هي قيمة عليا يجب أن نحافظ عليها وندافع عنها، حتى وإن كلّف هذا الأمر حياتنا، فهذه من القيم السامية في حياتنا. أما في رواية راسكو لينكوف نجد في هذه شخصية ( راسكو ) تجسيداً لبعض الأفكار التي تخالف رؤيانا.. فالبطل يدّعي أنه يستطيع استيعاب الجريمة بالعقل ، وتبريرها بالعقل، والقيام بها بالعقل ، فهذا تأكيدٌ على عقلانية الإنسان التي رآها الماديون الذين يؤمنون بالإنسان الإله ، وكان هذا البطل أحد هؤلاء الذين يؤمنون بهذه الأفكار ، وإن أفكاره نابعة من تكوين ثقافي كان قد انتشر في عصر ( دوستويفيسكي ) فهنا ظهرت أفكار الملحدين الذين يعلون من شأن الإنسان وهو قادرٌ على أن يحل مشاكله بالعقل بمنعزل عن الإيمان ، فهو يتبنّى مقولة ( إيفان كارامازوف ) الذي أباح قتل الأب مردداً : ( إذا لم يكن الله موجوداً فكلّ شيءٍ مباح ) ليكتشف ( راسكو ) جحيم المعاناة الداخلية في زيف هذه المقولة بعد ارتكاب جريمته دفاعاً عن الهمّ الاجتماعي والفقر، عندما أقبل على قتل الرابية العجوز ( إليونا ) التي كانت تأخذ المال من الفلاحين، وقتله أختها ( إليزابيتا ) التي كانت تساعد الفقراء والفلاحين. قتلها لأنها شاهدته يقتل شقيقتها ( إليونا ) لكي لا يكتشف أحد جريمته، وعند اتهام شخص آخر بالجريمة ، ظهرَ تأنيب الضمير لديه، ولذلك يعاني البطل من أزمة داخلية حادة يكتشف من خلالها أن الإنسان لا يمكن أن يكون عقلاً فقط ، وإن الازدواجية بين العقل والشعور والانفعالات جزء من طبيعة الإنسان، وإن مأساة ( راسكول ) في عدم فهمه للانشطار الذي تقوم عليه النفس البشرية ، مع أنه عانى ذلك يعني باللغة الروسية ( الانشقاق والانقسام ). “ raskolot “الانشطار ، حتى اسمه
فيجب على الإنسان أن يكون " عقلاً وروح " لا أن يحكّم عقله بعيداً عن الروح والعكس صحيح؛
إذاً الجريمة والعقاب هي تجسيد لمعاناة الضمير للإنسان بعد أن يرتكب القتل ، الضمير هو الله، وهو في داخل كلٍّ منّــا. بعضهم يعيش فقط بمعادلة العقل، هذا العقل البارد، لا يوجد وحده، ما إن يمارس القاتل جريمته حتى يسقط في أزمة الضمير، لأن الإنسان مشاعر وليس عقلاً فقط، والألم يشتد داخل الضمير عندما نقدِم على قتل شخص ٍ بريء.. فيجب علينا أن نعلّي من قيمة الحياة، مهما كان صاحب هذه الحياة، لأن الإنسان لن يجد شفيعاً داخلياً ،سينهض الضمير الحي، لأننا حين نصغي للضمير نقوّم أفعالنا (( إن من يقتل إنسان كأنما قتل الناس جميعاً )). الاعتراف في الدين المسيحي نوعٌ من التطهير . إذاً نحن أمام قاتل غير عادي لا ننفر منه، لأنه رأى في القتل جحيماً له. ليس كل إنسان لديه ضمير اليوم، لذلك يقتل بدم ٍ بارد بسبب فقدان إنسانيته؛ فالمُثل العليا يجب الدفاع عنها من أجل إقامة العدل ورفع الظلم الذي اتسعت رقعته، وكما قال (دوستويفيسكي): "لو أن إنقاذ العالم كله يكون بموت طفل ٍ واحد علينا أن نرفض هذا الموت"!!.
هوامش : دراسة في الأدب المقارن للـ د . ماجدة حمود . ( جامعة دمشق )
عروة العبد
ألف دمشق *
08-أيار-2021
19-حزيران-2012 | |
12-حزيران-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |