الثورة والجسد
2012-06-27
يصل بنا الأمر إلى أننا لا نعرف ما يستطيعه الجسد؛ إننا نتكلم عن الوعي، عن الروح، نثرثر حول كل ذلك، غير أننا لا نعرف علامَ يقدر الجسد، أي قوى هي قواه وماذا تهيئ؟
(سبينوزا)
كان إقدام الشاب التونسيّ )محمد البوعزيزي( على إضرام النيران في جسده احتجاجاً على واقع ظالم ومشوّه ..؛ مفارَقة شكَّلت منعطفاً تاريخيّاً أسّه احتراق جسد، فاحتراق الجسد كان الممر الذي تسلَّلت عبره روح البوعزيزي لتحلّ في أجساد أخرى؛ بعد أن تواترت هذه الروح التي أطلقت عنان التمرّد لنفسها من شخصٍ فرد إلى أمّة؛ مُعلِنة رفض واقع الاستبداد والاستعباد، مكلّلة بحُلمٍ طالما طال انتظار تحقّقه. إنه الحُلم بـ"مدينة الديمقراطيّة". ولا غرو، مادام الجسد المشتعل كان أسّ "الربيع العربيّ"؛ أن يكون الجسد الطريّ الذي ذاق مرارة الآلام والعذابات مفجِّر الثورة السورية أيضاً، والمقصود هنا مجموعة من أطفال درعا كتبوا على جدران مدرستهم معاني إسقاط النظام، فاعتقلوا وعذّبوا، فكانوا بذلك الشرارة الأهم لإشعال فتيل الثورة. وإذ نتفكَّر مليّاً في الثورة السورية، نجدنا مرغمين على مشاركة سبينوزا في سؤاله حول مقدرات الجسد، وقواه، وما يُتوقع منه، وما قد ينجم عنه، بالاستهجان نفسه، مادام الجسد قد حضر في الثورة السورية حضوراً صاخباً قلّ نظيره في التاريخ. إذ الثورة مخضَّبة بالدماء والأشلاء. والجسد الإنساني فيها اقتحِمَ على نحو يقلق الضمير الإنساني الحي ويعذِّبه؛ فمجزرة "الحولة" في ريف حمص 25/5/2012 (مثلاً) كانت مشهداً مروِّعاً وغرائبيّاً مصحوباً بلا مبالاة تامة تجاه جميع صنوف القيم الأخلاقية والإنسانية والحضارية. مشهد ينقل العقل إلى عالم الوحوش التي تشبّهت بها كائنات حلّت اللّعنة على آدميّتهم ليكونوا حرّاس سيّد البلاد ملك الغابة المتروكة لفظاظة الغرائز وبهيميّتها.
غير أن حضور الجسد بصورته المأساويّة تلك، صحبه حضور آخر بدا كأنه تحدياً لصورته السابقة، أي صورة الجسد المعَذّب، المعَنّف، المغتصَب، المحروق، المذبوح، والمقتول..؛ تجلّت الصورة الأخرى للجسد في الرقص والدينامية، دفعت المرء للشعور بأنه أمام تراجيديا، جزء منها مأساويّ، يفنى في نهايته الجسد الثائر، لكنه يعود إلى الحياة من جديد في جزء آخر يمثِّل نوعاً من تحدٍّ صارخ لفنائه. ما يعني أن الثورة هي ثورة جسد على جسد مثلما هي ثورة عقل على عقل؛ فلما كان صحيحاً أن العقل الثوري الجديد أسّه الحرية، ويتمرِّد على عقل قديم، أمنيّ/سلطويّ؛ فالصحيح أيضاً أن الجسد الجديد الثائر جسد خصب، حر، تلقائيّ، ويتمرد على جسد نقيض يأتمر بالغرائز العدوانية المحضة، وهذا الأخير موسوم بالعقم، ويمثله الذكور من (الشبيحة) وأجهزة الأمن وقوات الجيش الموالية للسلطة التي احتكمت في قمعها للثورة عليها إلى الغرائز المنفلتة من كل عقال.
وقد كانت لغة الجسد الثائر، الحر، الرَّاقص هي الأجدر على ما يبدو في مقارعة اللغة التقليديّة، أي، لغة العقل المحمّل بمنطق "الواحد"، منطق الاختزال الذي يختصر الحياة، والكثرة، والتنوّع. إنه منطق تثبيت العقل واعتقال النهوض الفكري الذي مارس سلطته على الجسد باعتباره خصوبة ونبضاً وتعدّداً؛ فلغة الجسد في الثورة حرّرت الإنسان/الفرد من المفهوم المحنّط، ومن العقل السلطوي الذي لا ينتج إلا نفسه، حتى أنه بلي من فرط الاستعمال والتكرار. فـ"سوريا الأسد" تُشتَقّ من واحد أوليّ يتجلّى هو نفسه في واحد ثانٍ وثالث ورابع ...؛ وفي نهاية المطاف يكون الواحد الأوليّ هو السائد فحسب. لكن الجسد السوري الثائر يبدو كأنه انقلب على هذه القاعدة، فتجسّد بعد أن كان مغيّباً، وعتق نفسه من المفهوم المطلق، ومن الواحد، واتّصل مباشرة بالواقع، أي بمكانه الطبيعيّ، الماديّ، الحسيّ، الحركيّ، النابض بالتفاصيل والأحداث والمتغيِّرات.
لعل مشهد التظاهرات السلميّة المدنية العامرة بصفوف بشرية منظَّمة يحييها قرع الطبول والأغاني والتصفيق والرقص والدبكات الشعبية، لعل هذه التظاهرات هي الأنموذج الأهم الذي يدلّل على ولادة جسد جديد في وضعيّة غير معتادة يمكن للمرء أن يقرأ من خلالها ولادة مفاهيم وقيم وسلوكيات جديدة ..؛ فالتكاتف والترافق والتشابك بالأيدي وغيرها من الوضعيات التي اتخذ منها ثوار الحرية والكرامة في سوريا وضعيّة لأجسادهم المتعاضِدة تبدو كأنها تمرّد على وضعيّة قديمة قُسِر عليها الجسد خلال عقود من سواد الاستبداد بثقافته العسكرية المُجَنِّدة للمجتمع فكراً وسلوكاً وجسداً. وبوضعيته الثورية الرَّشيقة والأنيقة أفصح الجسد عن معاني التعاون والتآزر والمحبّة، وصفاء العلاقات الاجتماعية؛ كما أفصح عن عمق الشعور بوحدة المصير الإنسانيّ. ومما لا شكّ فيه إن هذه الوضعيّة الجديدة للجسد تعاكِس وضعيّة الجسد الذي تَعسْكَر طيلة عقود، وتناقِضها، فقد كان الجسد مقموعاً، تختفي حيويّته خلف وقارٍ متحجِّر اتّسم به عصر الاستبداد الذي حكم سوريا نحو نصف قرن من الزمن. فإن عقد مقارنة بسيطة بين وضعية الجسد الحر في مشهد الثوار المتكاتفين والمترافقين والمتشابكين بالأيدي، وقد تفتّحت أجسادهم للرقص منطلقة متقافِزة، في الشوارع والأحياء الساحات؛ وبين المشهد التقليديّ القديم لأجساد طلاب المدارس المجنَّدة كأنها كتل صلبة تتحرّك وفق إيعازات لها طابع عسكريّ صارم وحاد، تبيِّن الفرق بين الجسد الحر والجسد المستعبَد، وبين التشكيلات الحرة المنفتحة على الحوار، وبين الاستجابات الآلية للإيعازات والشعارات. إذ يقف الطلاب المعسكَرون أرتالاً بعضهم خلف بعض في وضعيّة الترادف التي تحول دون تلاقي الوجوه والعيون في إشارة رمزيّة تدلّ على انقطاع علاقات التواصل، فالتواصل بين الوجوه، والتقاء الأعين بالأعين هو من سمات الحوار والتخاطب السليم بين البشر، إن أرادوا العيش في مجتمع يحكمه السِّلم واعتراف الجميع بالجميع على قاعدة المواطنة؛ غير أن قيم المواطنة هذه لم تكن لتروق للقائمين على نظام استبدادي مبنيّ على كره الآخر، وعلى الجهد الحثيث لقطع العلاقة بين الناس وسط تعاظم مدِّ الرذائل في المجتمع السوريّ المحكوم بآحاد مشتقِّة من الواحد الأوليّ كما أسلفنا البيان؛ بعد أن استحال كل "واحد" طفيليّاً ينتضي عصا السلطة ويعظ الناس بـ"نصِّها المقدّس".
وعلى هذا، حكم الجسد في سوريا تصوُّر أيديولوجيّ مثقل بمسلّمات الرأي الواحد، والموقف الواحد، والسلوك الواحد، والحزب الواحد، حزب البعث الذي قتل الحياة السياسية، فأثّر التصوُّر الأيديولوجيّ في التعامل المَسلَكيّ مع الجسد. بيد أن الثورة السورية نفضت "تعاليم" البعث الطوباويّة حول الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وفكَّكت مزاعم الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة، لتنفث الحياة والنبض في الجسد. ما دفع بالجسد لأن يحضر بكثافته الوجودية والسياسية والجمالية والثورية ..؛ وحلّ الجسد الراقص محلّ الجسد الصنم، فالرقص كطريقة في التعبير الجسديّ، تتسم بالحيوية والوضوح، يحكمها مبدأ التناسق والتناغم وقوة التأثير الكلّيّ، وما التلقائيّة التي اتسم بهما الجسد الثائر إلا تعبير عن إرادة التحدّي والتفاؤل، وتعبير عن المباديء الجمالية المشبّعة هي الأخرى بروح التفاؤل وحُبّ الحياة والبحث الدَّؤوب عن النموذج الأمثل للإنسان بكبريائه وقوة إرادته ورقَّة عواطفه وحنوِّه ونُبْل مطامحه. وقد رافق تلقائيّة الجسد تفتُّح الفردية المنسجمة والمتصالحة مع الجماعة، والمتّفقة مع غاياتها. فالجسد هنا ما عاد مادة صمَّاء، إنما بات صانعاً للمفاهيم من خلال جبروت مقدرته في توليد أحداث عظيمة، وهكذا ما عادت المفاهيم والشعارات والقيم تسقط على الناس من الغيب. وما كان لأركان سلطة متجذِّرة، وراسخة بكل صنوف القهر والعنف أن تُضَعْضَع لو لم يكن الجسد المحتجّ حاضراً بالترافق مع الكلمة الثائرة في الشارع. وكيف لثورة أن تقوم إن لم تكن في أصلها قدَماً تطأ الأرض بخطى واثقة مزلزلة؟!. إذ التجربة التي يخوضها الجسد هي الثورة الحقيقيّة التي من شأنها إسقاط ما لا يسقط بالتنظير والتجريد. ومن الفعل والاختبار والتجربة، تنبع نظرية ثورية تحرّر العقل مما حمله من وباء وهباء. هكذا كشفت الثورة السورية عن عسف الفصل الذي حرص النظام على تكريسه بين الجزء والكل، وبين الجسد والروح، والفكر والسلوك، أي بين العالم الحسي الفيزيقي والعالم الروحيّ العقليّ.
ومع الجسد الذي أصبح حراً، يغدو للمقولة التي تتحدث عن العقل السليم في الجسم السليم معنى، إذ الجسم السليم يعني هنا الجسم الحر؛ كون حرية الجسد تلعب دوراً في تطهير ما في الذهن من لوثات السلطة من قبيل "مؤامرة" أو"طائفية" أو "خيانة"؛ ولا شكّ في أن مشهد انتصاب الجسد السوري الثائر أمام الدبابة والمدفع والرشاش عارياً إلا من سلاح الإرادة هو مشهد تطهيري للعقل والنفس والوجدان من كل اللوثات..! وحتى الجامع، يبدو كأنه بات متصلاً بالجسد بمقدار اتصاله بالروح، وما عاد مكاناً للتعبّد يتغرّب فيه الشخص عن حياته اليومية وهمومه السياسية والاقتصادية والاجتماعية لصالح السماء؛ بل بات بؤرة تحرير روحي وجسدي، يهيِّيء المرء للخروج منه محتجاً معترضاً لا ذليلاً. فالجسد الذي طالما كان راكعاً في الصلاة، كان على ما يبدو يأخذ جرعة معنوية تؤهله للخروج إلى الشارع حراً، منتصب القامة، مرفوع الرأس، من هنا قد نستوعب دلالة المشهد الذي طالما قدمته السلطة رداً على انتصاب الجسد الثائر، أي، مشهد سجود البعض وانحنائهم أمام صورة الرئيس كسيد أعظم وأب خالق فاطر، أو إله. وعليه أيضاً يمكن فهم الشعار الثوري (ما رح نركع/ غير لله ما رح نركع) رداً على السلطة التي ما فتئت تتعاطى مع ثورة الحرية والكرامة على أنها تجديف.
عن صباح سوريا
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |