مَن يتذكّر خالد بكداش؟
2012-10-26
لا مَراء في حقيقة، أنّ خالد بكداش هوَ الكرديّ الأول، بعدَ صلاح الدين، من ناحية الشهرة على مستوى العالم. هذا الأخير، استحق أن يكون ذا اسمٍ ذائع في الغرب ليسَ لأنه سبق وهزم ثلاثة من أعظم ملوك الفرنجة، حَسْب، بل ولسموّ أخلاقه كمحارب متسامح وحاكم عادل وإنسان متواضع. على ذلك، لعلّ من الاجحاف أن نعقدَ مقارنة بين شخصيّتيْ هذين الرّجلين، اللهمّ سوى مغزى كون كلاهما من كرد دمشق؛ بمعنى أنه حقق مآثره بعيداً عن موطن أسلافه. في واقع الحال، فلا يمكن مقاربة سيرة بكداش، ونحن اليوم في ذكراه المئوية، إلا بسيرة شخص واحدٍ؛ ألا وهوَ معلّمه وملهمُهُ، يوسف ستالين.
***
الستالينيّة؛ إنه مصطلحٌ يُحيل إلى المنهج والممارسة، أكثرَ منه إلى الفكر والنظرية. لأنّ ستالين، بحَسَب ما نعرفه عن مؤلّفاته، لم يكن أبداً ذاكَ المنظر الآيديولوجيّ، الأصيل. لقد حاولَ جاهداً، عبْرَ فرض آرائه الخاصّة على رفاق الحزب، أن يتخلّص من ظلّ سلفِهِ الكبير؛ لينين. وعلى العكس من هذا الأخير، الذي أنجز جلّ مشروعه الفكريّ قبل الثورة، فإنّ ستالين لم يبدأ فعلياً بالكتابة سوى عندما أضحى سيّداً للكرملين. علاوة على ما سبق، يبدو من وجهة نظر المهتمّين بسيرة الديكتاتور السوفياتي، المَشنوع الاسم، أنّ ثمّة عوامل اخرى أسهَمَت بصنع شخصيّته المُتسِمَة بالمكر والغدر والميل لسفك الدماء. إنّ جنوحَ يوسف ستالين، مذ فترة مبكرة من شبابه، إلى الخروج عن القانون من خلال عمليات السّطو على المصارف وعربات القطار البريدية، ليُعزى إلى أصلِهِ القوقازيّ؛ هوَ من ولد لعائلة جيورجيّة فقيرة ولم ينل، في آخر الأمر، سوى قسطاً متواضعاً من التحصيل العلميّ. فيما بعد، عندما انتسبَ لإحدى الجماعات الثورية الروسية، فإنه عملَ على التبرؤ من جذوره من خلال اضفاء اسمٍ حزبيّ له، وهوَ " ستالين " ( الذي يعني بالروسية: الرّجل الفولاذيّ )؛ والذي أصبحَ، لاحقاً، الكنية المُعرّف بها في جميع أنحاء العالم. إن نوعاً من الانفصام النفسيّ، ربما كان وراء تماهي ستالين بالقومية الكبيرة إلى حدّ أنه بدأ يكيدُ لأبناء القوميات غير الروسية، ومنهم مواطنيه القوقازيين أنفسهم، خصوصاً حينما صارَ بموقع المسؤولية الرسمية. هذا الانفصام، لعله يُفسّر أيضاً ادعاء ستالين الشغف بالأدب، وبالرغم من المفارقة المتمثلة باضطهاده الشديد للمبدعين في موطنه حتى دفع بعضهم إلى الانتحار خوفاً من أن يلقوا مصير المنفيين إلى سيبيريا أو يأساً من تحطم آمالهم بعيدَ انتصار ثورة اكتوبر 1917. الحال، أنّ وضع ستالين النفسيّ، المَوْصوف، تجلّى بشكل فظيع من خلال نفي ما يقارب الثلاثين مليوناً من مواطني الاتحاد السوفياتي إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا وغيرها. إنّ عَصابَهُ، وشكّه المَرَضيّ بكلّ من كان يحيط به، سيوسّع ولا غرو من دائرة الدّم لتشمل أقرب رفاقه.
***
ما سبق، لا بدّ أن يذكرنا بشخصيّة صدّام حسين؛ هوَ من كان متأثراً كثيراً بالطاغية السوفياتي ليسَ فقط في شيمة ممارسة السلطة، بل كذلك بتقليده في ملبسه وحركات يديه خلال تحية الجماهير وحتى طريقته في التدخين. إلا أنّ خالد بكداش، وعلى الرغم من كونه قد عاش حياته السياسية بلا سلطة فعلية، رسمية، فقد كان بحق تلميذاً نجيباً في المدرسة، الستالينية. لعلنا قادرين على تتبع طبائع الطغيان، عند هذا التلميذ، مذ فترة مبكرة من حياته. لقد ولد خالد بكداش قوطرش عام 1912 في حيّ الأكراد ( ركن الدين ) بمدينة دمشق، في أسرةٍ تفخر بتقاليدها العسكرية. فالوالد نفسه، بكداش أفندي، كان في حياته ضابط مدفعية في الجيش العثمانيّ بقيَ في الخدمة حتى تمّ تسريحه على إثر اشتراكه بمعركة ميسلون وهوَ بصفة قائد موقع مدينة دمشق. فيما بعد سيعمدُ الابن، في سعيه للتبرؤ من جذوره، إلى اعتماد اسم أبيه ككنيةٍ له. فعلَ ذلك، لأنّ " بكداش " هيَ عائلة دمشقية عريقة، ارتبط اسمها خصوصاً بمحلّ المرطبات الشهير في سوق الحميدية. أما كنية " قوطرش "، الحقيقية ( وتعني بالكردية: القبعة السوداء )، فلم تعد تذكرُ مطلقاً في أدبيات الحزب الشيوعيّ السوريّ الخاصّة بسيرة قائده، شبه المؤبّد.
***
ثمّة تعتيمٌ آخر، اعتمدته مصادر الحزب ذاتها، حولَ الفترة التي قضاها الشاب خالد بكداش في موسكو خلال أعوام الثلاثينات بصفة طالب في معهد الدراسات الماركسية. من ناحيته، أصرّ بكداش على تجاهل هذه المرحلة من حياته، حتى حينما أضحى شيخاً عجوزاً وشاءَ البوح للصحفيين ببعض أسراره الشخصية وسيرته السياسية. بيْدَ أنّ ارتباط عقد الثلاثينات، الروسيّ، بمرحلة التصفيات الحزبية الكبرى، ربما يُفسّر ذلك الصّمت المريب، المتواطيء. في واقع الحال، أنّ التصفيات لم تشمل فقط الرفاق السوفييت، المشكوك بولائهم للطاغية ستالين، بل وأيضاً العديد من الرفاق الأجانب. في هذا الشأن، يقال أن ثمّة دوراً لبكداش في اختفاء آثار بعض مؤسّسي الأحزاب الشيوعية في المشرق، ممن استدعوا إلى موسكو بحجّة الاسهام في عمل الكومنتيرن ( الدولية الشيوعية الثالثة ). ويمكن تقبّل هذه الشكوك، بالنظر لسياسة التطهير التي اتبعها بكداش تحت ذريعة ما أسماه بـ " تعريب الحزب "، والتي حصلت قبل وخلال وبعد فترة وجوده في الاتحاد السوفياتي. كان الرفاق اليهود، ولاحقاً الأرمن، همُ الضحايا المعنيين في ذلك التطهير، البكداشيّ. ولنتذكر أنّ ستالين، المُعلّمَ والمُلهم، قد عمدَ أيضاً إلى تصفية قادة الحزب البلشفيّ من ذوي الجذور اليهودية ـ مثل تروتسكي وبوخارين وكامنييف وزينوفييف: هنا وهناك، في حالتيْ الأستاذ والتلميذ، فإنّ التركيز على اقصاء جماعة اثنية معينة، داخل الحزب الشيوعيّ، كان من بواعث الانفصام في شخصيتيهما؛ الذي مرده محاولة كلاهما التماهي في القومية الكبيرة سعياً إلى اخفاء جذوره، المتغلغلة في تربة القومية الصغيرة. عمليات التطهير والاقصاء، كانت بالأساس تستهدف المثقفين البارزين ممن أسهموا حقاً في اغناء الفلسفة الماركسية، علاوة على غيرهم من الأدباء، المبدعين. هؤلاء وأولئك، كانوا بمثابة " عقدة " لدى ستالين وتلميذه بكداش؛ هما من عرفا بضآلة الانتاج الفكريّ، وضحالته، وادعيا دوماً صلتهما الحميمة بالأدب بالرغم من حقيقة كراهيتهما للأدباء الحقيقيين.
***
تجلّى مسلك بكداش، فيما يتعلق بالتبعية لقطبٍ ذي سطوة سياسية، مباشرة ً بعيد عودته من الدراسة. إذ فضلاً عن إخضاعه الحزب الشيوعي، في سورية ولبنان، لهيمنة الدوائر الستالينية البيروقراطية في الكومنتيرن، فإنّ هذا الزعيم الجديد صارَ يُبدي أكثر فأكثر خضوعه للكتلة الوطنية؛ التي كانت بحَسَب مفهومه تمثل آنذاك البرجوازية الكبيرة والإقطاع. لقد استطاع بكداش، بما كان يمتلكه من حنكة ومكر ودهاء، أن يقنع الدولية الشيوعية بصحّة توجّهه السياسي، المتعلق بالتحالف مع ممثلي البرجوازية والإقطاع، مبرراً ذلك بضرورة توحيد الجهود في سبيل " الحلقة المركزية " المتمثلة بتحرير البلاد من الانتداب الفرنسيّ. هذا التعبير، " الحلقة المركزية "، أضحى بعد جلاء الأجانب يُستخدم لتبرير استمرار التعاون مع أولئك الحلفاء، وهذه المرّة بحجّة تعزيز الاستقلال وحمايته من المؤامرات الخارجية. وما تزال أدبيات الحزب الشيوعيّ، في يومنا الحاضر، تشيد بما تسميه " مرحلة الخالدَيْن "؛ أي فترة منتصف الخمسينات، التي شهدت بروز نجمَيْ كلّ من الرفيق خالد بكداش والبك خالد العظم: ألا نستقرأ نوعاً من الفصام الشخصيّ عند الأول؛ هوَ القائد الشيوعيّ، الذي كان يُحاول جاهداً طمسَ جذوره.. أليست هذه الجذور نفسها تمتّ أساساً للفئة العسكرية، الكردية الدمشقية، التي لطالما خدمت سلطة البكوات والباشوات خلال قرون طويلة من السيطرة العثمانية..؟
***
" الحلقة المركزية "، ستؤول هذه المرّة إلى جعل الحزب الشيوعيّ السوريّ كمجرّد ملحق لحزب البعث، الحاكم. إنّ الزعيم بكداش، كان قد سبق له والتجأ لحِمى رفاقه في براغ، ومن ثمّ موسكو، إثرَ معارضته للوحدة السورية المصرية. فعلَ ذلك، غيرَ مبال بمصير الآلاف من رفاقه الشيوعيين ممن تركوا، دونما أدنى خطة للطواريء والاحتياط، فريسةً سهلة لأجهزة عبد الناصر، القمعية. عادَ بكداش إذن إلى سورية، في أواسط الستينات، لكي يُبشر رفاقه بما أسماهُ " طريق التطوّر اللارأسماليّ "؛ أي امكانية الوصول إلى المجتمع الاشتراكيّ بدون حصول الحزب الشيوعيّ على السلطة. ومثلما كانت شيمة أسلافه، من عسكريي آل عثمان، فها هوَ زعيمنا يواصلُ دَور الرّجل التابع، المطيع. بضعة أعوام، على الأثر، وإذا بالزعيم الشيوعيّ يحملُ سراً مباركة القيادة السوفياتية للفريق حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، في مسعاه المكشوف للإطاحة برفاق حزبه البعثيّ، القياديين. منذئذٍ، وحتى موته على فراش المرض، بقيَ خالد بكداش يقود الحزب الشيوعيّ من أزمة إلى أخرى سعياً للاحتفاظ بمركز الأمين العام: تعبيرُ " الأزمة "، استلفه رأسُ النظام من تابعيه البكداشيين، ولا شك، إثرَ اشتعال ثورة الحرية والكرامة. بل وحتى مفهوم " التوريث " ذاته، سبق أن استمدّه الوالدُ، المقبور الأسد، من قاموس تابعه المخلص، الرفيق خالد بكداش؛ الذي سعى إلى ابقاء زعامة الحزب في أسرته من الزوجة إلى الابن.
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |