تمّو وزمن القتلة
خاص ألف
2012-10-06
في باريس، التي كنت قد قصدتها في أيار 2004 لحضور مؤتمر للمعارضة، تعرّفت على مشعل تمّو. سبق لي، في مقال قديم، أن فصّلتُ وَصفَ لقائي بالقائد الوطنيّ، الشهيد. عندما كنتُ أكتب ذاك المقال، المَنذور للفقيد الشاعر محمد الحسناوي، فلم تخامر ذهني فكرة أنّ يوماً سيأتي لكي أستعيد ذكرى مناضل آخر ممن تعرّفت عليهم خلال ذلك المؤتمر. وإذن، في أمسية ربيعيّة، رخيّة النسيم، كنتُ معتكفاً في منظرة الفندق الباريسيّ، الصغيرة والمبهجة في آن، حينما اقتحمَ عزلتي ضجيجٌ مَرِحٌ تبِعَهُ ظهور ثلاثة أشخاص: هيثم المناع، المسؤول عن تنظيم الاجتماع، برفقة كلّ من الشاعر ابراهيم اليوسف والناشط السياسيّ مشعل تمو؛ الذي كنتُ ألتقي به للمرّة الأولى.
***
ثمّة صوَر تذكاريّة لديّ، تجمعُ معظم المشاركين في المؤتمر، حيث يشمخ فيها " مشعلُ " بهيئةٍ بهيّة وأنيقة، شبيهةٍ بنجوم السينما الهوليووديّة، الكلاسيكيّة؛ من قامة فارعة وبنيَة قويّة، رياضيّة، فضلاً عن وسامة في الملامح المتناسقة وبريق من العينين يشي بالذكاء المتقد . إنّ الكثيرين من القادة السياسيين، الشعبيين، سواءً بسواء أكانوا من المشرق أو الغرب، ليتميّزون بتلك الهيئة، المهيبة. علاوة على ذلك، فقد تفرّد هذا القائدُ الكرديّ بصوت جهوريّ، كان يملأ أركان القاعة الكبيرة، المخصّصة لمؤتمر الحوار السوريّ؛ أين رأيتنا نجتمع على مدار أيام ثلاثة، أعقبت أمسية التعارف تلك، المَوْصوفة آنفاً.
***
يجدرُ القول، بأن مؤتمرَ باريس انعقدَ على خلفيّة انتفاضة القامشلي في 12 آذار من العام نفسه، حيث أسهمَ فيها مشعل التمّو بشكل فعّال وجنباً لجنب مع ابراهيم اليوسف؛ رفيق السّفر والإبداع، أيضاً: كان شهيدنا كاتباً بارعاً، كما تشهدُ عليه مقالاته ذات اللغة البليغة والأسلوب الممتع. وإذن، فقد حضرَ كلاهما في الطائرة القادمة من دمشق، وبصفة تمثيل كرد الداخل، إضافة ً لعدد آخر من المعارضين المنتمين لمختلف التيارات السياسيّة في سوريّة. تلك الانتفاضة، شهدَت حَدثاً مهمّاً ذا مغزى، تمثل في تحطيم تمثال المقبور حافظ الأسد بمدينة عامودا وفي سابقة لا مثيل لها. حديثنا عن مغزى الحَدث، يَتصلُ بما صرنا نعرفه عن شيمة النظام خلال الأشهر التسعة عشر من عمر ثورة الحريّة والكرامة، لجهة تعامله الوحشيّ مع المدن والبلدات التي قام مواطنوها بتطهيرها من أصنام الطاغية. انتفاضة القامشلي، اشتعلت بسبب شغبٍ في ملعب المدينة بدأه بعض مناصري منتخب دير الزور، الرياضيّ، حينما راحوا يرددون هتافات عنصريّة ضدّ الكرد. اليوم، أضحى معروفاً للجميع خبثُ النظام فيما يتعلّق بتأجيج الصراعات الاثنية والمذهبية بين أبناء الوطن الواحد. فإن مما له مغزاه، هنا أيضاً، أن نرى مدينة القامشلي وهيَ تفتح الآن صدرَها لاستقبال آلاف الأسر القادمة من مدينة دير الزور، خصوصاً، إثرَ استباحتها من لدن قوات الفرقة الرابعة، النازيّة.
***
البعض من حضور المؤتمر، من أصحاب دكاكين المعارضة الخارجيّة، كان ينظر شزراً إلى ناحية مواطنيهم، الكرد، المتجمعين في القاعة. لاحقاً، عرفتُ أنّ أكثر هؤلاء المعارضين، المزيفين، كانوا من المتعايشين على فضلات سفارة صدّام في باريس. لا غرو، إذن، أن اصطدم شخصيّاً مع أحدهم؛ وكان طبيباً جراحاً، مُهاجراً إلى عاصمة النور منذ عقود عديدة. وكان قد أبدى اعتراضه على إعادة الجنسيّة لأكراد محافظة الحسكة من المسجّلين كأجانب، وفق احصاء عام 1962 سيء الصّيت: " ليسوا جميعاً من المواطنين السوريين، بل ان العديدَ منهم هاجرَ من تركية إثرَ الثورات الكردية في عشرينات القرن المنصرم "، قالها باعتداد ثمّ أضاف وهوَ يتفحّص وجوه الآخرين " وأعتقد أنّ جميع الحاضرين هنا، كما آملُ، هم من المواطنين السوريين..؟ "
" لا، أنا لستُ مواطناً سورياً يا دكتور؛ يا من منحتك الدولة الفرنسيّة جنسيّتها بعد تشريفك إلى البلد بخمس سنوات "، هتفتُ من مكاني بنبرَة ساخرة. لهجتي الدمشقيّة، الواضحة، علاوة على جوّ المَرَح الذي عمّ القاعة، جعلا الرّجلَ يُدرك أنني أهزأ بكلامه. في مواقف كهذه، كان منظم المؤتمر العتيد يتدخل كي يخفف من غلواء الجدل. إلى جانبه على المنصّة، كان يجلس أحياناً مشعل التمّو. هذا الأخير، احتدّ بشدّة أثناء مناقشتي للناطق الرسميّ باسم جماعة الأخوان المسلمين، بخصوص مفهومه للمقاومة، فما كان منه إلا التوجّه إليّ، مُنذراً، بأن ألتزم الهدوء أو أن أخرج من القاعة.
***
فيما بعد، وحينما التقينا مرّة أخرى في السويد ( في منزل الدكتور عبد الباسط سيدا بمدينة أوبسالا )، فإنّ مشعل التمّو اعتذرَ عما بدَرَ منه بحقي خلال ذلك المؤتمر. ثمّ عادَ ليتساءل باهتمام عن سبب عدم ردّي عليه آنذاك، فأجبته قائلاً: " لكي لا تنشب بيننا، معركة أخويّة، أمام أولئك الحضور القومجييين ". فانفجر الجميع بالضحك، بما أنني شدّدت باللغة الكرديّة على عبارة " معركة أخويّة "؛ وهيَ العبارة، التي كانت شائعة في كردستان العراق بخصوص التناحر بين حزبَيْها الرئيسيَيْن. ذلك، جدّ بعد حوالي الشهر من لقاء باريس، حيث تنقل الضيفان مشعل وابراهيم في عدد من الدول الأوروبيّة لإقامة الندوات مع جالياتها الكرديّة. جديرٌ بالذكر، أنّ مُضيفنا في أمسية أوبسالا هوَ من تعيّن عليه الحلول بمكان الشهيد مشعل التمّو، في قيادة المجلس الوطني السوريّ. وكان الدكتور سيدا، قبل حادثة الاغتيال بأسابيع قليلة، قد تلقى رسالة من الشهيد يستنكرُ فيها تنطعه لتمثيل الحراك الشعبيّ، المستقل، في المناطق الكرديّة. من جهتي، وبعدما نشرتُ مؤخراً مقالاً ساخراً، بعنوان " جمعة عبد الباسط، العثمانية "، فقد وردَت إليّ بالايميل رسالة مجهولة العنوان والمصدر، يُنكر فيها صاحبها عليّ ما أسماه " التطاول على قامات العمالقة.. ".
***
خلال مؤتمر باريس، تواجدَ عددٌ من أنصار أوجلان بصفة وفد إعلامي تابع لفضائيّتهم. حينما كنتُ أتجادل مع هذا أو ذاك من الحضور، فإنّ بعض هؤلاء الإعلاميين كانوا يحدجونني بنظراتٍ غير طيّبة. خارجاً، خلال أوقات الاستراحة، فإنّ مذيع الفضائيّة هذه كان يجري اللقاءات الوديّة مع نفس أولئك العروبيين والاسلامويين، بدلاً عن مقابلة من كان يُجادلهم ويفند أفكارهم، الشوفينيّة. الغريب أيضاً، أنّ هؤلاء الأوجلانيين كانوا بمنأىً تماماً عما كان يجري في قاعة الاجتماع؛ همُ من يتشدقون اليومَ بقيادتهم ـ كذا ـ لانتفاضة القامشلي عام 2004. إنّ الأجهزة الأمنيّة للنظام، هيَ في الواقع من حركت آنذاك بيادقها، الأوجلانيّة، لكي يتمّ تشويه صورة الانتفاضة بأعين شركاء الوطن من المكوّنات الأخرى. ظهرَ ذلك جلياً في قيام عناصر ب ك ك في المدن الكرديّة بإحراق المؤسسات العامّة، إلى نهوض رفاقهم في بروكسيل لاقتحام سفارة النظام والتصرّف الاستفزازي المتمثل بإنزال العلم السوريّ ورفع العلم الكرديّ مكانه. وعلاوة على ذلك الهدف الخبيث، المَوْسوم، فإنّ النظام الأسديّ كان يبغي التلويح مجدداً لأنقرة بالورقة الكرديّة، من خلال إظهار نفسه الضامن لأمن حدودها. فما أشبه اليوم بالبارحة: جماعة أوجلان، المحليّة، عادت لترهن نفسها لخدمة النظام الأسديّ مذ لحظة انطلاق ثورة الحريّة والكرامة. في هذه المرّة، تناهت السفالة بهؤلاء الشبيحة حدّ الإقدام على اغتيال مشعل تمّو، القائد الوطني الكبير؛ الذي كان قد خرجَ حديثاً من معتقلات النظام بعدما قضى فيها ثلاثة أعوام. لقد أنكرَ شبيحة الكرد، في حينه، علاقتهم بتلك الجريمة المشينة. غير أنّ ما أعقبها من مسلسل الاغتيالات والاعتداءات والتهديدات بحق الناشطين من لدن أولئك العملاء، إضافة ً لتعاونهم مؤخراً مع الأمن لإخضاع المناطق الكرديّة بالعنف والإرهاب؛ كلّ هذا قد أدى إلى إدانتهم بقوّة من عموم الشعب السوريّ.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |