سيرة سلاليّة، / رأس العين؛ فردوس الأسلاف
خاص ألف
2012-11-13
1
في صيف عام 1976، عندما زرت بلدة " رأس العين " للمرة الأولى ( وكانت الوحيدة على أيّ حال )، لم يَدُر في خلدي أن خطى أسلافنا قد سبقتني إليها. بعد ذلك، وكنت في سنّ أنضج نوعاً، وقعَ بَصَري على صورة قديمة، محفوظة ضمن ألبوم الأسرة. عادةً، فإن الصوَر العائدة إلى ذلك الزمن كانت تؤخذ بكاميرا خال أمّي؛ وهيَ الكاميرا، التي بقيت محفوظة في منزله كما لو أنها آبدة أثرية. في الصورة، كان يبدو كلّ من جديَّ لأمي وهوَ محاط ببعض الأولاد والأشخاص الغرباء.
" أهما هنا في عين الخضرة أم الزبداني؟ "، سألتُ والدتي. فكم أدهشتني، حينما أكّدت أن تلك الصورة مأخوذة في " الجزيرة "؛ أي المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد. مبعث الدهشة، هوَ ما أحاط أصحاب الصورة من مناظر مونقة، مخضوضرة، تشبه إلى حدّ بعيد ما ألفناه عن طبيعة ريفنا الشاميّ، الساحر. وما ضافرَ من فضولي عندئذٍ، أنّ الأمّ أعلمتني بحقيقة تملّك أبيها لمزرعة في تلك الأنحاء، لم تلبث أن دُعيَت باسمِهِ؛ " الصالحيّة ". أعوام قليلة، على الأثر، وحضرت امرأة من تلك القرية، المشرفة على نهر " الخابور "، لزيارة الجدّة المقيمة لدينا غالباً. برفقة تلك المرأة الغريبة، المُسنة نوعاً، كان ثمّة شابّ بمقتبل العمر قدّمته لي وهيَ تشير باحتفاء إلى ناحية مضيفتها: " هذا هوَ حفيدي، المفروز للخدمة العسكرية بدمشق. لقد أسميناه " صالح " تيمناً باسم بافي أوسمان، رحمه الله ".
2
" عامودا "، كانت في زمن أسلافي هيَ حاضرة منطقة الجزيرة، الأكبر. بين هذه البلدة ومدينة " حلب "، فإنّ الحافلة الكبيرة ( الباص )، الوحيدة، التي عملت آنذاك في خدمة الأهالي، كانت من أملاك " صالح شملكي ". هذا الجدّ الوَجيه، الشهم والجواد، يبدو أنه اكتشفَ لاحقاً " رأس العين " ( أو " سري كاني " بالكرديّة ) عندما كان يتجوّل ذات مرّة في سيارته الخاصّة خِللَ تلك البلاد، البعيدة. سوء أعماله التجارية في الشام، جعلت جدّنا يقبل بمشورة أحد الأصدقاء عن فائدة الاستثمار في الجزيرة؛ لكون أراضيها خصبة ووفيرة المياه، وفوق ذلك شبه مشاعيّة. ثمّة، ما أسرعَ أن اهتدى إلى بقعة رائعة، شبيهة ولا مَراء بالفردوس الدمشقيّ، أين سيستهلّ رويداً بتأسيس مزرعته، المزدهرة. هوَ المريض بالروماتيزم ( ربما جرّاء العمل المُضني على حافلته الكبيرة )، كان قد استبشرَ بوجود عين الكبريت في ذات المنطقة والتي مياهها شفاءٌ للعليلين مثلما اشتهرت بذلك. اضطرار جدّنا للعمل بنفسه على الحافلة، كان مردّه طيش من اؤتمن عليها، وهوَ ابنه البكر. هذا الابن، سبق له أن رافق والدته إلى الجزيرة؛ هيَ من شاءت الخدمة في منزل أكرم جميل باشا وذلك نكاية ً بالجدّ الذي طلّقها بعدما تزوّج آخر نسائه الأربع؛ جدّتي " ريما ".
3
ولكن هيَ ذي أسرةٌ صديقة، تبادرُ بدَورها للخدمة في مزرعة الجدّ. إنّ " عشير "، المنحدر مثلنا من إحدى العشائر الدومليّة، كان آنذاك فقيهاً معروفاً في المنطقة. هذا الرّجلُ الطيّب والطريف ( جدّ الكاتب سيامند ابراهيم لأبيه )، صارَ من أقرب أصدقاء " صالح "، وخصوصاً حينما شاء الانتقال مع امرأته وأولاده إلى المزرعة. من ناحيتها، كانت " ريما " شبه متوحّدة ثمّة، حيث لم يك في معيّتها سوى فتاتين حَسْب؛ هما ابنتها الصغرى وحفيدتها من ابنتها البكر، التي كانت الثمرة الوحيدة لزواجها الأول. هاتان الصغيرتان، الأثيرتان جداً على قلب الجدّ، اعتادتا على الاندفاع إليه في كلّ مرة يحضر فيها من الخارج، لتصرخا به وهما تجذبان شعرَ رأسه بحنق ومَوْجدة: " نريد العودة إلى الشام، فما قعودنا في هذه البلاد الغريبة، الموحشة؟ ". جدّنا، ذو الطبع الودود والمرح، كان عندئذٍ يَعدهما بقرب الفرَج فيما هوَ يتضاحك بتسامح، مُماهياً ما يعتمل في داخله من قلق وهواجس: " صالح "، المطعون الكرامة بشدّة جراء تصرّف مطلقته، اللئيم، فإنه كان إلى ذلك مهموماً لعجزه عن تأمين المال اللازم للمضيّ قدُماً في استثماراته، الزراعية. إذ علاوة على أمواله المُشتتة بدمشق في مشاريع خاسرة، فإن جدّنا شعرَ بمرارة خيانة القريب. فلم تفِ شقيقته الوحيدة، الأصغر منه سناً، بما أقسمَت عليه من ايفاء ثمن منزله الدمشقيّ، الكبير، الذي سبق واشترته منه في عام مضى.
4
كانت أمّي حاملاً بي في أشهرها الأخيرة، حينما توفيَ والدها وهوَ في حال رثة من العوز والإحباط والعزلة. لقد عاد من الجزيرة مُرغماً، طالما أنّ وضعه الماديّ كان يتدهور حثيثاً. ثمّة، في حجرة بائسةٍ من منزل متداع ( هوَ كلّ ما بقيَ من عقاراته العديدة )، وَضعَ جدّنا رأسه على كتف زوجته الأخيرة، الوفيّة، ثمّ راحَ يستعيدُ مراحلَ حياته المثيرة، الحافلة. هناك أيضاً، علِمَ من امرأته بخبر قدوم أسرة صديقه ذاك، الجزراويّ، إلى حِمَى الشام الشريف. فحينما كانت جدّتنا تهمّ بتوديع امرأة " عشير "، قبيل ركوبها السيارة المتجهة لدمشق، قالت لها هذه بحسرَة وألم: " ما بقاؤنا هنا من بعدكِ، ديا أوسمان..؟ ". بمعونة من العمّ الكبير، المماثل في خلقِهِ للجدّ، استطاعت الأسرة الجزراويّة تأمين منزلٍ متواضع يقع مباشرة ً في منحدر تربة " مولانا النقشبندي ". إثرَ وفاة صديقه الأثير، أضحى " عشير " زائراً مثابراً لزقاقنا، أين كانت تقيم جدّتي لدينا غالباً. وبالرغم من حداثة سني وقتذاك، إلا أن ملامح هذه الرّجل الكهل ما فتئت مرتسمَة الى اليوم في ذاكرتي؛ بلحيته الكثة، المُسترسلة والناصعة، وبملابسه البسيطة الشبيهة بما كان يرتديه الدراويش الزهّاد.
" لا أقبل أيّ طعام أو شراب من منزل هذا الشيوعيّ "، كذلك كان يُجيب " عشير " كلّ مرة كان يحلّ فيها بضيافتنا وفي مكانه الحميم، المعتاد، في منظرة الحديقة. كان يُشير إلى والدي بالصّفة تلك، المُشنِعَة، والتي كان يُشدّد عليها باللفظة الكرديّة " كَاور "؛ أيْ الكافر. بيْدَ أنّ الأبّ، كان عادة ً يُمازح قريبنا الزاهد فيما هوَ يعرض عليه مُجدداً الغداءَ أو القهوة. وعلى أيّ حال، لم يَطل المقامُ كثيراً بالفقيه الطريف بعدَ رحيل صديقه. كان " عشير " قد عادَ من رحلة الحجّ، الخامسة عشرة أو نحوها، حينما سقط طريح الفراش وما عتمَ أن توفيَ. لقد بدّدَ مدخراته في تلك السياحات الدينية، مثلما سبق وبعثرَ جدّنا أمواله وأملاكه في المغامرات التجارية والغراميات النسوية.
° صفحات مستلة من سيرة سلاليّة، بعنوان " أسكي شام "، هيَ قيد التنضيد
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |