صادق جلال العظم والنقد المنفلت من عقاله أدونيس نموذجاً ج2
خاص ألف
2013-04-18
بعد انتهائه من كتابه ذهنية التحريم، جوّبه إنتاج صادق جلال العظم الفكري بسيل من الدراسات والانتقادات التي وصلت في البعض منها حد التسفيه والتسطيح والخروج عما هو متعارف عليه في عالم النقد الفكري والثقافي، وخصوصاً من قامات فكرية عربية كانت إلى وقت قريب منارات في عالم المعرفة والعقل العربي، فها هو أدونيس يجابه العظم بسلسلة من المقالات التي يكيل فيها الاتهامات جزافاً دون أن يكون على بيّنة أو على دراية بما جاء في متن كتابه ذهنية التحريم والتي تناول العظم في القسم الأول منها كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (الاستشراق)، فيتمحور ردّ أدونيس على العظم في سياق تهمتين أو ملاحظتين كما يريد أن يطلق عليهما العظم نفسه، ولكن اللغة المستخدمة من قبل أدونيس لم تترك مجالاً أمام العظم إلا أن يسعى للرد عليه وتبرئة نفسه جملةً وتفصيلاً.
في القسم الأول من ردِّ أدونيس والذي يحمل عنوان (العقل المعتقل) ترد العبارة الافتتاحية التالية "اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع"، ثم يذهب للتنديد بعقلية التمذهب في عموميتها، وبالمتذهب السياسي والأيديولوجي خصوصاً، ذلك لأن التمذهب يعتقل عقل الإنسان ويفضي إلى الإرهاب والطغيان. ويستمد أدونيس معظم أفكاره وروح أحكامه من كتاب المفكر البولوني المعادي للشيوعية "شيسلاف ميلوش" والذي يحمل عنوان "العقل المعتقل"، والصادر في أوائل الخمسينيات، والذي ترجم إلى عدد من اللغات أهمها الإنكليزية والفرنسية.
تتمحور أفكار أدونيس في متنه، حول العلاقة بين التمذهب والإرهاب والطغيان، وحول صدور القمع عن اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة، وحول الشبه القائم بين النتائج التي يؤدي إليها التمذهب الفكري والسياسي والأيديولوجي من ناحية، وبين النتائج السلبية التي يوصل إليها التمذهب اللاهوتي من ناحية ثانية، مشروحة كلها في الكتاب الأصلي "العقل المعتقل". حتى أن التوازي الذي يقيمه أدونيس بين العدو- العميل الذي تجب تصفيته بالنسبة للتمذهب السياسي – الأيديولوجي، وبين الخارج – الكافر الذي يجب إبادته بالنسبة للتمذهب الديني – اللاهوتي موجودة بقوة ووضوح في متن الكتاب الأصلي أيضاً.
إن الفارق بين تناول المفكر البولوني في العقل المعتقل وخصائصه، وبين تناول أدونيس الموضوع عينه هو وضوح الأول وتهرب الثاني من الإفصاح. حيث بيّن شيسلاف ميلوش من دون أي التباس، أن الماركسية اللينينية أو الشيوعية هي التي تعتقل العقول (إفرادياً أو جماعياً) وترتد بها إلى ما يشبه تعصب العصور الوسطى اللاهوتية، في حين يفضّل أدونيس اللف والدوران بالنسبة لهوية "المذهب" الذي اعتقل عقل البعض ممن قرأوه وشوهوا كلامه بما يتلاءم مع أذهان أصحاب المعتقد ومحتوى معتقدهم. ومع ذلك لا يخلو رد أدونيس من بعض العبارات الموحية والأوصاف شبه الكاشفة حول طبيعة المذهب المقصود وهويته، كما في إشاراته "المذاهب الأيديولوجية المادية والعقلانية" التي تفسر الدين على أنه انعكاس لواقع مادي، وإلى نزوع أصحابها لإحلال عبودية محل عبودية أخرى، ولخلق أوثان جديدة نتعبد لها، وإلى العلمانية والمادية الخانقتين.
وهنا، هل يمكن لمثقف ومفكر بمستوى أدونيس أن يقتنع حقاً وبصورة جدية أن "اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع"؟ ألا يرى أدونيس أن لظاهرة القمع في الحياة الإنسانية والاجتماعية أسباباً ومصادر أعمق وأهم وأوسع من مجرد اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة؟ أوليس صحيحاً أن عدد الذين اعتقدوا بأنهم يمتلكون الحقيقة ولم يقمعوا كائناً من الكائنات هو عدد كبير في تاريخ البشرية، كما أن عدد الذين لم يعتقدوا في يوم من الأيام بوجود أية حقيقة حتى يمتلكوها وقمعوا بوحشية لا توصف وكلبية لا تجارى هو عدد كبير جداً أيضاً في مجرى التاريخ عينه؟ أوليس من علامات اعتقال التبسيط الفج لعقل أدونيس – في مرحلته الإسلامانية على أقل تعديل – محاولته اختزال مصدر ظاهرة تاريخية واجتماعية خطيرة مثل ظاهرة القمع إلى مجرد "اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة" لا أكثر؟ ما أسهل الحياة وأحلاها لو كان غياب هذا الاعتقاد سيؤدي أيضاً إلى غياب القمع من حياة الإنسانية؟!.
في القسم الثاني من الرد على صادق جلال العظم والذي عنونه أدونيس بعنوان: "جنون اتهام الآخر كما يتجلى عند صادق العظم". أكد العظم بأنه عندما كتب مقالته "الاستشراق والاستشراق معكوساً" لم يكن يعاني من أي جنون مؤقت، بل كان نتيجة لموقف عقلاني مدروس أدى به إلى اختيار صياغة المقالة بأسلوب نقدي "اتهامي" وفقاً لتقاليد النقاش الفكري السجالي وأصول الصراع الأيديولوجي الهادف، وهي تقاليد وأصول معروفة جيداً في تاريخ الفكر العربي – الإسلامي كما في تاريخ الثقافة الأوربية وصراعاتها المشهورة. كما أن أحداً لم يتهم إدوارد سعيد بالجنون لأن كتابه "الاستشراق" سجالي حتى آخر لحظة ومليء بالاتهامات القاسية (ليس أقلها العنصرية) الموجهة ليس إلى كبار المستشرقين فحسب، بل إلى عظماء المبدعين من أمثال غوته وفلوبير وماركس. أضف إلى ذلك أن أدونيس عدّ نقده السجالي لبعض آرائه ووجهات نظره "استهانة بكرامة الجنس البشري" على العموم، و"إزدراءً للآخر" بالمطلق. إن أدونيس يعلم بأنها ليست المرة الأولى التي ينشر فيها العظم سجالاً نقدياً فكرياً سجالياً اتهامياً. حتى أن أدونيس نفسه قام بنشر بعض هذه المناقشات في مجلته "مواقف" وأبدى إعجابه ببعضٍ منها، على الرغم من طابعها الاتهامي والتهكمي والنقدي اللاذع، ولم يقل في يوم من الأيام أن هذا الطراز من الكتابة السجالية ينطوي على "استهانة بكرامة الجنس البشري" من دون تحديد، وعلى "إزدراء الآخر" من دون تعيين! لكن يبدو أنه في اللحظة التي طال فيها نقد العظم لمقالات وكتابات أدونيس الإسلامانية ووجهات النظر الواردة فيها، تحول إلى نوع من الجنون وإلى "استهانة بكرامة الجنس البشري" لا على التحديد، وإلى "إزدراء الآخر" على العموم. ويسرد أدونيس جملة الاتهامات التي ساقها كما يعتقد العظم له بالنقاط التالية: أدونيس مفكر إسلاماني، متعصب للعودة إلى الإسلام، متعصب لروحانية الشرق، يعيد إنتاج أسطورة الخصائص مقلوبة لصالح تفوق الشرق بروحانيته على الغرب. فإذا نظرنا إلى جملة الاتهامات التي ساقها العظم له فإننا لا يمكن أن نستشف منها أي "استهانة بكرامة الجنس البشري" أو "إزدراء للآخر" بالعمومية التي تحدث عنها أدونيس، كما أنه لا يمكننا القول بأنها صادرة عن رغبة مجنونة طارئة أو مستدامة أصابت العظم؟ كما إن انزعاج أدونيس غير المبرر من العظم ظهر في نقطة أخرى أوردها العظم في أحد هوامش كتابه "الاستشراق والاستشراق معكوساً" مفاده بأن: "أدونيس قومي سابق، وعلماني سابق، واشتراكي ناصري سابق، ويساري متطرف سابق أيضاً". ويرد أدونيس على هذه التهم التي كالها له العظم بالحكمة التالية: "الحية التي لا تستطيع أن تغير جلدها تهلك، كذلك البشر الذين لا يقدرون أن يغيروا آرائهم، لا يعودون بشراً".
ومن جملة الانتقادات التي ساقها أدونيس للعظم بأنه لا يحسن القراءة ولا يفهم ما يقرأه، وبأنه أمعن تشويهاً واجتزاء في كتاباته التي تناولها بالنقد والتعليق. وكي يبرهن على ذلك أورد مقاطع طويلة من مقالاته الإسلامانية التي كان قد أشار إليها العظم واستشهد بها في مقالته "الاستشراق والاستشراق معكوساً" وهذه الاتهامات تتلخص فيما يلي:
1- اعتماد نظرية استشراقية مقلوبة في فهم التاريخ العربي الإسلامي وتفسيره وتحديد طبيعة محركه الأول.
2- تبنّي التعارض الاستشراقي المعروف بين الشرق والغرب بصورة معكوسة، أي لصالح تفوق الشرق على الغرب هذه المرة مع كل ما يترتب على هذا الموقف من نتائج مثل الأخذ بأسطورة الخصائص والترويج لها.
وفي معرض ردّه على هذه الاتهامات يبدأ العظم بدراسة بيان الحداثة لأدونيس، فالحداثة عند أدونيس (بمعناها الحقيقي والعميق) ليست الحداثة الزمنية، أي حداثة الارتباط بالعصر. وهي ليست حداثة التغاير مع القديم من الأشكال والموضوعات. كما أنها ليست حداثة المماثلة مع الغرب بصفته مصدر "الحداثة" بمستوياتها الفكرية والفنية. كذلك لا يكمن جوهر الحداثة ومعناها العميق في حداثة الاستحداث الشكلي أو المضموني بما يتناسب مع منجزات العصر وقضاياه. إذاً، ما حقيقة الحداثة؟ يقول أدونيس: الحداثة، بمعناها الحقيقي والعميق، هي الإبداع. وما هو الإبداع؟ الإبداع هو الإبداع. هذا هو جوهر الحكمة الأدونيسية التكرارية التي ينطوي عليها "بيان الحداثة" في لبّه. في الواقع لا يحمل السؤال ما هو الإبداع؟ أي معنى ضمن إطار الخطاب الأدونيسي لأن الإبداع لا يوصف ولا ينعت إلا بذاته، كما أنه لا يسند إلا إلى ذاته. بعبارة أخرى، عندما ننفذ إلى جوهر "بيان الحداثة" نجد أنفسنا أمام مقولة ميتافيزيقية أولية إطلاقاً، لا تقبل التفسير ولا تحتاجه من ناحية أولى، ولكنها تفسّر – بصورة من الصور – ما هو لاحق عليها ونابع منها من ناحية ثانية. أي يقع الإبداع عند أدونيس في التحليل الأخير، خارج الزمان والمكان والتاريخ والصيرورة المادية والبشرية عموماً. وبما أن الحداثة في معناها الحقيقي والعميق ليست إلا فعل الإبداع الذي يصنعها أو يتجلى من خلالها، قطع أدونيس بحدة كل علاقة جوهرية للحداثة بالزمان وبالعصر وبالتغاير عن القديم، وبالمماثلة مع حضارة أخرى متجاورة مكانياً، وبالتجديد المضموني والشكلي مهما كان نوعه. يضاف إلى ذلك أن أدونيس ينزع إلى الكلام عن الإبداع بلغة لا تستخدم عادة إلا عندما يراد الإشارة إلى الله. وهنا نورد عينة من عبارات أدونيس لتبيان نوع الصيغ التي يستعملها في كلامه عن الإبداع:
أ- الإبداع لا عمر له، لا يشيخ.. إذ ليست كل حداثة إبداعاً، أما الأبداع فهو أبدياً حديث.
ب- الإبداع تحقيق دون نموذج، الإبداع نموذج ذاته.
ت- فالإبداع حضورٌ دائم. وهو، بكونه حضوراً دائماً، حديثٌ دائماً.
ث- الإبداع ليس تقدماً تقنياً أو نموذجياً، إنه انبثاق – اكتشافٌ للأصل لا نهاية له.
ج- لا وسيط، في الإبداع، بين العدم والاسم. أن تولد وأن تسمّى فعل واحد.
ح- إنه سديم يتمرأى، يتصور ذاته.
يعترض أدونيس بشدة على نقد العظم له بقوله أنه شوّه وجهات نظره عندما ناقش تصوره للثنائية القائمة بين الشرق والغرب واتهمه، بالتالي، بإعادة إنتاج هذا التفريق الاستشراقي الكلاسيكي على الطريقة الإسلامانية المعكوسة، أي لصالح الشرق، مع ما يرافق هذه الثنائية من ترويج لأسطورة الخصائص. فيرد مؤكداً أنه أوضح في "بيان الحداثة" : أنه في الأصل لا غرب ولا شرق، بل في الأصل الإنسان سائلاً، باحثاً. وإن الشرق والغرب هما "وجهان لمشكلة واحدة، إخوان يبحثان". وإن التمييز بينهما هو تمييز أيديولوجي استعماري فقط. وهنا يقول بالحرف في بيان الحداثة: "إبداعياً، أعني على مستوى الحضارة بمعناها الأكثر عمقاً وإنسانية، ليس في الغرب شيء لم يأخذه من الشرق، الدين، الفلسفة، الشعر (الفن، بعامة) "شرقية" كلها. ويمكنكم أن تستأنسوا بأسماء المبدعين في هذه الحقول، بدءاً من دانتي حتى اليوم. فخصوصية الغرب هي التقنية، لا الإبداع. لذلك يمكن القول إن الغرب حضارياً، هو ابن للشرق، لكنه تقنياً، لقيط: انحراف – استغلال، هيمنة، استعمار، امبريالية. إنه، في دلالة أخرى تمرد على الأب، وهو، الآن، لم يعد يكتفي بمجرد التمرد، وإنما يريد أن يقتل الأب".
فهو لا يتردد لحظة واحدة في استخلاص النتائج المنطقية والعملية المترتبة على هذا الموقف. لذلك نراه يصر كل الإصرار على إرجاع كل ظاهرة من ظواهر الإبداع في الغرب إلى أصولها الشرقية المزعومة. أو على حد تعبير أدونيس: "لهذا كانت الإبداعات الكبرى في الغرب سواء أكانت دينية أم فنية أم فلسفية، تجاوزاً للتقنية، أي شرقية الينابيع، أنها من نوع شرقنة الغرب". أي عندما يحدث ويبدع الابن اللقيط تقنياً، فإنه يخرج عن طوره وطبيعته فلا يعود غرباً بالمعنى الجوهري والعميق للعبارة، بل يرتد إلى أبيه، إلى أصله، فيتشرّقن. لذلك يصف أدونيس الفيلسوف الألماني الوجودي مارتن هايدغر بأنه "غربي" الولادة، "شرقي" الأصل والتكون. لأنه فيلسوف مبدع (خصوصاً في تفكيك الغرب)، على الرغم من أن هايدغر متعصب أيما تعصب ليس "لغربيته" فحسب، بل لألمانيته الضيقة أيضاً مما جعله يعلن أن فعل التفلسف لا يمكن أن يتم حقاً إلا بلغتين هما اليونانية والألمانية. وليس أكثر دلالة على تعصبه هذا أكثر من كونه أبرز المفكرين الألمان الذين تعاطفوا مبكراً مع النازية وأيدوها مما أوصله في العام 1933 إلى شرف من نوع معين: أول رئيس قومي اشتراكي (نازي) لجامعة فريبورغ. وألقى هايدغر بمناسبة استلامه هذا المنصب، محاضرة شهيرة حول دور الجامعة في الرايخ الجديد، مجدّ فيها إشراقة شمس ألمانيا الجديدة والعظيمة. أما في كتابه المنشور عام 1953 "مدخل إلى الميتافيزيقيا" فقد دعا أمته – الأمة المركز على حد تعبيره – الواقعة بين مطرقة همجية المجتمع الروسي وسندان همجية المجتمع الأمريكي، إلى تحقيق رسالتها التاريخية والنهوض بمهمة تجديد البداية العظيمة للفكر الغربي – وهي المهمة التي لا يستطيع النهوض بها أي طرف آخر غير الشعب الألماني – وإنقاد الإنسان والوجود نفسه من حال العدمية والتردي التي وصلا إليها. يبدو أن هايدغر "شرقي الأصل والتكون" على الرغم من نفسه ومن قناعاته الفلسفية والسياسية الغربية كلها إلى أقصى حدود الشوفينية. كذلك يؤكد أدونيس: أن الشعر الغربي الحديث في ذرواته العليا هو أيضاً نوع من الانتماء إلى الشرق "أو نوع من شرّقنة الغرب" (أي عودة به من خصوصيته التقنية العقلانية إلى الينابيع الإبداعية الأولى الفاعلة حقاً في الشرق وحده)، وأن شعرية الشعر الغربي العظيم تتصل بخصائص مشرقية: النبوءة، الرؤيا، الحلم، السحر، العُجابية، التخييل، اللانهاية، الباطن أو ما وراء الواقع، الانخطاف، الإشراق، الشطح، الكشف... إلخ.
وعند أودنيس:
- بودلير، بصفته من مبدعي الرؤيا الشعرية الغربية الحديثة، هو في أجمل شعره، من أصل شرقي – صوفي.
- رامبو، أعمق ما في شعره صراخه وبحنجرة الشرق، كما أن أعمق ما في شعره يتألف من تنويع على التصوف الشرقي مروراً بتقاليد الأسرار الشرقية وطقوسها. وفي إشراقات شعره رجاء الانخطاف وتحرير النفس من الجسد (على الطريقة الإبداعية الشرقية أيضاً).
- نوفاليس، شرقي الأصل والتكوين أيضاً، بخاصة في قوله إن الشاعر يرى ما لا يُرى ويحس بما فوق الحس.
- مالارميه، شرقي في كهانته ونرجسيته وملائكيته.
- الكوكبة الشعرية التي توجه الحساسية الإبداعية في الغرب هي شرقية أيضاً، هولديرلين، نرفال، لوتريامون، بروتون بسرياليته التي هي عميقاً، تجربة صوفية (والتجربة الصوفية الحقة لا يمكن أن تكون إلا شرقية لأنها إبداع عند أدونيس).
- فن الرسم ومؤسسوه في الغرب كلهم غربيو الولادة وشرقيو الأصل والتكون، كاندنسكي، باول كلي، بيكاسو، براك، ميرو.
وعندما يحاور أدونيس الشاعر الفرنسي الماركسي المعاصر غيفيك يجهد نفسه لإرجاع إبداعاته الشعرية الفرنسية إلى أصولها الشرقية الصوفية، على الرغم من أن الشاعر الأوروبي يصر على الأصول السلتية لشعره ووحيه وإبداعه.
على سبيل المثال:
أدونيس: تحدثت في مجموعتك "كارناك" عن بحر يمتزج بالعدم، أجد هذا قريباً جداً من الحس الشرقي العربي، خاصة في الجانب الصوفي منه.
غيفيك: لم أكن أعرف ذلك ولم أقصده.
أدونيس: إنه يعطي لشعرك صفة خاصة تميزه عن غالبية الشعر الفرنسي اليوم.
غيفيك: قالو لي أنه يصعب حصر شعري تحت عمود الشعر الفرنسي وهذا يعني أن شعري قد ظل في أعماقه وجذوره سلتياً.
وإذا ذكر غيفيك المقدس في شعره، كأي شاعر أوروبي أو أمريكي لاتيني أو شرقي ومنذ القدم، لا بد أن يكون لهذا علاقة بالشرق.
أدونيس: تتحدث كذلك عن المقدس، وهذا يذكرني بالتصوف العربي، أيضاً.
غيفيك: أحقاً ذلك.. يهمني ما تقول.
ماذا بقي للغرب إذاً، غير الفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا والتقدم والمادية التاريخية ورحلات الفضاء؟ أي لم يبق له سوى عالم السطح والظاهر وفقاً لثنائية أدونيس الواضحة أو على حد تعبيره:
"لنلاحظ أخيراً أن الغرب، اليوم، هو تقنية – تقدم، أي بقاء في حدود الظاهر، وأن الشرق هو هذا الهاجس الذي لا يرى الظاهر إلا عتبة للباطن – الباطن الذي هو موطن الحقيقة، أي موطن الإنسان".
وبطبيعة الحال تتلخص النتيجة المنطقية المتربتة على هذه الرؤيا الثنائية لعلاقة الشرق بالغرب بالقول أن الغرب يمكن أن يفيد الشرق تقنياً في حين أن الشرق هو القادر على تجديد الغرب روحياً وإبداعياً وكيانياً وأنطولوجياً وعميقاً إلى آخر هذه اللائحة المعروفة من التعابير الاستشراقية الكلاسيكية المعكوسة.
المراجع:
العظم، صادق جلال: ذهنية التحريم، دار المدى، ط5، 2007، دمشق، سوريا.
نهاية الجزء الثاني
/ خاص ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
15-آب-2020 | |
16-أيار-2020 | |
26-تشرين الأول-2019 | |
15-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |