صادق جلال العظم وحقيقة الأدب كما تتجلى في الآيات الشيطانية ج4
خاص ألف
2013-05-04
"سلمان رشدي متهماً"
في سياق الجزء الثالث من هذه الدراسة تطرقنا إلى جملة من المشاكل التي واجهت الدراسات العربية فيما يخص النقد والسجال الذي أحدثته الآيات الشيطانية، وهنا سنستكمل المشكلات الأخرى كما رآها صادق جلال العظم في كتابه ذهنية التحريم.
المشكلة الثالثة
تتمحور هذه المشكلة في أن المثقفين والنقاد العرب اعتقدوا أولاً، أن الغرب تبنى الكاتب سلمان رشدي ودافع عنه وعن قضيته، وعن نقده للإسلام، وثانياً في أن العالم الإسلامي بأكمله انتفض تلقائياً ضد الرواية وصاحبها. أما المصدر الرئيسي لهذا الوهم المزدوج فهو أجهزة الإعلام الغربية ذاتها بوكالات أنبائها وصحفها ومجلاتها وإذاعاتها وتلفزيوناتها. وبعبارة أخرى تصرف نقادنا وصحافيونا ومعلقونا وكأن الإعلام الغربي هو الغرب، وكأن الصورة التي قدمها عن رد فعل العالم الإسلامي هي العالم الإسلامي بالفعل دون أية محاولة للنفاذ قليلاً إلى ما هو قائم خلف المشاهد الإعلامية والمظاهر الإذاعية والتلفزيونية، أي دون أية محاولة لامتحان طروحات الإعلام الغربي قليلاً والتدقيق فيها نوعاً ما على ضوء الوقائع والتحليل الأولي للأحداث وخلفياتها.
بالتأكيد أن الحكومة البريطانية قد قامت بحماية رشدي جسدياً، ولم تفعل ذلك إلا للحد الأدنى المطلوب من أية حكومة تحترم نفسها قليلاً في مواجهة موجة من التحريض الديني الأجنبي الإذاعي والتلفزيوني على قتل أحد مواطنيها وعلى أرضها! إن حكومة سوموزا كانت ستفعل الشي ذاته، كما أن نظام بوكاسا ما كان ليسلك سلوكاً مغايراً حفاظاً على الحد الأدنى من مظاهر السيادة ورسميات الهيبة وما شابه. ولا شك في أن الإعلام الغربي استغل طقوس إحراق الرواية والفتوة بالقتل والجوائز المالية المرصودة لهذا الغرض لشن حملة معادية على الإسلام، تماماً كما هو متوقع. أما الانتلجنسيا الغربية فقد دافعت عن رشدي دفاعاً شكلياً بارداً وخجولاً ولم تتبنّ للحظة واحدة قضيته بالطريقة التي كانت تتبنى بها قضايا المنشقين السوفييت مثلاً، أو مؤلفات الكتّاب والأدباء اللاجئين إلى الغرب من الدول الشيوعية. أي دافعت الانتجلنسيا الغربية عن نفسها ووضعها وامتيازاتها وحقوقها وحرياتها أكثر بكثير مما دافعت عن رشدي وقضيته. ولابد من الإشارة، هنا، أن عدداً من النقاد والمراقبين الغربيين سجّل هذا العيب على الانتجلنسيا الغربية عموماً ولم يسكت عنه.
ولكي يتفهم نقادنا ومعلقونا حقاً معرفة موقف الغرب الجدي من قضية رشدي وروايته، عليهم، أولاً، ترك الإعلام الغربي جانباً للحظة والتوجه إلى رصد الغرب الحقيقي، أي رصد مواقف مراكز القوة ومواقع صنع القرار واتخاذه فيه، أي عليهم رصد مواقف الرئيس الأمريكي بوش ووزير خارجيته بيكر والكاردنيال أوكونار أسقف نيويورك، ومواقف رئيسة وزراء بريطانيا تاتشر والرئيس الفرنسي، والفاتيكان ومجالس الكنائس المسيحية بجميع أصنافها وأنواعها. ومجالس الحاخامات اليهودية في الغرب كله بما في ذلك اسرائيل. فلو كلّف نقادنا خاطرهم ونظروا إلى الغرب الحقيقي بدلاً من الغرب الإعلامي كان سيتبين لهم أن هذا الغرب لم ينطق بكلمة واحدة دفاعاً عن رشدي ولم يفه ببنت شفة في مديح رواية "الآيات الشيطانية". في الواقع أن العكس هو الصحيح تماماً. أدان هؤلاء كلهم الرواية ونددوا بها بسبب ما تنطوي عليه من نقد ساخر وجارح للغرب وكبار قادته وسياساته الداخلية والخارجية وحرصاً منهم على سلامة الدين عموماً ومصالح الدين الإسلامي تحديداً.
المشكلة الرابعة
تكمن في أن أحداً من النقاد العرب لم يحترم عقل القراء بإعطائهم فكرة أولية عما يفعله رشدي في "الآيات الشيطانية" قبل أن ينهال على الرواية ومؤلفها بالشتم والقدح والذم والاتهام مما يعني سلب القارئ حقه البدائي في أن يكوّن حُكماً أولياً بنفسه ولنفسه حول مشروع رشدي الأدبي وحول ما ينسبه له نقادنا من ذنوب لا تغتفر وجرائم تستحق الإعدام. أي أنّ هؤلاء النقاد قد نصّبوا أنفسهم أوصياء على القارئ دون أن يقرأوا. فمن القضايا المطروحة في "الآيات الشيطانية" رواية أو حديث (الغرانيق)، لأنه ما من ناقد من نقاد رشدي إلا ونعته بأبشع النعوت بسببها وبسبب استخدامه لها في متن روايته وفي عنوانها. وأي قارئ أو ناقد يحترم عقل قرائه عليه أن يعود إلى النص الحقيقي لحديث أو رواية (الغرانيق) كما وردت في تاريخ الطبري ليكون على بيّنة. يسرد الطبري الرواية بالشكل التالي:
"فكان رسول الله (ص) حريصاً على صلاح قومه، محباً مقاربتهم لما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنّى السبيل إلى مقاربتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدّثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدّثني محمد بن اسحاق... قال: لما رأى رسول الله تولّي قومه عنه، وشقّ عليه مايرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسرّه مع حبّه قومه، وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم، حتى حدّث بذلك نفسه، وتمنّاه وأحبّه، فأنزل الله عزّ وجلّ: "والنجم إذا هوى. ماضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى" فلما انتهى إلى قوله: "أفرأيتم اللّات والعزّى. ومناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه، ويتمنى أن يأتي به قومه: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى"، فلما سمعت قريش فرحوا، وسرّهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له – والمؤمنون مصدّقون نبيّهم فما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطأ ولا هم ولا زلل – فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيّهم، تصديقاً لما جاء به، واتباعاً لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخاً كبيراً، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرّق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، قد زعم فيما يتلو: "أنها الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن ترتضى". وآتى جبريل رسول الله فقال: يا محمد، ماذا صنعت! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عزّ وجلّ، وقلت ما لم يقل لك! فحزن رسول الله عند ذلك حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً كثيراً، فأنزل الله عزّ وجلّ – وكان به رحيماً – يعزّيه ويخفّض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يكُ قبله نبيّ ولا رسول تمنى كما تمنّى، ولا أحب كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم"
لقد رفع رشدي رواية الطبري على علاتها وبتفاصيلها، وحولها إلى أدب روائي رفيع بإعادة صياغتها صياغة درامية تشخيصية حوارية قوية ومؤثرة. لم يفعل رشدي أكثر من ذلك أبداً. ومن الواضح أن رواية الطبري مليئة بالعناصر الدرامية الخام، كصراع النبي مع نفسه بالنسبة لولائه الأولي لأهله وعشيرته ومدينته من ناحية ولمتطلبات دعوته الكبرى والتي كانت تصطدم اصطداماً مباشراً وعنيفاً بالولاء الأول، من ناحية ثانية. وقد تدخل الشيطان في هذا الصراع الداخلي لترجيح الولاء الأول على الدعوة ومتطلباتها. بينما تدخّل جبريل لإعادة التوازن بإلغاء ما حققه الشيطان ثم ترجيحه الدعوة على الولاء العشائري الأصلي. كما تنطوي سورة النجم على لحظة درامية خاصة تتلخص في النزاع العنيف الذي كان يتفاعل في أعماق النبي نتيجة شكوكه المتكررة في أن يكون الوحي الذي يتراءى له ليس أكثر من خيالات وأوهام وتصورات نابعة من صميم نفسه (أي من عقله الباطن ولا وعيه).
المشكلة الخامسة
تتلخص هذه المشكلة في أن أياً من نقاد رشدي العرب والمنددين بروايته لم يهتم للحظة واحدة بطبيعة التقليد الأدبي والفكري العام الذي ينتمي إليه رشدي وينحدر منه أي تقليد أدب المعارضة الهجائي الساخر والمتهكم والهازل، وفقاً للظروف والأحوال، وهي تقاليد عريقة جداً وبخاصة في الأدب العربي – الإسلامي. مثل ذلك يظهر في المقابلة الصحفية المفعمة بالغموض والالتباس والحذلقة والتهرب التي أكد فيها محمد أركون "بأنه لا يعرف مجتمعاً قديماً أو حديثاً لا يجذّر حقيقة وجوده في مقدس منتشر بالضرورة ومتبدل وكثيف ولكنه فاعل دائماً". والمفاجئ أن أركون كرّس قيم عصر التنوير وحقوق الإنسان وحرية الفكر والعلمانية وسيادة العقل في أوربا وحدها ولها وحدها ورفع إشارة استفهام كبيرة – بكلام مبهم وملتبس – على وضع هذه القيم ومستقبلها في بلادنا ومجتمعاتنا وبالنسبة لمصيرنا.
المشكلة السادسة
إن من يحمل على محمل الجد المادة الإعلامية والنقدية والتنديدية والتقريعية الغريزية التي صدرت في الشرق والغرب حول رواية رشدي وقضيته، لابد وصل إلى الاستنتاج الأعوج القائل بأنه لا حياة فكرية في حاضر المجتمعات العربية والإسلامية إلا تكريس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تطلع فعلياً عندها إلا إلى كل ما هو ماضٍ وفائت، ولا حراك اجتماعي فيها إلا حراك الأصوليات الإسلامية ودعوات العودة إلى مدينة الخلفاء الراشدين. لكن الواقع شي آخر تماماً، فهولاء يتناسون أن العالم العربي شهد منذ نهاية القرن العشرين سلسلة لم تنقطع من القضايا الشبيهة، إلى هذا الحد أو ذاك، بقضية رشدي والتي انفجرت كلها بسبب كتب وكتابات عصرية ومعاصرة تناولت المقدسات بالمراجعة العقلانية والمحرّمات بالنقاش العلمي والموروثات بالتقييم الحديث والاجتهادات المتخلّفة والمحرمات بالنقاش العلمي والسجال النقدي المفتوح. أثارت هذه الكتب في زمانها ضجات عربية وإسلامية ضخمة كما أدت إلى مناقشات فكرية وثقافية ودينية حادة وإلى محاكمات قضائية مشهورة وإلى أزمات سياسية – حكومية مشهورة وإلى تهجمات دينية شرسة من أعلى منابر المساجد وإلى اتهامات مألوفة بالكفر والإلحاد والزندقة والمروق.
مجيد محمد
المراجع
العظم، صادق جلال: ذهنية التحريم، دار المدى، ط5، 2007، دمشق، سوريا.
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
15-آب-2020 | |
16-أيار-2020 | |
26-تشرين الأول-2019 | |
15-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |