سيرة سلالية / مازيداغ؛ مسالك الأسلاف
خاص ألف
2012-12-23
1
كان اتفاقاً، بطبيعة الحال، أن يتلازمَ تزوّدي بذكريات الجدّة عن مَوطن أسلافها، الأول، مع حلول أحد مواطنيه لدينا في الشام. في خلال فترةٍ من منتصف السبعينات، كنت أقيم في حجرَة جدّتي " ريما "، المُنفردَة عن غرف الإيجار في بيتها. رأيتني أقضي عندها قرابة العام، إثرَ هجري لمنزل العائلة بسبب خلاف مع ربّها، المُصرّ على ضرورة إكمال دراستي في الثانوية الصناعية. ثمّة، إذن، اعتادت هيَ أن تقصّ عليّ حكايات طفولتها وصِباها، وكأنما لتسلوَ بومَة الليل البهيم، التي كان نعيقها يسبّب لها الأرق: " ميرات مايي.. " ( هذه المنحوسة )، تبدأ جدّتي عندئذٍ الكلام بلغتها الأمّ. ولتعبّرَ لي من ثمّ، بالعربية، عن مدى تطيّرها من صوت طائر الليل والخراب، المُتناهي ولا مَراء من تربة " آلرشي "، القريبة. في العام التالي، سيكون على الجدّة أن تتأكّدَ من صفة البومة، وبالتالي من طيرَتِها؛ حينما دفنت ابنتها البكر، " بيروزا "، في التربة نفسها.
" زاهد "، كان شاباً يكبرني نوعاً، شاءَ أن يَتوجّه إلى الشام لكي يتجنبَ سوقه إلى الخدمة الإلزامية، ثمّة في تركية. آنئذٍ، كان قد مضى عقدٌ من الأعوام منذ أن لقينا آخر سليل للأسلاف، ممن يقيمون في تلك البلاد. إذ عرَّجَ علينا ذات يوم، كما أذكرُ، رجلٌ مُسن في طريقه إلى الحجّ، حيث استدلّ إلى عنوان الزقاق المَوْسوم بالإحالة لاسم بلدته؛ الكائنة في مقاطعة " مازيداغ ". من هناك، أيضاً، قدِمَ ذلك الشابّ مُهتدياً إلى عنوان " أقاربهِ " بالطريقة ذاتها، على الأرجح، التي سبقه إليها مواطنه الحاجُ. إلا أن " زاهد "، في المقابل، حلّ ضيفاً على أحد سليلي آل " لحّو "، من المقيمين في زقاق " وانلي ". هذه السلالة ( التي اعتدنا على غمزها بلقب " زنكَليْ "، أيْ جرس الكنيسة )، لا تمت لنا بأيّ قرابة وبالرغم من تلبّسها كنيتنا: إنها من بقايا النصارى، اليعاقبة، الذين تحوّلوا إلى الإسلام في زمن ما، حينما كانوا بعدُ يُشاركون أسلافنا بالعيش في بلدة " ميقر " ذاتها.
2
الشاب " زاهد "، ما عتمَ أن عادَ سريعاً إلى عترَتِهِ، بعد مراسلة مَحمومة مع الأهل. قبلَ ذلك، أصيبَ بالإحباط على أثر علاقة مع إحدى فتيات العائلة تلك، المُضيفة، والتي انتهت برفضها الزواج منه. ربما أن حاجز اللغة، كان سبباً مَرْجوحاً في فشل علاقتهما. تأويلي المُفترَض، يعودُ إلى ما لحظته من تبرّم الشاب الغريب، حينما كان من حوله يشرعون بالحديث فيما بينهم باللغة العربية. وإذ رمقني ذاتَ مرّة شزراً، مُدمدماً ما يُعبّر عن عدم رضاه على ضعف معرفتي للغة الأمّ، فإنني ذكّرتهُ بأنه بنفسِهِ يكتب الرسائل للأهل بالتركيّة. " هذه هيَ اللغة الوحيدة، التي يتمّ التدريس بها هناك "، أجابني بجفاء. لاحقاً، حينما قدِمَ عمّ " زاهد " لكي يُقنعُهُ بالعودة معه إلى الوطن، فإنني اعتقدّت أن تبادلهما الحديث بالتركيّة إنما لِبَثّ مواضيع تخصّهما. خمس سنوات، على الأثر، وبدأ توافد الكثيرُ من كرد تلك البلاد إلى الشام، هرَباً من النظام العسكريّ، الجديد. عندئذٍ، تيقنتُ أن " أقاربنا " هؤلاء كانوا أقلّ حِرْصاً على لغتهم الكرديّة منا؛ نحن الذين نستوطن في أرض غريبة منذ نحو القرنَيْن من الزمن.
بين الشام والمَوطن الأول، كانت الطرقات حتى ذلك الوقت قد استوحَشت من ندرة السالك، إلى أن انقطعت نهائياً. " زاهد "، وكان آخرَ أولئك العابرين، سبق وأن أدهشني باستخدامِهِ اسم " شَمرَخ "، كدلالة على الموطن الأول. إذ اعتاد أهلنا على تسميَتهِ " مازيداغ "؛ أيْ جبل العفص، لشهرته بهذا النوع من شجر الغابات. بعدَ قرابة عقد من الأعوام، فإنّ أحدَ مواطني تلك الأنحاء ( وكان يدرس معي في موسكو ) شاءَ أن يُقدّمَ لي تأويلاً مُقنعاً عن مغزى الاسم الآخر: " شمرخ "، هوَ تحوير لكلمة كرديّة، مُركّبة من " شام " و " ريْ "؛ أيْ من مبتدأ ونعت، بمَعنى " طريق الشام ". لأنه في العهد العثماني كانت طريق " ديار بكر "، مركز ولاية كردستان، تمرّ من " مازيداغ " وصولاً إلى الولاية السوريّة. تلكم كانت مسالك الأسلاف، خلال هجرتهم إلى الشام الشريف؛ مدينة الله وقيامة البشر: " وإليها يُجتبى صفوة خلقِهِ "، كما وردَ في حديث شريف، مَنسوبٍ للنبيّ.
3
" هذا القماشُ، الدمشقيّ، لن تلحق أن تلبسه؛ لأنه سيكون كفناً لكَ "
هذا القولُ النذيرُ، الذي سَمِعَهُ " علي آغا الصغير " من درويشٍ مَجذوبٍ أثناء تبضّعِهِ في سوق مدينة " ماردين "، جازَ له أن يَستعيدَهُ خلال سويعات الاحتضار المَديدة، المُمِضة. إنه الآن في بلدة الأسلاف، " ميقر "، الواقعة في قلب الجبل على بعد نحو عشرة فراسخ إلى الشمال الغربي من تلك المدينة؛ التي كانت مركز السنجق. الحمّى، الطاحنة كدَوَران الرّحى، اعتادت أن تسلّمُهُ للهذيان خلال أسبوع كامل، وخصوصاً في جَوف الليل. وبما أن خبَرَ انتشار الطاعون، المُروِّع، لم يكُ قد تناهى حتى الساعة إلى البلدة، فإن امرأة الآغا، " ليلى "، ما كانت ترتابُ وقتئذٍ في اصابته بنوع من الحمّى المعويّة، العَرَضيّة؛ طالما أن الغثيان والقيء والإسهال هيَ من أعراضها، البيّنة. إلى ناحيَة زوجته، الحَبيبة، كان الرّجلُ المحتضرُ يتلفت بين آونةٍ وأخرى كي يَبثها بنجوىً شجيّةٍ، مؤلِمَةٍ، عن مَدى افتقادِهِ لإبنتهما، " ريما ". هذه الابنة، الأثيرَة، كانت مُتواجدة منذ العام المُنصرم في اقليم " ما تحت الخط الحديديّ "، بعدما أصرّت على مُرافقة قرينها الآغا الماردينيّ، المَنفيّ.
حينما ارتأى والدُ جدّتنا، حالَ استقراره في مَوطن الأسلاف، أن يَجعلَ البلدة " ديريك مازيداغ " مَركزاً لتجارتِهِ؛ آنذاك، لم يكُ قد ولِدَ بعدُ شاعرٌ مَجيدٌ، اسمُهُ " شيخموس "، سيَذكرُ في مذكّراتِهِ ( بعدما صارَ مُتبَنٍ لاسم أدبيّ شهير: جكَرخوين ) أن هذه البلدة تشبه الشامَ لناحيَة موقعها المُميّز وطبيعتها الخلابة وخيراتها الوفيرة. " علي آغا الصغير "، من ناحيَة أخرى، كان غيرَ مُلمّ بعلوم اللغة والحساب إلا بمقدارٍ مُبتسَر يَكفي أمورَ تجارتِهِ. بل حقّ له آنئذٍ أن يَمقت أهلَ اللغة والأدب، ما دام سبب غربتِهِ عن مَسقط رأسِهِ هوَ أحدُ هؤلاء، المَنحوسين: إنه " الحاج حسن "، العالمُ الجليلُ وزعيمُ حيّهم الدمشقيّ، مَن أصرَّ في عام أسبق على الخصام، مُتذرعاً بالأصول والعادات. ابن عمّهِ هذا، كان يَرغب بتوثيق قرابتهما عن طريق عقد قران ولدَيْهما؛ " موسى ونظيرة ". فلما أبدَت الابنة لأبيها، الآغا، ما يدلّ على رفضها للفكرة، فإنه لم يكُ ليَتصوّر أنه بمسايرَة رغبتها ستكون ردّة فعل أولاد عمومته بتلك الطريقة القاسيَة، المُقيتة.
4
" لم يَعُد لنا مقامٌ، هنا في الشام. سندَعُها لأولئك الأقارب، الذين لم يتورّعوا عن فرض العزلة والمقاطعة علينا "
خاطبَ " علي آغا الصغير " زوجتَهُ في نبرَةٍ تشي بمقدار ألمِهِ وأسفِهِ. الغريب أن الابنة تلك، البكر، لم تتدخل عندئذٍ لحلّ المُشكِل، الذي كانت هيَ سبَبهُ. هذا على الرغم من حقيقة، أن " نظيرة " كانت مُتعلّقة كثيراً بالشام، حدّ امتناعها فيما مَضى عن مرافقة أبوَيْها عند سفرهما إلى الريف أو الأقاليم الأخرى. بعد انقضاء العام، وفي " مازيداغ " البعيدة، ما لبث أن تقدّمَ خطيبٌ آخر للفتاة ذات الحُسْن المونق، والمناهزة سن الخامسة عشرة. إذاك، رضيَت " نظيرَة " بقِسْمَتِها، طالما أن التقاليدَ في هذه البلاد الجبليّة، العصيّة، كانت تبيحُ لها أن ترى عن قرب ذلك الشاب الغريب، المَعنيّ.
جدّتي " ريما "، في استعادتها لواقعة الرحيل، فإنها رّددت بصوت حزين: " يا حسَّرتي على نظيرَة الحسناء، الرائعة. ربما كانت تأملُ في كون مدّة الهجرة قصيرة، وأن كلّ شيء سيعود على ما يرام بين العائلتيْن، المتخاصمَتين "، قالت لي ثمّ استطردت مُتنهدة " لم تكن تدري أنّ المَقدورَ سيتربّص بها في تلك البلاد الغريبة، وأنها لن ترى الشامَ من بعد أبداً ". الجدّة ما كانت تدري، بدَورها، أن ابتسامتي العفويّة التي شفعَتْ مُختتم حديثها، إنما كانت بسبب هذه المفارقة، المُتجلية في تأكيدها على " البلاد الغريبة ". من جهتِهِ، اعتاد أبي أحياناً على تنكيد حماته هذه، بأن يُعلن أمامها أن الوقت قد حان للعودة إلى " ولاتيْ مه "؛ أيْ بلاد الأسلاف. فلا يكون منها، عندئذٍ، إلا هز كتفها مُجيبة ً في لهجة تهكّم ومرارة: " هاهاو.. لقد رأينا بلادك تلك، وليت أننا لم نرَها قط ".
للحكاية بقية..
° صفحات من سيرة سلالية، بعنوان " أسكي شام "
[email protected]
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |