الرفيق قدري
خاص ألف
2012-06-30
قدّرَ لي أن ألتقيَ " الرفيق قدري "، للمرّة الأولى، ذات يوم من أواخر صيف 1983. آنذاك، كان هوَ في زيارة لفندق الطلبة الأجانب؛ أين رأيتني فيه، حال وصولي لعاصمة البلاشفة. وحينما حضرَ إلى حجرَتنا، بصفته مسئول اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي السوري، فإنه لم يُشرّفني شخصياً بهذه المَكرمة: في مَعيّتي، يومئذٍ، كان ثمّة زميلٌ من نفس اختصاصي؛ هوَ ابن ذاك الرفيق، البارز، الذي سيُصبح بعد حوالي العقدَيْن من الأعوام أحدَ مُساعدي رئيس " اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين "؛ وهوَ الفصيلُ، الصغير، المُنشق عن الحزب إثرَ وفاة " الرفيق بكداش "، ووراثة زوجته لمَنصب الأمين العام. هذه المرأة، هيَ من تعيّن على شيمَتها، لاحقاً، أن تزيح الصّهرَ السابق، " الرفيق قدري "، مُمهّدة الأرضيّة المُناسبة لتولي ابنها، الوَحيد، الزعامة من بعدها.
ينبغي عليّ التنويه بحقيقة، أنني وقبلَ تعرّفي الشخصيّ على " الرفيق قدري "، كنتُ قد سَمِعتُ أشياءَ غير طيّبة عن مَسلكه في التعامل مع رفاق منظمة الاتحاد السوفييتي. أحدُهُم، كان صديقاً لي من الحارَة ( أي من حيّ ركن الدين، الدمشقيّ )؛ من عائلة فقيرة حدّ البؤس. ولا غرو أن يفرَح أفراد عائلته، حينما بشرهم بحصوله على منحة الدراسة، بل وربما وَضعَ أملهم فيه بتحسين حالهم، مُستقبلاً. إلا أن تلك الآمال تبدّدتْ تماماً، بفضل " الرفيق قدري "؛ الذي كان قد حضرَ لذات فندق الطلبة كي يَستمع لشكوى هذا الابن، العاثر الفأل: " إن مجموع علاماتي بالبكالوريا، العلميّة، يؤهلني لدراسة الطبّ. فلِمَ عليّ القبول بدراسة المعهد الصناعي، المتوسّط؛ وأين؟.. في مدينة باكو؟ "
" لأنكَ رفيق شيوعيّ. لأن وجودكَ، مُستقبلاً، في ورشات المصانع هوَ دعمٌ للحزب بين جماهير الطبقة العاملة "، أجابه المسئولُ العتيد بحَزم. عند ذلك، ذكّرَهُ صديقنا برفيق آخر، من الحارَة، كان قد جاء معه في الطائرة نفسها: " إنّ علاماته في البكالوريا العلميّة، المُتدنية، كانت بالكاد تكفيه لينالها. ولكنكم، بالرغم من ذلك، مَنحتموه امكانيّة دراسة الطبّ وفي مدينة كييف، أيضاً؟.. أبسبب أنه ابن الرفيقة فلانة، وأنا ابن امرأة فقيرة..؟ ". فما كان من " الرفيق قدري "، المَعروف بالطبع الهاديء، سوى الخروج عن طورهِ: " عُدْ، إذن، لحضن أمّكَ.. "، قالها بما يُشبه الصراخ. وحق له أن يَغضبَ؛ طالما أنّ " الرفيقة فلانة " لم تكُ إلا المُرافقة الشخصيّة لحماته المَرهوبة الجانب، ما غيرها.
***
المرّة الثانية، والأخيرة على أيّ حال، الشاهدة على لقائي بالرفيق المسئول عن المنظمة، كانت قد جرَت بمَحض المصادفة. إذ كنتُ أنتظر المصعدَ مع زميل الدراسة، آنف الذكر، ونحن في طريقنا للمسكن الطلابيّ، حينما رأينا " الرفيق قدري " يَخرج منه برفقة زوجته. هذه، المَشنوعة الصّيت بالصلف والعجرَفة، ابتعدت إلى جانب مُنتظرة ً رَجُلها الذي بادر إلى الاحتفاء بنا ببشاشة ومودّة. كان يبدو، في ذلكَ اليوم، بمزاج طيّب؛ هوَ من كان قد أنهى حديثاً دراساته العليا ويتهيأ للعودة إلى الوطن: " لقد حوّلنا اختصاصكَ، كما طلبتَ أنتَ، إلى هندسة الديكور.. "، خاطبَ زميلي مُبتسماً. ثمّ عادَ، هذه المرّة، ليلقي عليّ نظرة فيها شيء من الحيرة: " وعلى حدّ علمي، فإنكَ ترغب بنفس الاختصاص، المُسجّل فيه أنت من قبل؟ ". وكنتُ، من جهتي، قد أصررتُ على دراسة فنّ الغرافيك، بعدما شاءَ ذلك الزميل أن يغيّرها إلى هندسة الديكور؛ بما أن هذه، الأخيرة، ستجعل صاحبَها، الخريج، يحظى بالمَكانة الاجتماعيّة والمَردود الماديّ، الجيّدَيْن.
يُمكن القول، بأنه علاوة على البدعَة، المَعروفة، في تقليد نبرَة وحركات وتصرّفات الأمين العام، شبه المؤبّد، فقد كان ثمّة مَرجعٌ آخر لشخصيّة " الرفيق قدري "؛ وهوَ كونه ابن أسرة أرستقراطيّة الجذور: جدّه لأبيه، المُكنى هوَ باسمِهِ، كان بالأصل من مدينة ديار بكر، الكرديّة؛ من آل " جميل باشا ". هذا الجدّ، لعبَ دوراً مهمّاً في اليقظة القوميّة لأبناء شعبهِ، سواءً بسواء أكان في موطنه الأول أو في سورية؛ موطن المنفى. ويُمكن للمرء، المُهتم، معاينة هذا الدَور من خلال قراءة مذكرات الرّجل، التي ترجمها إلى العربية الصديق د. رضوان علي؛ الذي كان بنفسه يُداوم في قسم الدراسات العليا بجامعة موسكو، في الفترة التي شهدتْ فيها وصولي للمدينة: لقد تسنى لي، فتىً، أن ألتقيَ إتفاقاً ذلك الجدّ في منزلهم، الكائن وقتذاك مُقابل " جامع صلاح الدين "، على بعد أمتار قليلة من حصن الأمين العام، الخالد. كما أنني، في آخر المطاف، شاركتُ بتشييع جنازته، المُهيبة، التي جدّتْ بعيدَ فترة قصيرة من ذلك اللقاء، العابر.
إذ كنتُ زميلاً لشقيقيْ " الرفيق قدري "، في تنظيم الشباب الديمقراطي، فإنّ علاقتي آنذاك بأحدهما، " خالد "، كانت طيّبة ووديّة. هذا الشقيق، الدمث الخلق والطيّب القلب، التقيتُ معه لاحقاً في موسكو؛ هناك، في جناح فخم من فندق دوليّ، يُقيم فيه والدُهُ ويستعمله كمكتبٍ تجاريّ. وكنتُ قد أخذتُ، عبْرَ الهاتف، ذلك المَوعد مع الأبّ، سَعياً لوساطته في مُشكلة دراسيّة، طارئة. وإذن، حينما تعجز منظمة الحزب عن حلّ مُشكلة لأحد الرفاق، فإنها تتوسّلُ طرقاً أخرى للوصول إلى الجهات المُتنفذة في وزارة التعليم، السوفييتية. " فؤاد بك " هذا، كان من قبل سائقاً في احدى الوزارات، بعدما سبق وصادرَ الاصلاحُ الزراعيّ الأراضي الخصبة، الوفيرة، التي كانت عائلته تتمّلكها في منطقة الجزيرة. ولكن، إثرَ مُصاهرة الابن البكر، " فلمز "، للرفيق الأمين العام، فإنّ الأبّ سُرعان ما وَضع قدمَيْهِ على طريق الثراء؛ بوَصفه المُعتمد التجاري السوفييتي بدمشق: ذلك الصّهر، لم يَكُ سوى " الرفيق قدري " بالذات، بعدما تمّ تغييرُ اسمِهِ، الكرديّ. هذا التعريب، شمَلَ أيضاً اسمَيْ الابن الأصغر، " بلند "، والابنة الوحيدة، " صافيناز ". في منظمة الاتحاد السوفييتي، تحت قيادة الصّهر العتيد، فإنّ أيّ تعبير عن الولاء القوميّ الكرديّ، مهما يكن نوعه، كان كافياً لتقديم الرفيق المَعنيّ إلى محاكمة حزبيّة، تنتهي غالباً بفصله والتشهير به ـ كتحريفيّ ضيّق الفكر.
***
المحكمة الحزبيّة؛ إنها المُمارسة التعسفيّة، المُمنهجة، التي ارتبطتْ آنئذٍ باسم " الرفيق قدري ". ثمّة، في موسكو، تسنى لي التعرّف على بعض ضحايا هذه المحكمة، وسماع شهاداتهم عما كان يُستخدم فيها من أساليب ارهابيّة، ستالينيّة: وإذ أربط الأمرَ بالديكتاتور السوفييتي، المَشنوع الاسم، فلأنه هوَ من ابتدَع هذه المحكمة الحزبيّة وأضرابها؛ من اعترافات مُسجّلة وإبداء الندم وطلب الصفح والنقد الذاتي.. والمُنتهية بالرفاق الحزبيين، المساكين، إلى سدّة المشنقة أو حقل الاعدام بالرصاص. نفس الأساليب، وَرَثها فيما بعد " الرفيق بكداش " عن استاذه ذاك، لكي يُطبقها في الحزب الشيوعي السوريّ ( واللبنانيّ أيضاً )، وعلى نطاق واسع. إنّ معظمَ مؤسسي وكوادر الحزبَيْن، قد ابعدوا عن التنظيم بعدما اخضع كلّ منهم للمحاكمة ومن ثمّ للتشهير المُنتهي بالنبذ والإقصاء والنسيان. لسخرية المَقدور، فإنّ " الرفيق بكداش "، الذي لطالما أسندَ ظهرَهُ بالرفاق السوفييت في مواجهة رفاقه داخل الحزب، فقد واجه في آخر عُمْرهِ مَصيرَ ضحاياه؛ عندما استهلّت سياسة البيريسترويكا، وما أعقبها من انهيار جدار برلين وسائر المنظومة الشيوعيّة.
" الرفيق قدري "، كان مَصيرُهُ أقلّ وطأةً ولا غرو. كونه الابن البكر لملياردير، فإنه استفادَ من نصيبه في الورثة لكي يستهلّ بتجارة السلاح مع بعض من كانوا، سابقاً، مسئولين في الحزب والدولة، السوفييتيَيْن. وهوَ، منذ 15 آذار 2011، إذ يُصرّح في كلّ مرة للصحافة بشكر روسيا لمُساندتها نظام الممانعة والمقاومة؛ فلأنه وَسيطها في تصدير السلاح وبمقابل عمولات مَعروفة، مُجزيَة. الأجهزة الأمنية، المُتحكّمة بهذا النظام، كانت هيَ من أوعز للرفيق الشيوعيّ، المُعارض، بحضور ما كان يُسمّى " مؤتمر الحوار الوطني "، والمُزايدة على الحضور في كيت وكيت: نعم، كانوا يُهيئون " الرفيق قدري " ليُصبحَ بيدقاً، أكثر جدّة، من بيادق الفساد والزيف والخداع والمُراءاة؛ وهذه المرّة، بصفتهِ رئيساً للمعارضة ـ كذا ـ الوطنيّة. بالمُقلبل، ثمّة في المقرّ المركزيّ لجبهة المولاة، الوطنيّة التقدميّة، ما فتأتْ الحماة السابقة لهذا الرفيق، المُشارفة على سن الخرَف، مُتمسّكة بكرسيها بعدما اطمأنتْ على مُستقبل ابنها، الوحيد.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |