صادق جلال العظم وحقيقة الأدب كما تتجلى في الآيات الشيطانية ج3
خاص ألف
2013-04-25
"سلمان رشدي متهماً"
في ربيع العام 1989 ظهر كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية" محدثاً سجالاً وسخطاً إسلامياً لم يسبق له مثيل، ولتصدر العديد من الفتاوى الدينية التي تحرم تداول الكتاب، حتى أنها وصلت في إحداها إلى رصد مبالغ مالية كبيرة لمن يستطيع قتل الكاتب في المدينة التي يقطن فيها لندن أو في أي مكان آخر في العالم، وكان مطلق هذه الفتوى هو آية الله الخميني. ومما يدعو إلى الدهشة والامتعاض أيضاً أن كثيراً من المثقفين والأدباء والجامعيين الذين كانوا يدّعون حرصهم على حرية الكاتب وفسح المجال أمامه لينسج الأجواء الخاصة بإنتاجه الأدبي أو الفكري دون قيد أو شرط، وقفوا في طوابير المستهدفين نقداً وسباً ولعناً بالآيات الشيطانية وكاتبها دون بيان أو حجة أدبية أو دينية أو حتى فكرية في أضعف الأحوال، ودون أن يتكبدوا عناء قراءة الرواية أو حتى مطالعة أجزاء منها، ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ من قوى الاستبداد السياسي ونزعات الإنغلاق الديني وحركات التعبئة الأيويولوجية الظلامية – القروسطية وقيادات الشحن الطائفي المذهبي الضيق في العالم الإسلامي عموماً وفي العالم العربي خصوصاً.
يرى صادق جلال العظم من خلال المتابعة الحثيثة لكل ما نشر في العالم العربي من دراسات أو مقالات أو بحوث أنها تعاني من جملة من المشكلات البديهية والبدائية المعيبة.
في ربيع العام 1989 ظهر كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية" محدثاً سجالاً وسخطاً إسلامياً لم يسبق له مثيل، ولتصدر العديد من الفتاوى الدينية التي تحرم تداول الكتاب، حتى أنها وصلت في إحداها إلى رصد مبالغ مالية كبيرة لمن يستطيع قتل الكاتب في المدينة التي يقطن فيها لندن أو في أي مكان آخر في العالم، وكان مطلق هذه الفتوى هو آية الله الخميني. ومما يدعو إلى الدهشة والامتعاض أيضاً أن كثيراً من المثقفين والأدباء والجامعيين الذين كانوا يدّعون حرصهم على حرية الكاتب وفسح المجال أمامه لينسج الأجواء الخاصة بإنتاجه الأدبي أو الفكري دون قيد أو شرط، وقفوا في طوابير المستهدفين نقداً وسباً ولعناً بالآيات الشيطانية وكاتبها دون بيان أو حجة أدبية أو دينية أو حتى فكرية في أضعف الأحوال، ودون أن يتكبدوا عناء قراءة الرواية أو حتى مطالعة أجزاء منها، ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ من قوى الاستبداد السياسي ونزعات الإنغلاق الديني وحركات التعبئة الأيويولوجية الظلامية – القروسطية وقيادات الشحن الطائفي المذهبي الضيق في العالم الإسلامي عموماً وفي العالم العربي خصوصاً.
يرى صادق جلال العظم من خلال المتابعة الحثيثة لكل ما نشر في العالم العربي من دراسات أو مقالات أو بحوث أنها تعاني من جملة من المشكلات البديهية والبدائية المعيبة.
المشكلة الأولى
تتمحور المشكلة الأولى في تورط الكثير من الكتاب والمثقفين والصحفيين والنقاد والمعلقين والجامعيين في الهجوم على كتاب لم يقرؤوه. فعلى سبيل المثال لا يجد الدكتور أحمد برقاوي أي حرج في أن يطلق أحكامه السلبية المبرمة على "الآيات الشيطانية" وعلى مؤلفها، على الرغم من إعلانه الصريح أنه لم يقرأ الراوية ولم يسمع عنها إلا من هذه الإذاعة أو تلك، وأنه لم يقرأ منها إلا "نتفاً في بعض المجلات والصحف". ونتيجة عدم قراءته سطراً واحداً من الرواية توصل إلى أحكام نقدية جريئة ومدروسة على النحو التالي:
"تنطوي الرواية على قدر كبير من السوقية والابتذال والسفاهة والوقاحة مما يدفع الإنسان العربي، ملحداً كان أم مؤمناً، أن يقف منها موقفاً نقدياً وعدائياً". كما أنه يتهم الأديب بالصبيانية والجهل وضيق الأفق والغباء. فلو أن طالباً في السنة الثانية في كلية الآداب في جامعة دمشق قدم حلقة بحث إلى الدكتور البرقاوي وفيها أحكام عرمرمية (حول كتاب ما) استناداً على ما سمعه الطالب عن ذلك الكتاب من هذه الإذاعة أو تلك، وما قرأه من نتفٍ حوله في بعض الصحف والمجلات، لما نال من الدكتور البرقاوي إلا صفراً وتوبيخاً قاسياً لأنه ما هكذا تقيّم الكتب حتى في جامعاتنا العربية المهترئة. وقد وقع في ذات الخطأ المفكر الكبير هادي العلوي الذي أصدر أحكاماً مسبقة بأن الرواية هي "عمل استشراقي تم توريط سلمان رشدي في كتابته" بحيث "ينوب عما كان يمكن أن يكتبه مستشرق من تلامذة الأب لامانس"، وأنها تدخل في باب الأدب السياسي المألوف في "الكتابات الصهيونية". وهنا يتمنى صادق جلال العظم أن يبقى هادي العلوي كمفكر نقدي وتقدمي جريء في مستوى أرقى من الذين سلكوا الطريق الديماغوجية السهلة التي تعزو كل ما لا يعجبنا في العالم إلى المؤامرة الصهيونية العالمية، وتفسير كل ما لا نستسيغه من نقدٍ بنسبته إلى الاستشراق اللعين وتأثيراته وأعوانه وتلامذته وما إليه. فلو أن هادي العلوي قرأ الرواية لما أطلق عليها أحكاماً تتصف بهذا القدر من السخف والاستهتار. فالدراسة الدقيقة "للآيات الشيطانية" تحديداً ولأدب سلمان رشدي عموماً، تؤكد بأنه ليس هناك ما يمت للاستشراق بمعناه الرديء، وليس لمواقفه أية علاقة بالأب لامانس وأمثاله. إن أي قراءة متأنية للرواية سوف تبين للمثقفين والمتورطين في مثل هذه الأحكام الاستباقية أن سلمان رشدي يرفض التقسيم الميتافيزيقي للعالم إلى "شرق" و "غرب" على الطريقة الاستشراقية المعهودة، وبما يؤكد التفوق الأزلي لخصائص الغرب الدائمة على الشرق. وسيجدون في أدب رشدي نقداً ساخراً ولاذعاً لرغبة الغرب واستشراقه في الحفاظ على "روحانية الشرق وسحره وعجائبيته واستبداده"، واستهزاءاً لا يرحم بالشباب الأوربي المتخم الذي يهاجر ضجراً إلى الهند بحثاً عن "الامتلاء الروحي" في شرق متورم، بل منتفخ روحياً بالفعل ولكنه جائع غذائياً وسقيم جسدياً ومحطم اجتماعياً وخاضع سياسياً وملحق اقتصادياً. ومن ناحية ثانية، فلن تجد في الرواية أية إشارة للقضايا والمسائل التي اهتم بها الأب لامانس وخاصة تعصبه للأمويين في وجه الحركات الشعبية المعارضة لهم.
الواقع هو أن أدب سلمان رشدي بما في ذلك "الآيات الشيطانية" ينتصر للشرق ولكن ليس لأي شرق بالمطلق، بل للشرق الذي يجهد لتحرير نفسه من جهله وأساطيره وخرافاته وبؤسه وديكتاتوريته العسكرية وحروبه الطائفية والمذهبية وهامشيته الكاملة في الحياة المعاصرة. أي لذلك الشرق الذي يعمل على وعي حقيقة ظروفه وأوضاعه نقدياً، وتشخيص أسباب تخلفه وتقاعسه موضوعياً، وعلى تجاوز عاره الراهن مستقبلياًَ. ومثل هذه الرسالة للشرق نجدها في أدب نجيب محفوظ.
وفي تعليق آخر على الرواية يقول: "أبعاد المؤامرة الصهيونية تتجلى في الجهد الضخم الواسع الذي بذلته الأوساط الغربية والصهيونية لإعداد هذا الكتاب وترجمته إلى مختلف اللغات ونشره بسرعة في أقصى نقاط الأرض وفي الدعم المالي السخي الذي لاقاه من قبل الكثيرين من الرأسماليين الكبار...".
نقف هنا أمام ديماغوجية قديمة وبسيطة تعمل على إزاحة المسؤولية عن النفس بواسطة لوم العالم كله على فعل تقع مسؤوليته المحددة على الذين نفخوا الروح مجدداً في طقوس إحراق الكتب التي لا تعجبهم، وعلى الذين حكموا بالإعدام على سلمان رشدي بإسم الإسلام وعبر الإذاعة والتلفزيون. إن ديماغوجية هذا الصنف من العقل التآمري كثيراً ما تأخذ شكل الأسئلة الخطابية "الإرهابية" الاتهامية مسبقاً من نوع: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ بحيث توحي الأسئلة مباشرة بوجود "المؤامرة الغامضة" وخطرها و "بالإيدي التي تعمل في الخفاء" مما يعمل بدوره على الإسكات الفوري لأي سؤال، وتحقيق السيطرة على مجريات الخطاب والنقاش وعلى البتر الإتهامي شبه الخياني لكل محاولة للاستمرار في الحوار.
وهنا يطرح صادق جلال العظم السؤال الآتي: ماذا نستنتج من إقدام نخبة من الانتلجنسيا العربية على مناقشة كتاب هام أثار ضجة دولية لا سابقة لها أو مثيل، بهذا المستوى من الخفة والاستهتار وبهذا المقدار من الاستعلاء الأجوف والعجرفة الزائفة؟
تكمن الإجابة في النص التالي للجاحظ: "وفي الفرس خطباء، إلاّ أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة. وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع، أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال الألفاظ عليه انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحداً من ولده".
إن أدب سلمان رشدي الأعجمي هو نتاج "اجتهاد وخلوة ومشاورة ومعاونة وطول تفكر ومعاناة ومكابدة ودراسة كتب وإجالة فكرة ... إلخ"، في حين أن هجوم النقّاد عليه وعلى روايته هو نتاج "البديهة والارتجال وصرف الوهم إلى الكلام ورجز يوم الخصام".
المشكلة الثانية
تكمن في أن المتهجمين العرب والمسلمون عموماً على "الآيات الشيطانية" عالجوا موضوعهم وكأن رشدي فقيه وعالم ومؤرخ ومحقق ولاهوتي وواعظ وعالم منطق، بدلاً من أن يكون فناناً وأديباً وروائياً. فاتهموه بالكذب والتشويه واختلاق الحوادث وتزييف الواقع وتزوير الحقائق والخروج على الصدق وتحدي منطق العقل، والبذاءة والفحش أيضاً. وهذا نموذج عن هذا النوع من النقد والاتهام:
"إن رواية "الآيات الشيطانية" تتعارض مع الحقائق التاريخية والدينية والسيرة النبوية ومنطق العقل. كما أنها رواية خرافية مبنية على أوهام وأساطير لا أساس لها من الصحة، ولا حظ لها في الحجة والبرهان... تحلّل سلمان رشدي من أي منهج علمي، ومن أي توثيق مصادري لـ "الآيات الشيطانية" فروايته أبعد ما تكون عن التاريخ وأقرب إلى الوهم والخرافة".
وبعد أن قارن الدكتور أحمد برقاوي الراوية بكتابات المؤرخين العرب والمسلمين والفرنجة من الذين أرّخوا لحياة النبي محمد (إن كان حيادياً أو غير حيادي، بشكل منصف أو غير منصف) وجدها لا ترقى إلى مستوى تلك الكتابات في المعالجة والعرض، مما يعني تعذر تناولها بالنقد والتصحيح والتحليل... ، على حد قوله. ومع أن الكتاب الوحيد المعقول الذي صدر بالعربية حول "الآيات الشيطانية" يعترف في بدايته بحق الروائي في خلق عوالمه وأجوائه وبالاستقلال النوعي الكبير الذي يتمتع به الخطاب الأدبي والفني عموماً فإنه يعود ليغرق مجدداً في نقد فج لرشدي ويحاسبه حساب المؤرخ والفقيه وعالم المنطق. ومع أن الاتهامات لرشدي بالكذب والتشويه وما إليه لا تقول شيئاً جدياً عن روايته، فإنها تقول، في اللحظة ذاتها، أشياء جدية كثيرة عن أصحاب تلك الاتهامات. على قدر كبير من الأهمية، عن مفهومهم البدائي المتخلف لمعنى الأدب وعن خيالهم الفني المحدود بالبعد الواحد وعن حسهم الجمالي المتبلد على الرغم من سعة إطلاع بعضهم ودراسة بعضهم الآخر للديالكتيك وتدريسهم له.
فحين نسمع صديقاً يشكو لصديقه ما فعلته به هموم الدنيا
وصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
أدرك فوراً أنني في حضرة الشعري والأدبي الجميل وليس في حضرة شكوى صادقة تاريخياً ودقيقة موضوعياً، وحين اسمع مقاطع لجولييت تقول في مسرحية شكسبير الشهيرة
What is in a name?that which we call a rose by any
other name would smell as sweet.
أعرف أنني في حضرة فائض من المعاني والأحاسيس والصور والإيقاع والموسيقى ينكمش أمامه المعنى الحرفي البسيط لكلامها إلى مستوى اللاشيء، وتتراجع أمامه الرسالة الموضوعية الساذجة التي يحملها خطابها إلى حدود العدم. تصوروا ناقداً يناقش شكسبير بأن الوقائع التاريخية الثابتة تبين أنه لم يحدث أن حكم الدانمارك أمير اسمه هاملت وإن الحقائق العلمية الراسخة تبين أن الأشباح لا وجود لها لأن أرواح الموتى لا يمكن أن ترجع إلى هذا العالم! تصوروا ناقداً آخر يناقش بيت المتنبي استناداً إلى مدى انطباقه على الحقيقة الموضوعية ومدى انسجامه مع العقل والمنطق والتجربة المحسوسة! باستطاعة ناقد كهذا أن يطرح سؤالاً خطيراً: كيف بقي المتنبي على قيد الحياة بعد أن أصابته السهام الأولى في مقتل؟
إن رواية رشدي تبدأ بحادثة سقوط صلاح الدين شامشا وجبريل فاريشتا من طائرة مخطوفة تم تفجيرها فوق سماء لندن، وفي رده على الرواية طرح الدكتور سيد أشرف (المدير العام للأكاديمية الإسلامية في كامبريدج وعضو كلية التربية في جامعة كامبريدج) السؤال النقدي التالي: هل يعقل أن يسقط بشر من طائرة على هذا الارتفاع الشاهق ويصل الأرض سالماً؟.هذا السؤال على بساطته يفضح كل ما هو مُضمر ومتضمن في الاتهامات الموجهة لرشدي من جهة الكذب والاختلاق والتشويه، ويسوق العظم بعض الأمثلة من التراث الإسلامي والعربي والأوربي حول الفن والأدب:
- كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه
البحتري
- أطيب الشعر أكذبه، وأحسن الشعر أكذبه.
المرزوقي
- فإن أحسن الشعر أكذبه، بل أصدقه أكذبه.
ابن الأثير
- بالنسبة للشعراء فإن الاقتصاد محمود إلا منهم والكذب مذموم إلا فيهم.
القيرواني
- أصدق الشعر أكثره اختلاقاً.
وليام شكسبير
- نحتاج الفن حتى لا تميتنا الحقيقة
نيتشه
- الفن كذبة نفهم بواسطتها الحقيقة.
بيكاسو
- علينا أن نكذب كي نقول الحقيقة
جان جونيه
من الواضح إن المثقفين والنقاد القدامى أكثر معاصرة في فهمهم لمعنى الأدب وفي استيعابهم جدلية العلاقة بين الصدق والكذب في الفن، وفي تحديدهم الخصائص المميزة للإبداع الشعري والفني عموماً من نقادنا المعاصرين. وهنا يُذكّر العظم بالنقاط التالية:
- فكما أنه باستطاعة الإنسان أن يعد الأشجار كلها دون أن يرى الغابة، كذلك بإمكانه، أيضاً، أن يسرد الوقائع كلها وأن يذكر التواريخ جميعها وأن يشير إلى الصدق بأكمله دون أن يرقى إلى الحقيقة.
- لأن الشعر يُغني ويعزف وينحت ويزخرف ويصوّر ويروي ويبني ويتقمص ويضحك ويبكي ويوحي ويعبئ ويحرك ... إلخ، عدّه الفيلسوف الألماني الكبير هيغل سيد الفنون الجميلة وأرقى أشكال التعبير الأدبي الممكنة وأسماها. أوليست مصيبة، إذن، أن يجد واحدنا نفسه وهو يدافع عن الأدب وحقيقته في وجه مثقفين ونقاد يفترض أنهم ينتمون إلى أمة شكّل الشعر الشكل الأساسي والأول لتعبيرها الفني والجمالي والأدبي على امتداد ما لا يقل عن خمسة عشر قرناً بلا انقطاع؟ أوليست فجيعة، كذلك، أن يجد أحدنا نفسه وهو يدافع عن الأدب وحقيقته في وجه مثقفين ونقّاد يفترض أنهم ينتمون إلى حضارة تمتاز بالاعتقاد العميق منذ القدم بأن معجزتها الأدبية الأولى هي في الوقت ذاته معجزتها الدينية المؤسسة؟
وهنا يسأل العظم سؤالاً بسيطاً آخر: ما هو رأي هذا الصنف من النقاد بفانتازيا الإسراء والمعراج مثلاً؟ فانتازيا انتقال النبي بجسده في ليلة معينة واحدة من مكة إلى القدس على ظهر كائن أسطوري ثم رحلته الخارقة إلى السماء السابعة ...إلخ. ما رأيهم بالمجلدات التراثية الضخمة التي كتبت في الوصف التفصيلي الدقيق المطوّل لأحوال أهل الجنة والنار، والمجلدات المشابهة التي تناولت عوالم الجن والعفاريت والأبالسة والملائكة بالوصف والتصنيف والتدقيق باحثة بإسهاب في سلالاتهم وعشائرهم ودياناتهم إلى آخر ذلك مما هو معروف؟ فكتاب القرطبي مثلاً "التذكرة في أحوال الموتى" يحتوي على أبواب وعناوين من النوع التالي: "في لباس أهل الجنة وآنيتهم"، "باب ليس في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب"، "باب ما جاء في خيام الجنة"، "باب ما جاء في طير الجنة وخيلها وإبلها"، "باب ما جاء أن في جهنم جبالاً وخنادقاً وأودية وبحاراً وصهاريج وآباراً وجبايا وتنانير وسجوناً وبيوتاً وجسوراً وقصوراً ونواعير وعقارب وحيّات...إلخ، ... إلخ".
هل في هذا كله شي غير الإغراق في الوهم والخيال والأحلام غير المنطقية؟ وهل فيه غير الشطح شطحات عجيبة غريبة مثيرة للدهشة؟ أم أن نقادنا نسوا فجأة (وبانتهازية ثقافية – سياسية – دينية – دنيوية لا نحسدهم عليها) كل ما يعرفونه عن أهمية الأسطورة ودروها في الإبداع الفني وعن معنى الرمز والفائض الرمزي وضرورتهما في كل إنتاج أدبي عال وعن جدلية العلاقة بين المثال والواقع في الشعر القديم كما في الرواية الحديثة في أية ثقافة حيّة ديناميكية تجدد نفسها باستمرار؟
مجيد محمد
نهاية الجزء الثالث
المراجع:
العظم، صادق جلال: ذهنية التحريم، دار المدى، ط5، 2007، دمشق، سوريا.
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
15-آب-2020 | |
16-أيار-2020 | |
26-تشرين الأول-2019 | |
15-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |