سيرة سلالية / الحسكة؛ معسكر الأسلاف
خاص ألف
2012-12-03
1
بدَت مدينة " الحسكة " لعينيّ، حينما زرتها لأول مرة في أواسط السبعينات، كحاضرةٍ صغيرة تقلّ شأناً ولا شكّ عن بلدات الريف الدمشقيّ، المُزدهرة. في الحافلة الكبيرة، اللتي أقلتنا من " حلب " إلى " الحسكة "، أدهشني أن أرى زوجَيْن عجوزين يتكلمان بالكردية، خصوصاً لأنّ كلاهما كان يبدو بهيئةٍ أوروبية. " إنهما من الآشوريين، الذين يعيشون في الجزيرة "، قال لي شقيق صهري رداً على تساؤلي. وهيَ ذي حاضرة المحافظة، وقد وصلناها على حدّ الغروب. سوقها الرئيسُ، البسيط في عمارته، كان ما يفتأ غاصّاً ببَشَر تفصح ملامحهم وهيئاتهم عن كونهم خليطاً من أجناس شتى. السوق فسيفساءٌ، ببضائعه وبائعيه وزبائنه على حدّ سواءُ.
أسرة صهرنا، مثلها في ذلك مثل معظم كرد المدينة، تقيم في أحد الأحياء التي تقوم على أطراف المركز. وإذ انتقلت الأسرة إلى " المساكن الغربية "، فإن معظم أقاربها كانوا ما يزالوا يعيشون في " تل حجر " و " العزيزية ". في هذا الأخير، صرت أتنقل بين منازل أولئك الأقارب، مُلبياً دعواتهم الكريمة إلى الغداء. ثمة، كانت إحدى نساء حيّنا، من آل " قاسو ظاظا "، قد حوّلت منزلها إلى ما يُشبه الواحة الدمشقيّة؛ وهوَ المنزلُ، المُتسِم بالأناقة والنظافة والمُتلع بالورود والرياحين. إنها شقيقة معلّمي السابق، الذي كنت أعمل في مكتبه الهندسيّ، الكائن في قلب الشام. زوج شقيقتها، المعروف بلقب " أبي شيركو "، اعتاد الحضور من العاصمة في موسم الصّيد؛ حيث كان يخرج مع زوجها ( وهوَ ابن عمّ صهري ) في جولات إلى البرية تستغرق أحياناً بضعة أيام.
2
" أبو شيركو " هذا، سبق وأن التقيت معه مراراً في ذاك المكتب الهندسيّ؛ أين كنت أعمل قبل نحو العام من رحلتي الأولى إلى اقليم الجزيرة. معرفته لوالدي كانت قديمة، تعود إلى تلك الحقبة التي عملا فيها بالاقليم خلال حكم الإدارة الفرنسية، المُنتدبة. وإذ لم تستمرّ خدمة الأبّ في الجزيرة لأكثر من عامَيْن، فإنّ الآخرَ بقيَ في بلدة " عامودا " بصفة رئيس مخفر الشرطة؛ ثمّة، أين قضى أحدُ أولادِهِ في مأساة حريق السينما عند مفتتح الستينات. ابن عمّه، " بكري قوطرش "، كان في أواخر ثلاثينات القرن الماضي برتبة ملازم أول ورئيساً لمكتب " مصلحة العشائر " في مدينة " الحسكة ". زوجة ضابطنا، " بديعة "، هيَ أخت والدي بالرضاع. فلا غروَ، إذن، أن تتعزز صلة الأبّ بمعلمه خلال خدمته في تلك المنطقة كعسكريّ، مُحترف.
في ألبوم العائلة لدينا، كانت إحدى صوَر الأبّ، النادرة، تظهرُهُ وهوَ في الملابس العسكرية، المُميّزة لما نعرفه اليوم عن سلاح الهجانة. هذه الصورة، تعود ولا رَيْب لفترة وجود والدنا في " الحسكة ". أما صوَره الأخرى، العائدة للحقبة تلك، فإنها مأخوذة في الشام خلال خدمته في ما كان يُعرف بـ " الفوج الكرديّ " التابع لجيش الشرق، الفرنسيّ، المكوّن أساساً من المنتمين للإثنيات العرقية والمذهبية. إن مذكرات السياسيّ المُخضرَم، " خالد العظم "، تفيدنا بكون الفوج قد بقيَ تحت قيادة الزعيم " بكري قوطرش " حتى نهاية الأربعينات. لأننا نعرف أن معلّم أبي هذا، السابق، سيتمّ تعيينه لاحقاً كرئيس للمكتب الثاني ( جهاز الاستخبارات ) في عهد أديب الشيشكلي. إثرَ سقوط هذا الأخير، أوفِدَ " الزعيمُ بكري " إلى موسكو لكي يشغلَ منصب الملحق العسكريّ في السفارة السورية.
3
معلّم أبي، نجحَ في كسب ثقة أهالي المنطقة وحلّ الخلافات الطارئة بين عشائرهم، وذلك لما كان يتسِمُ به من بساطة وتواضع ونزاهة وكرم. بيْدَ أن خصلة واحدة، حَسْب، عليها كان أن تثلمَ شخصيّته: إدمان المقامرة. فما أن يَحلّ المساءُ، حتى يتوافدَ رفاق المائدة الخضراء إلى منزله، وكان أغلبهم من زملائه الضباط والإداريين. الأبّ، وبالرغم من كونه حَدَث السنّ ومن مراتب العسكريين الصغرى، إلا أنه كان يحاول دوماً الحيلولة بين المعلّم وأولئك الضيوف، المَشبوهين. " يا جميل.. "، يُخاطب الآمرُ والدَنا بنبرَة عتاب " إنك تطرُد أصدقائي، في كلّ مرةٍ تشرّفنا بحضوركَ، على مَرأى ومَسمع مني ". إذاك، يكون الأبّ قد فتحَ باب الدار بنفسه، لكي يُخبر الضيفَ القادم بأن " بكري بك " غير موجودٍ. هكذا تصرّفٍ، أخرق نوعاً، كان مع ذلك يُسعد امرأة ضابطنا.
من جهته، فإنّ " جميلَ " ابتليّ بدَوره بنوع آخر من الإدمان؛ ألا وهوَ التدخين. إذ توفّرت دوماً أكداسٌ من علب السجائر، المهرّبة، والتي كان يتمّ مصادرتها بكثافة على حدود العراق وتركية من لدن أفراد الفوج. وحتى بعد عقودٍ طويلة من تركهِ عادة التدخين، بقيَ الأبّ يتعذبُ حلقه بالبلغم الناتج عن النيكوتين، السام. من ناحية أخرى، فقد كانت بعضُ الشحنات تلك، المُصادرة، تجدُ طريقها إلى معارف " جميل "، وعلى سبيل الهديّة. أكثر هؤلاء كانوا من بلدة " عامودا "؛ ثمّة، أين قاموا بتأسيس نادٍ للثقافة الكردية تيّمناً بالنادي الأمّ، الذي وُجِدَ آنذاك في حيّنا الدمشقيّ بفضل جهود الأمير " جلادت بدرخان ". هذا العلامة، المُتنوّرُ، سبق له في عام مَضى أن أوصى صديقه، الكولونيلَ الفرنسيّ، حينما قدّمَ له أحدَ تلامذته من المنتسبين حديثاُ لجيش الشرق.
4
" إنّ جميل هوَ من الشبان المثقفين، النادرين، الذين أفتخرُ بهم في الشام "
قال الأميرُ لصديقه، الفرنسيّ، الذي كان هوَ بنفسه من المهتمين باللغات الشرقية وآدابها. بعد نحو نصف قرن، حينما وقعَ بصرُ والدنا على كتاب من تأليف أحد الباحثين الفرنسيين، فإنه تعرّف في الحال على صورة صاحبها، القديمة: " هذا الضابط كان قائداً لفوجنا، وكان يُجيد الكردية بشكل مُدهش "، قالها ثمّ أعقبَ مُتنهّداً فيما عيناه تفصحان عن مدى تأثره بالذكرى. ذلك الكولونيل، كان قد تدخل ذات مرّة لفضّ مشادةٍ عنيفة جدَّت بين عسكريَيْن من مرؤوسيه: " كرّوْ.. " ( أيْ: يا أولاد )، توجّه إليهما مؤنباً وناصحاً بلغةٍ كردية، سليمة " عليكم أن تكونوا يداً واحدة على العدوّ لا ضدّ بعضكم البعض ".
" جميل "، وَجَدَ خدمَته في الجزيرة كسانحةٍ، مناسبة، للإسهام في النشاط الثقافي، وخصوصاً في بلدة " عامودا ". إلى هناك، كان قد توجّه أيضاً العديدُ من أصدقائه، الدمشقيين، ممن أرسلهم " الأمير جلادت " كمدرّسين للغة الكردية قراءة وكتابة. ثمّة، توطدَت إذن صِلة الأبّ ببعض الشبان المتنوّرين، الذين تعرّف إليهم سواءً خلال خدمته العسكرية أو نشاطاته القومية. " سيدا شمس الدين "، كان أحدَ أولئك الأصدقاء، وقد بقيَ والدنا على اتصال معه حتى زمن متأخر من حياته. وحينما اعتقل المحامي، " نذير شمس الدين "، في مبتدأ السبعينات، فإن والده هُرع إلى الشام لزيارة صديقه القديم، " جميل ". بين آونةٍ وأخرى، اعتدنا في المنزل على حضور " سيدا "، الرّجل المُسن والمُهيب الطلعة، حينما كان يأتي إلى الشام لإيجاد طريقةٍ لمقابلة ابنه ذاك، المعتقل السياسيّ. آنذاك، مضى به والدنا لمقابلة الوجيه " محمود بكري آلوسي "، المعروف بعلاقته الوثيقة مع رأس النظام. غيرَ أنّ ذلك الوجيه، المُقيم في منطقة " جسر النحاس "، أضحى فيما بعد يتهرّب من لقائهما مُتحجّجاً بشتى الأعذار.
للحكاية بقية..
° صفحات من سيرة سلالية، بعنوان " أسكي شام "
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |