الطفولة المغتالة
خاص ألف
2013-02-13
بين منزلي، السابق، ومنزل ولديّ من زوجتي، السابقة، قرابة العشر دقائق مشياً على الأقدام. عليّ كان أن أرافقهم، ذهاباً وإياباً، في كلّ مرة سيقضون فيها لديّ عطلة نهاية الأسبوع أو ما شابهها. آنذاك، كان عمر ابني البكر، " ميدياس "، يراوح على مرج الدزينة من الأزهار السنين.
وقد قلت له يوماً بشيء من التأنيب، المتماه مع الزهو: " الجزءَ الأول من سيرتي، الذاتيّة، يُختتم وأنا في مثل عمرك الآن ". وكالعادة في مثل هذه المواقف، كان ابني يجيبني بابتسامة ساخرة على وقع هزةٍ من رأسه. عندئذٍ، كنت أودّ أن أربت بلطف على رأسه المكلّل بالشعر الطويل، الأسوَد، المتهدل على الوجه الناصع.
*
إن الطفولة تتبع الانسان، ولا غرو، في المراحل اللاحقة من عمره. فلم يكن بلا مغزى، إذن، أن تعدّ السيرة الذاتيّة، بالنسبة للأديب على الأقل، أكثر الأعمال قرباً إلى قلبه. من ناحية أخرى، فإن كتابة السيرة هيَ نوعٌ من التصالح مع النفس؛ مع أغوارها السحيقة، المظلمة، أين تهمد الذكريات الجارحة مثل خنجر في غمده. هكذا كشفٌ، يقع عادةً على عاتق الطبيب النفسيّ، حينما يستهلّ بعلاج مريضه: إذ يحاول المعالِجُ سبرَ ذلك الحدث القديم، المؤلم، المؤثر في مسلك المرء مذ طفولته وإلى وقته الراهن.
من جهتي، وبما أنني أتيت آنفاً على ذكر سيرتي الذاتيّة، فلأقل أيضاً أنّ ثمّة حادثة أهملتُ شأن تسجيلها، لكي لا أنكأ جرحَ استعادتها من طيّات مجلّد العُمر. أما وقد أضحت مشاهد الدم المراق والأشلاء البشرية المتناثرة، من الأشياء المألوفة على الفضائيات واليوتيوب منذ الخامس عشر من آذار 2011؛ فإنّ أمرَ تغاضيّ العمد عن تلك الحادثة، العتيقة، ما عادَ له معنىً: إنه مشهدُ طفلةٍ صغيرة، هُرست تحت عجلات سيارة عسكريّة من النوع الكبير، ثمّة بمحاذاة موقف الحافلات على الشارع الرئيس في الحيّ. بقيت الجثة ممدّدة هناك، بلا ستر يغطي منظرها الفظيع إلى حين حضور الشرطة. والد الضحيّة التعسة، المهشّمة الأوصال، قدِمَ بدوره ليحاول الاندفاع باتجاهها صارخاً منتحباً، فيما الآخرون يهدئونه ويواسوه. وكنتُ مثله سواءً بسواء، بحاجة آنئذٍ لمن يمدّ لي يدَ المساعدة؛ أنا من كان بعمر الضحيّة تقريباً، وفي حالة يرثى لها من هول المنظر، الدامي.
*
ولأن الطبّ النفسيّ كان معدوماً في بيئتنا، الفقيرة، فلم يجد الأهلُ تفسيراً لامتناعي، فجأة، عن أكل اللحم في تلك الفترة؛ وهيَ العادة، التي بقيتُ مثابراً عليها حتى سن العشرين، حينما بدأت دورة الأغرار في كليّة الدفاع الجويّ. وعودة إلى زمننا الحاضر، المكتنف حالياً بمناظر دامية على مدار الساعة لأطفال سوريّة الشهداء، من ضحايا النازيّة الأسديّة. إنّ المرءَ ليتساءل، في هذه الحالة، عن أولئك الصغار من الأحياء الناجين، المشرّدين داخل وخارج الوطن: كيف يمكن لهم أن يتجاوزوا آلامهم النفسيّة، الساحقة، المترتبة على شهودهم عياناً مقتلَ ذويهم وأشقائهم وأصدقائهم، ناهيك عن الرعب والفزع والجوع والحرمان والبرد والذل والاهانة..؟
لطالما نصحتُ ولديّ، عبثاً، عن مضار متابعة المشاهد الموضوعة في اليوتيوب بخصوص الثورة السوريّة. حينما بدأت هذه الثورة، كانا على التوالي في سنّ الخامسة عشر والعاشرة. وبمحض المصادفة أيضاً، كنت بنفسي في عمر ابني البكر، حينما نشبت حرب تشرين الأول 1973؛ كما أنني كنت أضاهي عمر ابنتي، عندما جرت وقائع الأيام الستة من حرب حزيران 1967: إلا أنّ العدوّ الإسرائيليّ ـ ويا للمهزلة ـ كان أكثر انسانيّة بما لا يقاس مقارنة ً مع العدوّ الأسديّ: إذ لم تشهد الحربان أيّ هجماتٍ جديّة، مقصودة، على الأهداف المدنية داخل دمشق؛ وهيَ عاصمة البلاد والمحاذية تماماً لحدود الجبهة، المشتعلة.
08-أيار-2021
04-آب-2013 | |
27-تموز-2013 | |
18-تموز-2013 | |
11-تموز-2013 | |
06-تموز-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |