سيرة سلاليّة 2/ عامودا؛ منفى الأسلاف
خاص ألف
2012-11-21
1
المحطة الثانية في طريقنا من " رأس العين "، في تلك الرحلة الأولى لإقليم " الجزيرة " والمُصاقبة لمستهلّ صيف العام 1976، كانت تقع أيضاً بموازاة خط السكّة الحديدية. هذا الخط، هوَ المُشكّل حدّ الحسام، المَغروز في بدن المنطقة منذ زمن الحرب العظمى، ليفصل اعتباطاً بين أملاك دولتَيْ سورية وتركية. إن " عامودا "، محطتنا الثانية إذن، هيَ إحدى أقدم حواضر الإقليم، والتي شاءَ مَقدورها أن تبقى بلدة مهملة على ناصيَة " القامشلي "؛ المدينة الضرّة، المُضطردة في التوسّع، بالمقابل، كما وفي التطوّر والعمران. عقدٌ كامل، على الأثر، وعدّتُ إلى هذه البلدة، المَبخوسة الفأل، لأراها على حالها تقريباً من ناحية الضيق والتغرّب عن الحداثة.
" لقد فقدّتُ ولدَيْن في حريق السينما، وكادَ الثالث أن يلحق بهما "، قالت لنا مُضيفتنا مُتحسّرةً، فيما تنهّداتها تحلّق في جوّ السهرة. وكنتُ أعلمُ أن ذلك الابن الناجي، المَحظوظ، هوَ " الدكتور اسماعيل "؛ العائد للتوّ من ألمانية الشرقية، وفي معيّته زوجة وولدان. إن هذا المتغرّب، وهوَ ابن عمّ صهري، كان قد سبق وحلّ ضيفاً لدينا في الشام، ثمّ ما عتمَ أن انتقلَ إلى منزل إيجار في ضاحية " دمّر "، أين حصلَ على عملٍ كمهندس بمعمل الاسمنت الكبير ثمّة. في تلك السهرة، العامودية، توجّه الشقيق الأصغر لصهري ( والذي رافقني في رحلتي الأولى ) بالكلام نحوَ امرأة عمّه، وكأنما بهدف صرفها عن السيرة الحزينة: " هل تعلمين أن أخوة خالته، من أبيها، هم من أهالي عامودا القدماء..؟ "، قالها مُشيراً بيده إليّ.
2
كان محضُ اتفاقٍ، أن يتوافق موتُ خالتي، " بيروزا "، مع نهاية ذلك العام نفسه، الذي شهِدَ صَيفهُ زيارتي الأولى لبلدة " عامودا ". كان يوماً مطيراً، كأنما عين السماء قد انهمرت مدراراً لتغسلَ النعش الضئيل، المَرفوع للتوّ من تابوته الخشبيّ. إنّ أيّ نظرةٍ جانبيّة، مواربَة، كنت ألقيها وقتئذٍ نحوَ جدّتي، " ريما "، كان يتبعها خنجرٌ مَضّاء يُغرس في قلبي: كانت المسكينة هناك، على طرف التربة، مقرفصة بقامتها القصيرة وهيَ خائرة القوى، ملتفة بملاءتها القاتمة، المبتلة تماماً، فيما رأسها يهتزّ كمروحة. في الليلة المنصرمة، كانت جدّتي تغني فوق رأس عزيزتها الراحلة، بلغتنا القومية؛ وهيَ عادةٌ كرديّة، أصيلة، لا بدّ أنها اندثرت لدينا في الحي مذ فترة بعيدة.
" الجدّة ريما في حالٍ سيئة للغاية "، هكذا افتتحت " نازي " حديثها بالخبَر المُروّع. إن ابنة عمّنا الكبير، المُقيمة على أطراف تربة " آلرشي "، هيَ من أرسلت هذه الفتاة السمراء، اللطيفة والطيّبة، لكي تنذرنا. ويبدو أنّ ابنة العمّ قد أخبرَت من لدن الفتاة ( وهيَ ابنة زوجها، العفرينيّ الأصل )، بما لحظته يومياً من تكرّر وجود جدّتنا عند قبر ابنتها ومنذ الصباح الباكر. على ذلك، عرفنا داعي امتناع المسكينة عن زيارتنا لأكثر من أسبوع؛ هيَ من اعتادت الاقامة في منزلنا غالباً. وحقّ لي استعادة ملامح خالتي الراحلة، المثخنة بجراح الزمن، ما أن حط بَصَري يومئذٍ على هيئة والدتها، الرثة. ففي عز محنتها بالمرض العضال، كان بعض الأقارب يُمازحون خالتنا بالقول: " لقد أضحَيتِ كما لو أنك الشقيقة الكبرى لريما ". إلا أنني ربما كنت عندئذٍ أستعيدُ، أيضاً، ما أذكره عن جمال خالتي، النادر حقاً؛ بقسماتها الدقيقة، المتناسقة، وشعرها الأحمر وعينيها الربيعيتين: لقد كانت " بيروزا "، كما يُقال، نسخة مُطابقة لشكل أمّها؛ جدّتنا الرائعة، الأشبه بالاسطورة.
3
على الرغم من أن اسمها يَعني " مباركة " بالعربية، غيرَ أنّ " بيروزا " أبصرَت نور الحياة قي عشيّةٍ من زمن الحرب والوباء والإبادة. أمّها، " ريما "، كانت قد فقدَت للتوّ بوباء الطاعون أبوَيها وأخواتها جميعاً، وفيهم شقيقتها الكبرى، الأثيرة؛ " نظيرة ". هذه الأخيرة، هيَ من كانت سببَ عودة أسرتها إلى الموطن الأول، المُستلقي في حضن " مازي داغ "؛ أيْ جبل العفص، نسبةً لأشجار الغابات هذه المنتشرة فيه بكثافة. بلدة " ميقر " ( هيَ على الأرجح تحريف للكلمة المُركبّة " مي كار ": صنع الخمر )، الواقعة بين " ماردين " و" ديريك "، كانت تضمّ عشيرتنا الدومليّة، ذات اللهجة الكردية المميّزة، والتي كان يتكلّم بها سكانها المسلمون والنصارى على حدّ سواء. وإلى يومنا الحاضر، ما زال يقوم في البلدة أحد أعرق أديرة اليعاقبة. نحوَ تلك البلدة، البعيدة، اتجه " علي آغا الكبير " صحبة زوجته الوحيدة " ليلى " وأولادهما. لقد تركَ مُرغماً الشامَ الشريف، مدينته الحبيبة، إثرَ خلافه مع أولاد عمومته: إنّ قريبه " حسن أفندي "، زعيم الحيّ، كان قد أبدى بحضوره رغبة ابنه البكر، " موسى "، في الاقتران بـ " نظيرة ".
" جدّكم، هوَ في تعنته وعناده مثل كلّ آل " حج حسين ". فما أن رفض أبي فكرة زواج ابنته، حتى جعلوا حياته جحيماً "، قالت لي " ريما " الطيّبة في إحدى أمسيات منتصف عقد السبعينات، وفي حجرة منزلها أين كنت أقيم إثرَ خلافي مع والدي بشأن الدراسة الثانوية، الصناعية. تحامل جدّتنا، الطريف، على آل جدّي لأبي، كان له داع آخر، مُحزن. وإذن، حينما جاز للشاب المتهوّر، الأحمق، " ديبو "، الاقتداء بوالده والتقدّم لخطبة " بيروزا " الفاتنة، فإن والدتها لم تشأ أن تكررَ مأساة الشقيقة " نظيرة "، الشقية؛ التي سبق وأجبرتهم ذيولها على النزوح من الشام.
4
قبل اندلاع نار الحريق العالميّ، الأول، بعام أو نحوه، قتلَ " محمد آغا " أحدَ مشايخ العرب، المعروفين، من المستوطنين مع قبيلته على أطراف " ماردين ". زوج جدّتي هذا، الأول، حُكِمَ عليه من لدن الأتراك بالنفي إلى بلدة " عامودا "، في حين تمت سرغنة أخيها الأصغر، غير الشقيق، إلى شرق الأناضول بتهمة إعانة صهره خلال التخطيط للكمين، القاتل. الأخ غير الشقيق، واسمه " محّو "، كان هوَ الوحيد من أسرتها من نجا من الطاعون. أما شقيقها الآخر، الأكبر، " عكاش "، فلم يك قد رافق والديه خلال نزوحهما من الشام بعد ذلك الخلاف، المَوْصوف. والدة " محّو "، كانت بنفسها ابنة أحد الشيوخ العرب من المقيمين في تلك البلاد. بعد مضي بضعة أعوام على السرغنة، عادَ شقيق جدّتنا الأصغر إلى أهله مستغلاً الفوضى الناجمة عن الحرب العظمى، المُشتعلة للتوّ.
" والدك ووالدتك وأخواتك، وأمّي وأخوتي، جميعهم بخير وحمّلوني سلامهم لكِ "، هكذ أجابَ " محّو " تساؤلات أخته، المُلحّة والقلقة، بعدما انتشرَ خبرُ الوباء الأسوَد، المُرعب. فما أن خلا الشابّ مع صهره، حتى انفجرَ مُنتحباً بمرارة: " لقد اضطررت للكذب عليها. كلّ أسرتنا أفناها الطاعون، كلها. ولم يبقَ أحدٌ على قيد الحياة.. ". ثمّة، في " عامودا "، ولدت ابنة حلوة للآغا الماردينيّ وزوجته، الشاميّة. بعيد عام تقريباً، وضعت الحرب العظمى أوزارها وما عتمَ الخلق أن استبشروا بقرب انتهاء محن القتل والجوع والتشرّد والعذاب. فما أن دخلت " بيروزا " في عامها الثالث، حتى أتى خبرُ مقتل أبيها على يد أفراد من عشيرة " شمّر "، انتقاماً لدم زعيمهم. كان " محمد آغا " في رحلة صيد برفقة أحد معاونيه، حينما وقع فريسة سهلة بيد الأعراب، الذين سبق وراقبوا تحركاته بهمّة. بيْدَ أن " بافي بيروزا " ( كما دأبت جدّتنا على نعته بكلّ حبّ )، لم يستسلم لأعدائه. ويبدو أنه قاوم ببسالة، حدّ أنهم قرروا الحفاظ على حياته والتصالح معه. ولكنه اعتقد أن الأمرَ مجرّد خدعة، فما أن اقترب رسولُ الخصوم حتى بادر الآغا لإطلاق النار. إلى " عامودا "، أين تقيم أسرته الكبيرة المكوّنة من ثلاث زوجات وأولادهن، تمّ نقل جثمان " محمد آغا " المُسجّى على فرسه. مرافق الآغا، الذي أبقاه الأعرابُ حياً، هوَ من رافق جثمان سيّده وحدّث أهله بتفاصيل الواقعة الدمويّة، المُفجعة.
للحكاية بقية..
° صفحات من سيرة سلالية، بعنوان " أسكي شام "
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |