البعد التراجيدي لحال العلويين في سوريا
خاص ألف
2012-12-27
في سبعينات القرن الماضي، كان حي الـ "86"، الذي تم تفجير سيارة مفخخة فيه الشهر الماضي، والمتربع على إحدى التلال السورية المحيطة بحي المزة الدمشقي، عبارة عن جبل أجرد تحتله ثكنة عسكرية لِما كان يعرف باسم "سرايا الدفاع" التي قادها رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وهو من تحمل له ذاكرة السوريين اسوأ الذكريات مذاك. في مطلع الثمانينات، وبعد انتصار النظام الدموي على حركة الإخوان المسلمين آنذاك، سمح رفعت الأسد لرجاله أن يبنوا لأنفسهم غرفا للإقامة. وسرعان ما أحضر الجنود، وكانوا في غالبيتهم العظمى من العلويين السوريين، زوجاتهم وأبناءهم فأسكنوهم في بيوت من اللبن والصفيح، وجروا لهم الماء والكهرباء من الشبكة العامة، وبنوا أنظمة بدائية للمجاري كانت تصب في واد قريب من الجبل. اليوم، يحتضن الحي نحو مائتي ألف نسمة، وبدل بيوت الصفيح، صارت هنالك بنايات بعضها من خمس طبقات، ولكنها مبنية بعقلية بيوت الصفيح، بدون ترخيص، وتستجر الماء والكهرباء بشكل غير شرعي، وتطل على شوارع وأزقة ضيقة، لا تسمح للسيارت الكبيرة كعربات الاطفاء وسيارات الاسعاف بالمرور عند الضرورة لإطفاء حريق أو إسعاف مريض.
ومع أن العلويين لا يزالون يشكلون غالبية القاطنين اليوم، إلا أن نسبة من الطوائف الأخرى بدأت تختلط مع السكان، وتشكل قسما لا بأس به منهم. يعمل سكان الحي عموما في الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة والمدارس والصحافة والإذاعة والتلفزيون، كصحفيين ومدرسين وممثلين وفنيين وعمال تنظيفات وحراس نهاريين وليليين. ولكن إلى ذلك، ثمة عدد كبير من سكان الحي يعملون في دكاكين بقالة أو حلاقة أو بيع هواتف محمولة، لا تزيد قيمة محتوياتها عن ألفي دولار، وفي معظم الأوقات يجلس أصحابها خارج المحل يشربون المتة ويلعبون طاولة الزهر لعدم وجود طلب على البضاعة.
بدأت عملية الهجرة من الريف إلى المدينة منذ ستينات القرن الماضي، وهي عملية تشبه غيرها في معظم الدول النامية كالهند والبرازيل ومصر. وكان انقلاب 8 آذار نقطة تحول كبيرة في حياة ابناء الريف السوري، فقد أوصل الانقلاب حزب البعث الذي كان أساسا يضم الفئات الريفية التي تعلمت وهاجرت إلى المدينة، فالتحمت مع مثقفي الطبقة الوسطى المدينية. من بين هذه الفئات، شكَّل العلويون نسبة لا بأس بها، بدأ نفوذها بالتزايد بعد انقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الذي أوصل الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة وابقاه فيها حتى وفاته.
ومن الثابت أن أبناء الريف عموما والعلويين خصوصا كانوا يعانون تمييزامجتمعيا قائما على التمايز بين الريف والمدينة أكثر من كونه تمايزا طائفيا. وكان الفقر والمرض والأمية منتشرين بكثرة في مناطق جبال العلويين. ولا شك في أن أبناء المدن كانوا ينظرون بدونية إلى سكان الريف عموما، وغالبا ما كان أفقر سكان المدن يأنف أن يزوج ابنته لـ "فلاح،" ويفضل بدل ذلك إبقاءها في البيت.
في الستينات، بدأ نوع من التحول على مختلف البنى السورية، وصعد إلى قمة السلطة لأول مرة رجال أقوياء منحدرون من الريف. ومع القادة العسكريين والأمنيين والحزبيين، توافد إلى المدن أعداد بدأت تكبر من أبناء الريف الذين صاروا يحتلون وظائف كمدرسين وموظفين في الإذاعة والتلفزيون والصحافة ودوائر السجل المدني والوزارات والمديريات العامة للبيروقراطية السورية. ولكن الأهم والأعم كان انضمام أعداد هائلة من ابناء الريف عمما في البداية ومن ثم أبناء الريف العلوي خصوصا إلى الجيش وأجهزة المخابرات المختلفة. وإذا تحرينا الحقيقة، وتحدثنا بلغة الأرقام، لتوجب علينا الاعترا ف بأنهم يشغلون في الوظائف العامة نسبة أعلى بكثير من نسبتهم الديموغرافية الحقيقية في البلاد.
وطال التغيير فيما طال البنية الثقافية، فصارت نسبة العلويين من أساتذة الجامعات والصحفيين والشعراء والفنانين أكبر بكثير من نسبتهم في المجتمع. ولكن مع التغيير الذي جرى في سورية منذ تسلم الرئيس بشار الأسد لمقاليد الحكم في سورية، والذي هوى بالطبقة الوسطى عموما، وهمش قطاع الدولة، وضيق مجالات عمل القادمين الجدد من الريف، يتَّ تحول في مجال عمل هؤلاء من المحاماة والتدريس والصحافة إلى الخدمة وتنظيف الشوارع والحماية الشخصية وأعمال المياومة، أو العطالة المقنعة.
في الغالب ليس لسكان الـ 86 وغيرهم من أهالي الريف الذين نزحوا إلى المدن بيوت في قراهم، وليس لهم اراض زراعية، فالبيوت والأراضي (وهي محدودة أساسا في الجبال) ضاعت في عملية تقسيمها المتوالي بين الأبناء عبر الأجيال. كما أن النظام أهمل مناطق العلويين التي لا تزال حتى اللحظة فقيرة تعوزها التنيمة ووسائل الراحة والمدنية. إن ملايين العلويين الذين يعيشون في المدن إنما يعيشون في وهم المدينة، فالغالبية العظمى منهم تعيش على هامش المدينة وليس في المدينة، يعيشون في مناطق عشوائية تحيط بالمدينة ولا تندمج بها.
لقد فاجأت الثورة سكان الـ 86 وكل أحزمة البؤس المحيطة بدمشق، كما فاجأت أهل دمشق أنفسهم. ومنذ اللحظة الأولى، اتخذ معظم العلويين السوريين في المدن والقرى موقفا معاديا لها، وذلك لأن النظام أفلح منذ اليوم الأول للثورة بكسبهم إلى صفه من خلال ترويعهم من أن الثورة إن نجحت ستبيدهم أو ستطردهم من وظائفهم وبيوتهم.
وحيث أفلح النظام أخفقت المعارضة، فهي لم تقدم حتى اللحظة تصورا ملموسا لحل مشكلة الحساسية الخاصة بين الأغلبية السنية والأقليات عموما، وبخاصة العلويين. ولننسَ الشعارات المجردة التي ترفعها بين الفينة والفينة قوى المعارضة السورية من أن الشعب السوري واحد، فليس المهم العموميات وإنما البرامج الحقيقية. وأهم من صياغة البرامج تطبيقها. وقد فشلت المعارضة بكل مكوناتها في ذلك.
تقوم التراجيديا الإغريقية على فكرة أساسية مؤداها أن الفرد لا يستطيع الهروب من مصيره. لقد حاول الملك اوايديبوس الهرب من نبوءة تقول انه سيقتل اباه ويتزوج امه، ولكن محاولته للهروب من القدر كان بالذات السبب الذي قاده اليه. أعتقد أن بعض الجماعات البشرية محكومة بالقاعدة نفسها. العلويون في سوريا يمكن أن يكونوا مثالا عمليا على ذلك. فمعظمهم في موضع لا يمكنهم فيه إلا أن يؤيدوا النظام بسبب تخوفهم من ان يفقدوا ما يتوهمون أنه امتيازات طائفية لهم، ما لم تتواصل معهم قيادة المعارضة من أجل اتفاق حقيقي يقوم على أساس مبدأ المواطنة والحق في الحياة والعمل والتنقل والمساواة المطلقة في الدستور والحفاظ على المصالح الأساسية لكل الأطراف. ولكن حتى الآن لا يبدو أن المعارضة قد بدأت تتلمس ذلك، وخطاب السيد معاذ الخطيب في مراكش دليل على ذلك.
--------------------------------
* كاتب سوري، مدير مشروع المركز السوري للعدالة والمساءلة
08-أيار-2021
17-نيسان-2021 | |
10-نيسان-2021 | |
13-آذار-2021 | |
27-شباط-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |