رواية " الجريمة والعقاب " في السينما المصرية
خاص ألف
2012-09-23
1
ليس بلا مَغزى أن يكون الفيلمُ الأول، في تاريخ السينما المصريّة، مقتبساً عن رواية مصريّة، مهجّنة: إنها رواية " زينب " للكاتب محمد حسين هيكل، المقتبس موضوعها عن قصّة فرنسيّة. إلا أنّ المخرجين المصريين، الكلاسيكيين، عمدوا لاحقاً إلى الاقتباس المباشر عن الأفلام الغربية ( الأمريكية بشكل خاص )، إن كان لناحية القصّة أو حتى المعالجة الفنية. في هذا الشأن، يتذكّر المخرج صلاح أبو سيف كيف أصيب المنتجُ بالدهشة حينما قدّم له سيناريو فيلم جديد كتبه أديبٌ محليّ، ناشيء: " لِمَ علينا أن ندفع ثمن القصّة، ولدينا ما نشاء من أفلام هوليوود نستطيع الاقتباس عن أحدها؟ "، قال المنتجُ باستنكار. ذلك، حصل في العام 1947 ، عندما قدّم نجيب محفوظ سيناريو فيلم " مغامرات عنتر وعبلة " لرائد الواقعية في السينما المصريّة، مُستهلاً العمل الإبداعيّ معه. عشرة أعوام، على الأثر، وكان موعدُ الشاشة الكبيرة مع فيلم مأخوذ عن إحدى أشهر الروايات العالميّة.
رواية " الجريمة والعقاب "، للأديب الروسي العظيم دستويفسكي، ما تفتأ تلقى رواجاً واسعاً في عالمنا بوصفها ليسَ عملاً كلاسيكياً فقط، بل وأيضاً ذات موضوع انسانيّ، عميق، يتصل دوماً بالراهن والمُعاصر. هذه الرواية، المنشورة في مستهلّ العقد السادس من القرن التاسع عشر، تنتمي لما عرّفه رولان بارت بـ " النص "؛ أي الكتاب المنفتح على القراءات المتعدّدة. إنها قصّة الشاب الفقير راسكولنيكوف، بدءاً باعتلاج فكرةٍ في رأسه؛ وهيَ أن على الانسان أن يختارَ ما بين العيش مثل حشرة أو مثل نابليون. إنه كان يرى، أيضاً، أن على من صمّم على الاختيار الثاني ألا يأبه بأيّ عائق قد يُجابه إرادته، حتى لو أدى ذلك لارتكاب جريمة. لقد نجحَ هذا الشاب، نظرياً، في الإختيار الصّعب. بيْدَ أنه، عملياً، لن يلبث أن يقع ضحيّة شعور ساحق بتأنيب الضمير، خصوصاً مع معرفته بأنّ اجتيازه للعائق، المفترض، لا يمكن أن يمرّ بدون عقاب. هذه الحبكة، نصادفها في روايات أخرى للكاتب، وجدَت طريقها إلى السينما المصريّة؛ مثل فيلم " الجريح " عن رواية " الأبله " وفيلم " الأخوة الأعداء " عن رواية " الأخوة كارامازوف ".
2
" الجريمة هيَ بمثابة الإخراج الحياتي للمشكلة الأخلاقية من وجهة نظر دينية. أما العقاب، فيعدّ الشكل الذي يجسّد حلّها. ولهذا السبب فإنّ كليهما يمثلان أيضاً الثيمة الأساسيّة لأعمال دستويفسكي ": هكذا كتبَ، باختين، الناقدُ الروسي المتخصّص بأدب مواطنه العبقريّ. تأكيدُ الناقد على " وجهة النظر الدينية " لدستويفسكي، يُحيلنا إلى قراءة السيناريست لهذه الرواية موضوع بحثنا. إننا نتكلم هنا عن الفيلم المصريّ " الجريمة والعقاب "، المُنتَج عام 1957، من اخراج ابراهيم عمارة. هذا المخرج، المُهتم بالأفلام الدينية المواضيع، قد يكون تدخلَ بشكل أو بآخر في تعديل قصّة فيلم " الجريمة والعقاب " لوضعها في جوّ البيئة الإسلامية، المَحلية؛ هوَ من كان أيضاً يُمَثل بين حين وآخر دورَ رجل الدين في بعض أفلام تلك المرحلة المبكرة. جاز لنا هذا الرأي، بما أن من وَضَعَ سيناريو الفيلم، وهوَ محمد عثمان، ليست له أعمال مميّزة في السينما المصرية.
" التمصيرُ " السينمائيّ للرواية الروسية، انسحَبَ أولاً على مسألة الزمن. إنّ قسوة القصّة، ومساسها في شكل خاص لموضوع حسّاس اجتماعياً، قد يكون دافعاً لصناع الفيلم أن يوحوا بوقوع أحداث القصّة خلال فترة الإحتلال البريطانيّ. أو أن ذلك تمّ خشية ً من الرقابة، بما أن الشيمة السائدة بعد الانقلاب الناصريّ كانت تتمثل في إعادة كلّ السلبيات إلى عهد الأسرة الملكية. أما متن القصّة، المُعتمد عليها الفيلم، فقد جرى الاهتمام به بما يتناسب مع بيئة مجتمع القاهرة، المحافظ. بكلمة أخرى، أنّ الأفكار الأساسية في الرواية الأصل قد ضاعت تقريباً خلال معالجة أحداث فيلم " الجريمة والعقاب "، حدّ أنه لم يبق من تلك الرواية سوى العنوان: الثيمة الأهم في الرواية، كما عرضناها آنفاً، والمتحدّدة بفكرةٍ استحوذت على بطلها، قد تمّ استبعادها تماماً في الفيلم لصالح ثيمة أخرى، ثانوية، تتركّز على مقارنة " أحمد " ( الفنان الكبير شكري سرحان ) وضع شقيقته، المُجبرَة على الزواج من رجل لا تحبّه، مع وضع حبيبته " سامية " ( الفنانة ماجدة )، التي يدفعها بؤس اسرتها وجوع اخوتها الصغار إلى بيع جسدها.
ولكننا هنا لن نغفِلَ ذكر حقيقة هامّة، وهيَ أنّ ما أنقذ الفيلم من السقوط كان حرفيّة المخرج، المتمكّن، فضلاً عن الأداء الرائع لمعظم أبطاله. إذ طوال مدّة عرض هذا العمل السينمائيّ، وهي 120 دقيقة، لم نجدَ تفصيلاً واحداً زائداً، أو أيّ مشهدٍ مُبتذل. غير أنّ إهمال قصّة الفيلم لثيمة الرواية، الأصل، حرَمَها من إمكانيّة تجسيد فكرة " القرين " كما عرضتها عبقريّة دستويفسكي، وخصوصاً ثنائيّة راسكولنيكوف / سفيدريغالوف: هذا الأخير، طالما أنه كان يُبيح اجتياز أيّ عائق أخلاقيّ في سبيل مصلحته وشهواته، فإنه سيُحرج البطلَ الذي يرفضه بشدّة كزوج محتمل لأخته؛ وكأنما يوحي له بفشل فكرته التي سيرتكب من أجلها جريمة قتل. بالمقابل، قدّم لنا الفيلمُ الخطيبَ العتيد بصفة تاجر خردة ( قام بدوره الفنان عبد الغني قمر )، الذي يستغل فقرَ تلك الأسرة للتقدّم بطلب يد ابنتها وبالرغم من الفارق الكبير في السن بينهما. هذه الفتاة ( الفنانة القديرة زهرة العلا )، تستسلم لرغبة والدتها وترضى بذلك الخطيب على الرغم من أن قلبها يميل إلى " حسين "، صديق أخيها. إنّ المخرجَ أعطى الفنان عبد المنعم ابراهيم فرصة العمر ليثبت موهبته حقاً في الميلودراما، بدور صديق البطل؛ طالما أنّ هذا الفنان، كما هو معروف، اعتاد على تأدية شخصيّة الشاب خفيف الظل ـ كممثل ثانويّ في الأفلام الكوميدية، خصوصاً.
3
بعد مضيّ عشرين عاماً، عادت السينما المصريّة لمعالجة رواية دستويفسكي نفسها. إن فيلم " سونيا والمجنون "، المنتج عام 1977، قد تعهّد إخراجه حسام الدين مصطفى؛ الذي كانت أعماله، عموماً، منذورة لشباك التذاكر أكثر منها للفن الخالص. أما السيناريست، محمود دياب، فإنه عُرفَ كأحد أهمّ كتاب المسرح في موطن النيل. هذه الحقيقة، ربما تفسّرُ الطريقة الخطابيّة لبطل الفيلم، علاوة على جعل المنزل هوَ الفسحة الوحيدة لفكر البطل وهواجسه وهذيانه: أي على عكس بطل الرواية الأصل، الذي اعتاد أن يُهوّم في شوارع وطرقات بطرسبورغ. من جانبه، اعتمدَ المخرجُ موسيقى تصويرية ضعيفة، من تأليف عمر خورشيد، فيما لو قارناها بموسيقى فيلم " الجريمة والعقاب "، البليغة، المُنتخبة من سمفونيات عالمية. ولكن العمل الجديد هذا، اشترك مع سلفه بكونه فيلماً للنجوم وكما يجدُرُ بعمل تجاريّ.
السيناريست، وهوَ كاتبٌ مبدع ولا ريب، قدّمَ رؤيته لرواية " الجريمة والعقاب "، عبرَ اسقاطها على البيئة المحليّة لمجتمع القاهرة المسلم. ويمكن القول، مبدئياً، أنّ محمود دياب حافظ على التفاصيل الأساسيّة لرواية دستويفسكي، وبخاصّة ثيمتها الجوهريّة المتجسّدة بفكرة البطل عن ضرورة الاختيار في الحياة بغض النظر عن العوائق والعواقب. غيرَ أنّ الفيلم، هنا أيضاً، قدّمَ القصّة على أساس أنها جرت في منتصف الأربعينات من القرن الماضي: وكأنما من المستحيل، في نظر الرقابة، أن ينتمي فيلمٌ للواقع المُعاش، بما أنه يعالج فيما يعالجه مشكلة شاب فقير يرى قدّام عينيه كيف تتحوّل حبيبته إلى مومس لكي تنقذ أسرتها من غائلة الجوع، فيندفع هوَ لمنع لحاق شقيقته بذلك المصير بأن يسلب عجوزاً مرابية مالها إثرَ قتلها. هذا مع العلم، بأن نفس الرقابة سمَحَت آنذاك بعرض فيلم رديء، هوَ " مدافن مفروشة للإيجار "، الذي يتعرّض لحياة نماذج من ملايين المصريين المقيمين في المقابر على مشارف القاهرة.
يُنقل عن صلاح أبو سيف قولهُ، أنّ السيناريو الجيّد بمقدرته أن يصنع فيلماً جيّداً. فما بالك، ونحن أمام فيلم مُقتبس عن رواية خالدة من تأليف دستويفسكي: بيْدَ أنّ الأمر، على رأيي البسيط، ليسَ بهذه المساهلة. فالمخرج المبدع هوَ من يتعامل مع السيناريو الجيّد، وصولاً إلى باقي عناصر الفيلم. على ذلك، يمكنني المجازفة بالتأكيد، أنّ مخرجَ فيلم " سونيا والمجنون " لم يستفِد كثيراً من السيناريو، ناهيك عن متن الرواية الأصل في حال قراءته لها. هوَ ذا " مختار " بطلُ الفيلم ( الفنان محمود ياسين )، يُقدَّم باعتباره طالباً جامعياً، مثقفاً، حتى أن ثمّة تلميحاتٍ بكونه موهوباً في كتابة المقالات للصحف. هكذا مثقف، كانت تعذبه فكرة سامية عن الإنسان الخارق، جاز للمُخرج العتيد أن يجعل صديقه الوحيد يُفاجئنا من المشهد الأول وهوَ يعبّ من جوزة حشيش ويطلق جملاً سفيهة تشي بمستواه الخلقيّ، المنحط: فأين أداء ومسلك هذه الشخصية ( قام بدورها، كالعادة، الممثل سعيد صالح ) من شخصيّة " حسين "، التي رأينا كيف تَمَثلها ببراعة الفنانُ عبد المنعم ابراهيم؟.. والأفدح، في هذا الشأن، أن نعلمَ حقيقة أنّ سيناريو فيلم " سونيا والمجنون " كان ملتزماً بمتن الرواية الأصل؛ والتي يلعب فيها " رازومخين " دورَ صديق البطل بوصفه طالباً رزين السلوك ومستنير الفكر.
شقيقة البطل، ووالدته، تمّ الاستغناء عن حضورهما في فيلم " سونيا والمجنون "، في مقابل ظهور الخطيب ( الفنان نظيم شعراوي ) بمشهدٍ واحدٍ، حَسْب. لقد كان من الممكن، أيضاً، التخلي عن هذا الحضور؛ طالما أن المشهد ذاك، اليتيم، فشلَ حتى بوضعنا في صورة التماهي بين شقيقة البطل وحبيبته لناحية تشابه مصيريهما، ناهيك عن ثيمة " القرين "، في الرواية الأصل، والتي سبق وأوضحنا أهمّيتها في خطة دستويفسكي. وإذ أبدعت الفنانة القديرة، نجمة ابراهيم، بدور المرابية العجوز في فيلم " الجريمة والعقاب " بمشهدَيْن من أروع مشاهد الفيلم ( فضلاً عن مشهدٍ ثالث حيث تظهر للبطل في حلمِهِ )؛ فها هيَ قرينتها، في فيلم حسام الدين مصطفى هذا، عبارة عن ممثلة كومبارس لا تكاد تظهر سوى للحظات قليلة لا غير. بالمقابل، فإن مشاهد مطوّلة وعديدة، من الفيلم الأخير، كان وجودها مثل عدمها سواءً بسواء: مثلما في إقحام شخصيّتيْ العامل بشحذ السكاكين وابنته الخرساء، وكما لو أنّ مسألة حصول البطل على سلاح الجريمة هيَ مأثرة يتوجّب التوقف عندها في أربعة أو خمسة مشاهد..؟
شخصيّة المحقق، " بورفير "، في رواية دستويفسكي هذه، تلعب دوراً محورياً حتى أنّها سجّلت أطول وأهمّ الحوارات مع البطل. في فيلم " الجريمة والعقاب "، الكلاسيكيّ، جسّدَ الفنان القدير محمود المليجي تلك الشخصيّة ببراعة فائقة، وعلى الرغم من قلة المشاهد التي حظيَ بها في الفيلم. أما الفنان نور الشريف، المتعيّن عليه تمثيل شخصيّة محقق فيلم " سونيا والمجنون "، فإن دورَهُ كان باهتاً لدرجة أن أداءه للحوار، خصوصاً مع البطل، اتسمَ ببعض الخفة والابتذال. أعتقدُ أن المخرجَ، لو كان حصيفاً، لأسند دورَ المحقق لممثل أكثر نضوجاً وتجربة ـ كالفنان الكبير عماد حمدي، الذي ظهرَ في الفيلم بدور والد " سونيا ". هذه الأخيرة، جسّدَت الفنانة نجلاء فتحي دورَها؛ وهوَ، برأيي، لم يكن من أفضل أدوارها على الشاشة الكبيرة.
فيلم " سونيا والمجنون " كعمل تجاريّ ( بالنسبة للمنتج على الأقل )، استفادَ ولا شك من قصّة ممتعة تجلب رضى الجمهور وتلائم مستويات أفراده، الذهنية. بل حتى نهاية الفيلم، غير السعيدة، كانت متفقة وذوق جمهور أواخر عقد السبعينات؛ الذي شهِدَ هكذا نوع من الأفلام الميلودرامية. هذه النهاية، على أيّ حال، كانت غير موفقة بالمرّة وبغض الطرف عن تغرّبها عن نهاية الرواية الأصل: يُصاب " مختار " بالإحباط حينما تخبره " سونيا " بأن والدها عاد إلى عمله في المسرح وأنها لن تضطر بعد الآن لبيع جسدها في سبيل المال. لقد فكّر بطلنا بقسوة القدر، بما أن هذا الخبر السعيد قد جاء بعد فوات الأوان؛ بعدما قتل العجوز المرابية. إلا أنه بينما كان يتحدث مع حبيبته، تنتقل الكاميرا إلى مشهد آخر: هنا يبدو والد " سونيا " وهوَ ينفق نقودها في الخمارة، متهكّماً أمام الزبائن الآخرين من خداعه لها بحكاية عودته للعمل في المسرح. في المقابل، نرى نهاية فيلم " الجريمة والعقاب "، الكلاسيكيّ، أكثر قرباً من نصّ رواية دستويفسكي: ها هوَ " حسين "، إذن، يبشر صديقه " أحمد " بوراثته لعمه الثريّ، المتوفي فجأة، وأن لا مشاكل مادية بعد اليوم ستواجههما. هذه البشرى، جاءت متأخرة للبطل المتأهّب لتسليم نفسه إلى العدالة، بعدما استطاع المحقق اقناعه بذلك للاستفادة من الظروف المخففة بحسب قانون الجرائم. غير أن " أحمد " يمضي في الطريق إلى قسم البوليس، سعيداً نوعاً، طالما أنه كان متيقناً بأن الحبيبة ستنتظره إلى أن ينهي فترة عقوبته.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |