حسن ومرقص: فيلم الفتنة الدينية
خاص ألف
2012-10-16
1
التنويع على أعمال الغير، أو انتحالها، يَدخل ولا ريب في مصطلح " السرقة الفنية "، سواءً بسواء أكان ذلك في مجال اللون أو الصورة أو الكلمة. لعلّ الأعمال الفنية، الكلاسيكية، هيَ الأكثر تعرّضاً لسرقات كهذه وبخاصّة لدينا في المَشرق؛ حيث حقوق المبدع ضائعة حتى في حياته، فما بالك بعد الممات. وبما أننا بصدد قراءة فيلم لعادل إمام، هوَ " حسن ومرقص "، فلا بدّ من الإشارة إلى شيمة هذا المُمثل، المُخضرم، فيما يتعلّق بحديثنا عن السرقة الفنية. إذ مع تناهي نجوميّة عادل إمام ( حدّ أنه أصبح ظاهرة بحق )، فإن الطلبَ على المزيد من أعماله كان ولا شك قد شغلَ المنتجين والمخرجين على حدّ سواء. ويبدو أنّ قلّة النصوص الإبداعية، المميّزة، كان الدافع الأهمّ لأولئك العاملين مع فناننا، النجم، لكي يلتفتوا نحوَ الأفلام القديمة فيعملوا فيها انتحالاً وتنويعاً واقتباساً. هذا دونما إغفال حقيقة، أنه للسبب نفسه المُداور حول ندرة النصوص الجديدة، الجيّدة، فإنّ السرقة امتدّت لتشملَ أعمالاً أجنبيّة أيضاً ـ كما في أفلام شهيرة لعادل إمام، من قبيل " أمير الظلام "، " رسالة إلى الوالي "، " ليلة شتاء دافئة "، " المشبوه " وغيرها.
من ناحية أخرى، يتعيّن القول بأنّ عادل إمام أضحى فناناً إشكالياً لسبب آخر. فهوَ أكثر أهل الفنّ تعرّضاً للتهجّم من جانب الجماعات الإسلاميّة، أكانت متشدّدة أو معتدلة، وعلى خلفيّة العديد من أفلامه التي ناقشت قضايا الإرهاب والفساد والدجل والطائفية؛ مثلما على سبيل المثال في " الإرهاب والكباب "، " الإرهابي "، " طيور الظلام " و" حسن ومرقص ". هذا الأخير، المنتج عام 2008، يُعتبر الأشدّ جرأة فيما يخصّ معالجة موضوع الفتنة الدينية بين المسلمين والأقباط. إنّ تقمّص عادل إمام لدَور رجل دين مسيحيّ، قد ضافرَ من نقمة أفراد الجماعات الإسلاميّة؛ همُ غير المتفهمين، بسبب قصورهم الثقافيّ، حتى طبيعة عمل الممثل السينمائي أو الدرامي أو المسرحي. في هذا المجال، كم يثير السخرية ذلك الشرط المُحتّم على بطل مسلسل " عمر " أن يلتزم به بحَسَب لجنة العلماء المسلمين، والمُحدّد بتعهّده التوقف عن العمل الفنيّ لمدّة أربع سنوات: أي أنّ التمثيل، من وجهة نظر أولئك القاصرين ثقافياً، وحتى عقلياً، هوَ عملٌ مناف للأخلاق فيما لو كان خارج إطار المسلسلات الدينية..؟
2
عادل خيري ( 1931 ـ 1963 )، هوَ اسمٌ خالدٌ في عالم المسرح المصريّ. إنه عبقريّة، نادرة، تفجّرت وخمدت بسرعة ـ كالشهاب المنير. وعلى رأيي، فإنّ هذا الممثل الكوميديّ لو لم يُخترَم عمرُهُ باكراً، لكان من الصعب على سميّه، عادل إمام، أن يحظى بالمكانة المرموقة التي يتربّع عليها اليومَ في عالم الفن. فلم يكن عادل خيري ممثلاً حَسْب، بل كان مخرجاً ومؤلّفاً أيضاً. مسرحيّته الشهيرة، " حسن ومرقص وكوهين "، التي قام ببطولتها في بداية عقد الخمسينات، هيَ أيضاً من تأليفه. إنها تضعنا في أجواء المجتمع المصري عشيّة ثورة تموز، ولو بصورة ايحائيّة. والقصّة تدور حولَ الشاب " عباس "، الذي يَعمل في مخزن أدوية يملكه مسلم ومسيحي ويهودي، وكان يلاقي التعسّف من كلّ منهم على الدرجة نفسها. حتى إذا جرى لعلم هؤلاء بأنّ الشاب المسكين سيَرث من عمّه، المتوفي حديثاً، مبلغاً ضخماً من المال، فإنهم يحتالون على سلبِهِ ما أمكن من هذه الثروة. ذلك، كان بوساطة عقد عمل براتب جيّد لمدّة عشرين عاماً، بحيث أن " عباس " لو لم يلتزم به فإنّ عليه تعويض مخدوميه بملبغ جسيم.
بضعة أعوام، على أثر ذاك العرض المسرحيّ، وإذا به يتحوّل إلى فيلم سينمائيّ من إخراج فؤاد الجزايرلي. الغريب، أنه تمّ استبعاد الفنان عادل خيري من بطولة الفيلم لصالح زميله الكوميديان حسن فايق. هذا الأخير، على أيّ حال، أبدع في تجسيد دور " عباس " جنباً لجنب مع ثلاثة من أشهر نجوم زمنه: عبد الفتاح القصري ( بدور حسن ) ومحمد كمال المصري ( مرقص ) واستيفان روستي ( كوهين )؛ الذي كان هوَ بنفسه يهودياً اسكندرانياً من أصل إيطاليّ. كما أنّ الفنان الفتيّ، شكري سرحان، لعبَ في الفيلم دوراً صغيراً ( بصفة شابّ فقير يعشق ابنة حسن افندي )، يُعدّ من أوائل مساهماته على الشاشة الكبيرة. وعلى الرغم من حقيقة، أنّ قصّة فيلم " حسن ومرقص وكوهين " مأخوذة من المسرحيّة ذات العنوان نفسه، إلا أنه لاقى آنذاك انتقاداً حاداً من لدن رجال الدين اليهود.
" انت مفيش مثلك حتى بحارتنا "، هكذا يخاطبُ " كوهين " أحدَ الأشخاص المحتالين، بحسَب الفيلم، في إشارةٍ لا لبس فيها الى الحارة اليهودية؛ التي بالكاد كانت تخلو منها مدينة مصرية زمنئذٍ. تلك العبارة، العنصرية، لعلها أكثر ما أثار حفيظة حاخامات البلد من نصّ الحوار الذي وضعه مخرج الفيلم بنفسه؛ مع العلم بأنها لم ترد في النصّ المسرحيّ، الأصل. ما لم يتوقعه رجالُ الدين أولئك، أنّ ملّتهم بأسرها سيُحكم عليها لاحقاً بالرحيل من موطن النيل، نتيجة التحريض على الكراهية إثرَ الردّة السياسية التي حصلت عام 1954 مع إقصاء الرئيس محمد نجيب من لدن الطغمة العسكرية، الناصرية. بعد أكثر من نصف قرن، حينما آثرَ عادل إمام انتاجَ فيلمٍ بالتنويع على قصّة ذاك العرض المسرحيّ، فإنه حذف منه اسمَ " كوهين "؛ وبالتالي شخصيّته وملّته: لا غرو، إذن، أن يتساءل بعضهم ما إذا كان سيمضي نصف قرن آخر لكي يُنتج فيلمٌ جديد عن ذات المسرحية، فيخلو هذه المرّة من اسم " مرقص " وشخصيّته وملّته..؟
3
رامي إمام ( وهوَ نجلُ الفنان عادل إمام )، مخرجٌ موهوب قدّم عدّة أعمال ناجحة بالرغم من تجربته، الحديثة العهد نسبياً. إلا أنّ اختياره معالجة قضيّة حسّاسة للغاية اجتماعياً وسياسياً، وهيَ قضيّة الفتنة الدينية بين المسلمين والأقباط، قد يكون بتشجيع من والده. ترجيحنا لهذا الاحتمال، مردّه ما سبق وعرضناه عن اقتحام عادل إمام لهذه المفازة المَحظورة، الخطرة، والتي وضعته وجهاً لوجه أمام الجماعات الاسلامية. أما السيناريست يوسف معاطي، صاحب قصّة فيلم " حسن ومرقص "، فإنه كاتبٌ ساخر سبق أيضاً وتعاون مع عادل إمام في أعمال متنوّعة، سينمائية ومسرحية ودرامية. سينمائياً، كان تعاونهما قد أثمرَ عن أفلام جديرة بالمشاهدة، رغم قلتها؛ مثل " الولد محروس بتاع الوزير " و" عريس من جهة أمنية " وفيلمنا هذا، قيد الدراسة. إنّ تنويع السيناريست على فيلم " حسن ومرقص وكوهين "، الكلاسيكيّ، كان ناجحاً لناحية الحبكة فضلاً عن الفكرة. بيدَ أنّ سياق الأحداث، التي سارت قصّة الفيلم وفقه، انتهى إلى نتيجة غير صحيحة بسبب تعارضها مع الواقع وكما سنتطرق إليه في حينه.
اختيار المخرج للفنان الكبير، عمر الشريف، لتقاسم البطولة مع عادل إمام، كان صائباً ولا مَراء إن كان لناحية موهبته التي لا يُماري فيها أو لناحية أخرى، رمزيّة: أنّ عمر الشريف ( وهوَ بنفسه كان مسيحياً تحوّل إلى الاسلام كي يتزوج من الفنانة فاتن حمامة )، سيقوم في هذا الفيلم بدَور رجل دين، مسلم، يضطر لإخفاء شخصيّته تحت اسم نصرانيّ، " مرقص "، بعدما تلقى تهديداً جديّاً بالقتل من جانب جماعة أصوليّة. أما شريكه في البطولة، عادل إمام، فها هوَ في دور نادر لا يَتصل بأدواره المعهودة مؤخراً، والتي كان يلعبها عادة ً على الرغم من عدم تناسبها مع سنّه. الطريف هنا، أنّ يتقمّصَ فناننا شخصيّة رجل دين مسيحيّ يُجبر بدَوره على تغيير هويّته لكي يبدو بصفة شيخ مسلم اسمه " حسن ". غير أنّ تقمّصاً كهذا، على رأيي، كان يَصلحُ لفيلم كوميديّ لا ميلودراميّ: فمن غير الواقعيّ، في هذا الشأن، أن يُحاكى وضعُ الأقباط بوضع مواطنيهم المسلمين في المجتمع المصريّ لناحية التطرّف المؤدّي للقتل والارهاب. فنحن على سبيل المثال لم نسمع لمرّة واحدة، قط، عن حالةٍ لأديب قبطيّ تلقى تهديداً بالموت من قِبَل جماعته، أو على الأقل بفصله عن زوجته، بسبب مواقفه الفكريّة.. ناهيك أن يكون رجلَ دين، يدعو للتسامح والمحبّة والانفتاح والتفاهم.
قد تكون قلة خبرة المخرج، أو تأثره بالسينما الأمريكية، من أسباب المبالغة بمشاهد الأكشن في فيلم " حسن ومرقص ". الأدهى، أن تقدِّمَ هذه المشاهدُ أعمالَ العنف بالمستوى نفسه بين الجماعتين الدينيتين، المتنازعتين؛ وكأنما حجمُ الأقباط، العدديّ، يُعادل حجمَ المسلمين في مصر؟.. هذا وبغض الطرف عن حقيقة أخرى، لا تقلّ أهميّة، وهيَ أنّ الأولين غير منظمين إطلاقاً ضمن جماعات ارهابيّة متطرفة؛ مثلما نعرفه عند الآخرين، الذين تعجّ أوساطهم بتنظيماتٍ كهذه. وها هوَ الفيلمُ العتيد، ومنذ اللقطات الأولى، يُتحفنا بنموذج القسّ القبطيّ المُتسامح، المُعتدل، والمُجبر بالمقابل من لدن طائفته على الفرار، بل والتخفي تحت اسم " حسن "، المسلم، كونه لا يتماشى ـ كذا ـ مع تعصّبها الأعمى. ولكن، ما أن تنتقل الكاميرا إلى منزل القسّ نفسه، حتى نفاجأ بأنّ زوجته وابنه الوحيد هما من غلاة الحاقدين على كلّ ما يمتّ للإسلام وأهله..؟
على المُنقلب الآخر للقصّة، يضعنا الفيلمُ في الأجواء الحياتية لرجل مسلم، عاديّ، لا يلبث أن يجد نفسه وقد تحوّل قسراً إلى " مرقص " النصرانيّ، بتدبير من المباحث التي تعهّدت حمايته من بطش جماعة أصوليّة متطرّفة، سبق لأخيه الراحل أن كان قائدها. " فاطمة " ابنة الهارب ( قامت بدَورها الممثلة المتألقة شيرين عادل )، تكون هيَ الأخرى مُجبرة على انتحال اسم " مريم ". وإذ تشاء المصادفة أن يجتمع القبطيّ والمسلم مع أسرتيهما في دور واحد بأحد الأبنية، فإنّ كلاهما يشعر برغبة قويّة للتعارف مع الآخر وقد دخلَ في وهمه أنّ ذاك على دينه، الحق. فما عتمَ ابنُ الأسرة المسلمة، المزيّفة ( قام بدوره الفنان محمد إمام ) أن يلتقي " مريم " في الجامعة، فينشدّ نحوها بقوّة وفي خلدِهِ أنها نصرانية. علاقة الحبّ، التي ستربط بين هذين الجارَيْن، لن تلبث أن تقع بدَورها ضحيّة ً للواقع الاجتماعيّ، المزري، والمُتمثل في الاختلاف والتناحر بين مكونيْه، الأساسيَيْن. إذ لا يطول الأمرُ، حتى تكتشف الأسرتان حقيقة انتحال كلّ منهما لهويّة الأخرى، الدينيّة.
النهاية التراجيديّة للفيلم، كانت شبيهة ببدايته. ففي أسفل هذه اليافطة " حسن ومرقص " ( التي تجمع اسمَيْ رَبّيْ الأسرَتيْن بصفة كونهما شريكيْن في محلّ تجاريّ )، تحتدم مواجهة دموية بين طائفتيهما. باعث المواجهة، هوَ انتصارُ أهالي الحارة، المسلمين، لمن توهّموا أنه " حسن " ابن دينهم، في مقابل وقوف النصارى بصفّ " مرقص "، المزيّف. هذا الأخير، حينما يكتشف حقيقة شريكه، يهرع أولاً لمغادرة الشقة مع أسرته، مُحاولاً تأمين سيارة كي تقلّهم مع أمتعتهم. فما أن يعودَ، حتى يجد النيران تلتهم الشقة بفعل الزجاجات الحارقة، المنهالة على نوافذها وشرفتها من لدن الجمهور الغاضب. اندفاع " حسن " لإنقاذ أسرة شريكه السابق، كان لا بدّ أن يختمَ الفيلم بنهايته، السعيدة نوعاً، وعلى الرغم من الدماء الغزيرة المتدفقة في الشارع، المُتنازع والمُتصارع.
قبل حوالي ستة عقود، وفي عشيّة ثورة تموز، ظهرَت على إحدى صالات القاهرة مسرحيّة باسم " حسن ومرقص وكوهين "، من بطولة مؤلّفها عادل خيري، فلم تلبث إلا قليلاً حتى تحوّلت إلى فيلم سينمائيّ يحملُ العنوان نفسه. ذلك العنوان، كان يُحيل لمَتجر أدوية حَمَلَ أسماء ثلاثة شركاء؛ مسلم ونصرانيّ ويهوديّ. في الأجواء الممهّدة لثورة يناير، شاءَ عادل إمام التنويع على ذلك الفيلم، الكلاسيكيّ. كان يهدف لإعادة ذاكرة مواطنيه، ولو إيحاءً، إلى حقبة الشراكة بين المسلمين والأقباط، تحديداً، بعد انعدام أثر اليهود؛ وهيَ الشراكة، التي رأينا استحالتها دون تموّه أصحابها تحت اسم وهويّةٍ، مزيّفتيتن.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |