الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية: قراءة في الظاهرة وردات الفعل
2008-03-24
منذ نشرت صحيفة (JYLLANDS POSTEN) الدنماركية، وهي صحيفة يمينية متطرفة، في 30 أيلول ,2005 اثني عشر رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد (ص)، اعتبرها المسلمون في العالم، عن حق، مهينة لمقدساتهم، فأثارت بين ظهرانيهم، مشرقاً ومغرباً، عاصفة من الاحتجاجات والسجالات، وكذلك فعلت في شتى بقاع الغرب نفسه... منذ ذلك الحين والقضية لما تنتهِ فصولاً. وإذا كان أكثر المسلمين في أربع جهات الأرض قد جعلوها خلف أظهرهم (أو نسوها؟!)، فإن كثيراً من نخب الغرب ـ على تعدديته ـ لماَّ تنسها، بل هي تستحضرها في كل مناسبة للعلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي شأن واعتبار، أو إثارة.
كشفت تلك الرسوم الكاريكاتورية، وقبلها عاصفة سلمان رشدي في الآيات الشيطانية، عن مدى الاهتراء والتردي العلائقيين بين ذينك العالمين، وما كانت مجدية في معالجتها أو تداركها كل مسكنات الحوار الإسلامي ـ المسيحي التي جرى تجرعها على مدى عقود من التجارب المرجعية والمؤسسية أو الأكاديمية. وما صدر عن الفاتيكان إبان أزمة الرسوم عام 2005 من مواقف تراجعية عن «جدوى» هاتيك التجارب ومزاعم إنجازاتها، ومن تهديدات بالإقلاع عنها، يشكل مضبطة اتهام ناجزة لما آلت إليه. وما كاد البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر يتسنم كرسي البابوية، حتى ألقى بعيد ذلك، وتحديداً في 12 أيلول/سبتمبر ,2006 محاضرة في جامعة «ريغينسبورغ» الألمانية اعتبر مسلمو العالم أجزاء منها مهينة لدينهم ومشاعرهم. ما استتبع سجالات عالمية صاخبة استعادت الاستدلالات والحجج ذاتها تقريباً التي كانت قد استنزلت إلى «معركة الأفكار» التي اندلعت حول الرسوم الكاريكاتورية الدنمركية، مستثيرة بذلك التأصيلات المنهجية والفلسفية والثقافية نفسها التي كانت قد نفخت في روحها تلك الرسوم، فتمثلت خطاباً قلما جاء من طرفي السجال الإسلامي والغربي سوياً، أو عقلانياً، أو منبئاً بولادة تعارفية وعلائقية صحيحة وصحية، أو مبشراً باستعباد مقنع من التجارب العلائقية السابقة والمريرة بين العالمين الإسلامي والغربي، بل بقية العالم.
وفي ليال غير ظلماء، وبمقدمات مكشوفة وحجج مكررة، استنبشت أرشيفات الرسوم الدنمركية من جديد هذه الأيام، لتتطوع صحف ومجلات غربية بإعادة نشر كاريكاتورات (JYLLANDS ? POSTEN)، إحياءً لذكراها البائسة واسترجاعاً لخطاب حقوق الإنسان في «العالم الحر»، وفي رأسها: حرية الرأي والتعبير؛ ولكن، هذه المرة، من غير ردود فعل غاضبة أو شاجبة من مسلمي العالم، إلا ما ظهر من نوادرها الخجل في بعض وسائل الإعلام وعلى الأرض، بما لا يقاس بأحداث وحوادث ردات الفعل سنة .2005 ولا تخلو الظاهرة من مفارقة لافتة: غضب إسلامي أممي شعبي بعيد نشر الرسوم الكاريكاتورية عام 2005 تخللته مآسٍ وصدامات دموية، ومن ثم ردات فعل إسلامية محدودة ونخبوية وسلمية في بعض أرجاء العالم الإسلامي ومن قبل بعض مسلمي الغرب، وذلك بعدما أعيد نشر الصور في أقطار أوروبية مختلفة مؤخراً وفي نطاقات أوسع من تلك التي كانت شملتها من قبل. فما عدا مما بدا؟! فالسبب والمسبب واحد، كما القضية..، بينما ردات الفعل الإسلامية تبدلت وتحولت. كأنما هذه الردات انضمت إلى مثيلاتها من تجارب سابقة للرأي العام الإسلامي /الشارع الإسلامي الذي اختبرت المؤسسة السياسية الغربية ردات فعله مراراً وعرفت كيف تحتويها حيال قضايا كبرى، فوجدته قصير النفس غالباً، سريع التبلد (من البلادة)، مترعاً بقابليات الاحتواء والتدجين، يؤوساً متقلباً. وما تجاريب ردات الفعل تلك من احتلال أفغانستان والعراق، والحروب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، سوى بعض المصاديق على صحة هذا الابتلاء المزمن.
لهذا المتحول أسبابه بطبيعة الحال، وهو يحتاج إلى قراءة مستقلة لفهم أسبابه ودوافعه، وهي ليست في مقاصد هذه الدراسة التي تنكب على تقديم قراءة معمقة للظاهرة ولردات فعل العالمين الإسلامي والعربي والغربي إثر نشر تلك الرسوم للمرة الأولى، وها هي هزاتها الارتدادية تستنسخ بعض سماتها هذه الأيام، وإنْ بأشكال ومستويات متغايرة ومتفاوتة ومثيرة.
في هذه القراءة تتظهر مشهدية العلاقات بين ذينك العالمين بحقائقها السياسية والحضارية والإيديولوجية والتاريخية على نحو ينبئ بمدى اشتداد الاحتقان المزمن بينهما وتفاقم مثيرات التنازع والقلق المتبادل والتوجس من الآخر والارتياب بنواياه.
الضجة الكبرى التي أنتجتها ردات الفعل العالمية على الرسوم الدنمركية، عدا كونها حافلة بالعبر، هي من جهة أخرى، أصدق الإِنباء على الانشطار الحاد التوتر للعالم، وقد ذُهِب به كل مذهب.
في جيبوليتيك ذلك الاحتقان «الهستيري» المتبادل والمتعدد الأسباب بين المسلمين والعالم الغربي لا تعود قراءة ظاهرة الرسوم الكاريكاتورية الدنمركية ممكنة وفاق فرضية الصدفة أو المفاجأة العابرة، إذا أخذت من زاوية مبدأ الحدوث. أما انتفاء إمكان هذه القراءة فعائد إلى سببين: الأول مرتبط بسياق الاحتقان الغربي العام تجاه الإسلام والمسلمين ودلالاته ورموزه ووسائط تعبيره عن مكنوناته، بينما يرتبط السبب الثاني بسياق الاحتقان التاريخي في أوساط المسلمين وتعبيراته المختلفة ودلالاتها في النزال التاريخي مع ما يسمى بـ«الغرب». فواقع الأمر أن السياقين يسيران جدلياً في اتجاهين متعاكسين.
بمعنى آخر، إن سببية الاحتقان المختلفة لا بد من أن تفضي مبدئياً إلى نتائج مختلفة في الجهتين تعبر عن نفسها بمقتضى مسارات الإفصاح والتعبير المألوفة والمعتمدة في بيئتها وبأدواتها الثقافية المتاحة ووسائل الإعلام والتبليغ المتوافرة لديها.
كان «الغرب» منسجماً مع نفسه عندما لم تظهر عليه أعراض الاعتراض والاحتجاج على الرسوم الكاريكاتورية في البداية، وهي كانت عبَرَتْ في فضائه أول الأمر كما كانت قد عبرت نظيراتها الكثيرة سابقاً بأقل اهتمام أو انتباه ممكنين، لو لم تقم الدنيا الأخرى عليه وتعصف في هدوء صفحته. وكان صادقاً ومنسجماً مع نفسه عندما «فاجأته» ردات فعل المسلمين في العالم الإسلامي بما يشبه الانتفاضة الشعبية العارمة، فانبرى، إذْ بُهت وأصابته الدهشة، إلى محاولة فهم ما يحدث ـ وهذه حال هذا «الغرب» في ظروف مماثلة ـ وهو ما كان قد تعود على انتفاضات إسلامية شاملة من هذا النوع وبهذا الحجم والإصرار (المؤقتين؟!)، ففي حوادث مشابهة كان دأبها المرور مر السحاب، أما هذه المرة فانفتحت على مصراعيها وعلى أرضه آفاق نقاش وسجال عامين لمَّا تنتهِ فصولها بعد، وقد انقسمت فيها وجهات النظر وتعددت وتفاعلت. وفي هذه أيضاً كان «الغرب» هو الغرب الطبيعي والمألوف والمنسجم مع منظومة قيمه، مع فارق هام قوامه أن ردات الفعل الصادرة عن مسلمي العالم على الرسوم قد أخرجتها، كواقعة، من سياقها التقليدي الغربي الهادئ لتجعلها في صدر الاهتمامات الغربية وفي واجهة العلاقات الدولية والسجال المحتدم حول العلاقات بين الثقافات والحضارات، والعلاقات بين الأمم والشعوب، وأهمها في هذه المرحلة التاريخية النقاش المفتوح حول علاقات العالم الإسلامي بالعالم الغربي.
لقد كان لافتاً مستوى «العقلانية» والحكمة والتوازن في مواقف وخطاب الأقليات المسلمة الغربية التي مارست فعل الاحتجاج على الرسوم الكاريكاتورية من قلب مقتضيات «الاندماج» وشروطه (Intégration)، وهو الذي لطالما اعتبر أزمة الأزمات في علاقة تلك الأقليات بالمجتمعات التي تشترك وإياها في معيش واحد وتواطن موحد.
كانت غالبية المسلمين الغربيين في الاختبار العلائقي الذي خاضته، تنحو إلى الوسطية التي لم تشغلها إدانة ارتكاب فعلة الرسوم عن استنكار ما اعتبره الداعية الإسلامي الأوروبي الشهير طارق رمضان «هوس بعض الجماعات المسلمة بطلب الاعتذار أو الانزلاق إلى منحدر التهديد بالسلاح والإيذاء الجسدي للأجانب»(1). فردات الفعل المتعارضة الصادرة عن الطرفين المسلم والغربي لا تشكل في رأيه صراعاً بين الإسلام والغرب بالمعنى الإطلاقي لكل من المصطلحين، بل هي تعبير عن صراع بين الانفعالات والتعقل. فلا يجوز، بذريعة الحق في حرية الرأي والتعبير، توسل هذا الحق المشروع لأجل قول كل ما نريد، ضد كل من نريد، وبأية طريقة كانت(2).
وبقطع النظر عن صحة بعض تفاصيل رأي طارق رمضان، فإن الموقف العام لمسلمي «الغرب» جاء منسجماً مع طبيعة تجاربهم وأنساقها الخاصة المستلَّة من معايشتهم الواقعية للحقائق العلائقية المتجسدة بينهم وبين مواطنيهم المنتمين إلى إيديولوجيات أو أديان أو مشارب أخرى، وليس من مجردات نظرية أو إيديولوجية.
على صفحة الغرب والعالم انتشرت ظاهرة الرسوم الكاريكاتورية وردات الفعل عليها كبقعة الزيت، أو ككرة الثلج. في كل مكان شكلت هذه القضية دينامية جديدة بقوة دفع ذاتي ولو بمستويات مختلفة.
أما في قلب العالم الإسلامي والعربي فالاحتقان المزمن والمرفوع إلى أعلى وتائره أولى له، في القراءة العقلانية، أن لا يكون مفاجئاً لأي متابع إذا قيس بالمعايير الطبيعية لسيكولوجيا الحراك الجماهيري وتطور تفاعلاته، كما لطبائع البشر وسنن اجتماعهم أو تفرقهم.
لقد كانت موارد الانتفاض والتمرد في العالم الإسلامي والعربي متوافرة إلى حد بعيد، فمنذ عقود وهي لا تنفك عن التراكم والتفاعل والتضخم. حتى ان عدم حصول الانفجار كان يبدو مستهجناً ومستغرباً أكثر بكثير من حصوله، كما كنا قد نوَّهنا.
مع كل ذلك جاء حدوث «الانتفاضة» الإسلامية مفاجئاً لغير المسلمين وللمسلمين أنفسهم والعرب أيضاً. وبمعنى أدق كان لنخَب المسلمين بمثابة غير المفكر فيه. وسبب المفاجأة واحد: سُنة تعودناها وعُرف أرسيناه وألفناه قوامهما غياب المسلمين، أو بمعنى أدق: غياب الشارع المسلم عن الحضور المؤثر في تقرير وتوجيه مصير قضاياه الكبرى، وأكثر قضاياه كبرى، وفي مجرى التحولات الآيلة إلى تهديد وجوده قبل مصالحهِ، وإلى إهدار حقوقه المشروعة.
استراتيجيو وخبراء الغرب بشؤون العالم الإسلامي، أو بعضهم بالأقل، مطمئنون إلى أن ذاك الشارع، إن تحرك، فحركته قصيرة النفس والتنفس، وبالتالي فهي لا تخيف أحداً ولا تحول ولا تُحيل. لقد رصدوها واختبروها (أليسوا هم الخبراء؟)، فتبين لهم أنها كنارٍ في كومة قش، سرعان ما يخبو أوارها. يقول: Robert Mallay، وهو مستشار للرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون، عما يسميه: «الشارع العربي»، ولفظة الشارع في الغرب تتضمن بالمعيارين السياسي والأخلاقي معنى غير لائق ... يقول الرجل تعليقاً على ردات فعل هذا الشارع إثر بدء العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان: »لقد أحصى الصحافيون الأميركيون ـ وهذه صفة مموهة لمن هم غير صحافيين أيضاً ـ مستعينين بآلاتهم الحاسبة، عدد التظاهرات التي شهدها العالم الإسلامي والعربي أسبوعياً احتجاجاً على تلك العمليات، فإذا هي: تسع تظاهرات خلال الأسبوع الأول، ثم ثلاث تظاهرات في الأسبوع الثاني، ثم واحدة، ثم اثنتان، ثم لا شيء، فواحدة أخيرة لا غير حدثت في الأسبوع السادس» (3). ويعلق «روبرت ماللي» على هذه الظاهرة بقوله: «الظاهر أن صمت الشارع الإسلامي قد أدى، على مستوى الولايات المتحدة الأميركية بالأقل، إلى بروز استنتاجات يصعب دحضها. وأولها أن الرأي العام الإسلامي لا يحترم شيئاً بقدر ما يحترم السلطة والقوة» (4). ثم يستنتج المستشار السابق لكلينتون: «إن لما سبق نتيجة طبيعية: صارت أميركا مطلقة اليد في ما تفعله في أفغانستان طبعاً، ولكن أيضاً في العراق أو في أهداف أَيْسر، أي في البلدان التي تسمى في واشنطن: الثمار التي في متناول اليد»(5).
إن هذه الشهادة، وبعض ما فيها مهين، تنبئ بأن الشارع العربي/ المسلم كان يثير التوجس والقلق، لكن التجربة الميدانية أثبتت أن ليس فيه ما يُخشى منه من وجهة نظر التحليل تلك. فلتطلق حرية التظاهر والاحتجاج بضعة أسابيع، فبعدها ستطلق الحرية المنتظرة المضادة لتستأنف تنفيذ ما عزمت عليه ما دام ذلك «الشارع» مفتوحاً وخالياً. لكن حسبة الحقل لم تأتِ مطابقة لحسبة البيدر لجهة انتباه الشارع المسلم وانفجار ردة فعله هذه المرة... وأما المحصلات والجدوى الختامية ففيها كلام آخر آتٍ.
المفارقة إذاً، وهنا أيضاً، هي في أنه جرى إِخراج واقعة الرسوم الدنمركية من سياق الحراك الإسلامي التقليدي المخدر أو المسفوح بالإحباطات والهزائم واليأس، لتصيب الدهشة الجميع ولتنقلب الصورة رأساً على عقب، من الانطفاء إلى الاتقاد، ومن السلب إلى الإيجاب.
لقد خرج الاجتماع الإسلامي والعربي فجأة من غرفة العناية الفائقة، وقد سجن فيها حقباً، إلى دبيب العافية برغم ما شاب هذا الخروج الصحي في أصله من نتوءات وخروقات عنفية لم يكن ما تسببت به من إساءة أقل أذى وإضراراً من وقع الرسوم الكاريكاتورية الحمقاء نفسها، وهي شوائب غير مستغربة في مناخ فلتان الغرائز المقموعة واندلاع السخط المضغوط، وقد نزعت عن قنابله الموقوتة والمتنوعة الأشكال والأنواع جميع صمامات الأمان والرشد في بعض مناطق المسلمين، ولأسباب مختلفة.
بموجبات النسق الحضاري الغربي وأدوات القراءة فيه، كانت ظاهرة الرسوم إذاً حادثة عادية انسيابية في سياق روتيني وأنماط معالجة مقولبة ومرجعيات معرفية وإعلامية وسياسية جاهزة. أما بلوازم النسق الحضاري الإسلامي فقد تحولت الرسوم إلى حدث انقلابي وإلى تطور هام لعله حمَّال ديناميات أخرى في المستقبل.
لقد أمست مطابقة الصورة/التصور للواقع والحقيقة مطروحة للسجال والتفكر من جديد لحسن الحظ.
في الانسيابية الغربية، حتى في قلب الشعور »بالصدمة« من الهيجان الإسلامي ـ للغرب أيضاً قابلية لافتة لتلقي الصدمات، وبُناه تتقن كيفيات احتوائها والتعامل بها ـ .. في هذه الانسيابية وبقوانينها أعيد طرح قضية الكاريكاتورات الدنمركية على بساط البحث بمستوى الاهتمام الذي حددته ردات الفعل الإسلامية وتحت سقفها تقريباً.
اضطربت مواقف المحللين الغربيين في البداية، ثم اصطفت في أربعة تفسيرات عامة للظاهرة وللردات المتفجرة في وجهها:
التفسير الأول حضاري جاء من تصور نمطي اعتبر مسألة الرسوم وجهاً من وجوه صدام الحضارات(6) ـ الأطروحة التاريخية المعروفة لصامويل هانتنغتون.
التفسير الثاني سوسيولوجي بنحوٍ عام يعتبر أن الظاهرة هي الابن الشرعي للسجال الدائر في «الغرب» حول معضلة العلاقة، التي لمَّا تحلَّ بعد في المجتمعات والدول العلمانية، بين الحريات العامة والخاصة وبين المقدس، أي بين القوانين الوضعية والحلال والحرام الإلهيين(7).
وانصرف التفسير الثالث إلى الجانب القيمي وَكَيْلِ الغرب بمكيالين، فما لغير المسلمين حق مفروض ومصان بالإيديولوجي والثقافي والسياسي والقانوني، من جهة العدل جاء أم من جهة التسلط. وأما ما هو للمسلمين حتى ولو كانوا غربيين فلا يحظى بهذه الامتيازات، لا جزئياً ولا نسبياً، وقد حُرِّمت عليه كلياً. بمعنى آخر إن القيم التي ينادي بها «الغرب»، وهي التي يفترض فيها أن تحاكي الإنسان بمعناه الكلي سواء كان يعيش داخله أو خارجه، نراه يخالفها في قلب مجتمعاته، ويخالفها خارجها، بل يمارس نقيضها(8). أما التفسير الرابع فهو سياسي اعتبر ردات الفعل الإسلامية الطالعة من قلب العالم الإسلامي والعربي مجرد تصفية حسابات لبعض الأنظمة الإسلامية والعربية في الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة على خلفية مواقفها المتماهية مع المصالح الإسرائيلية، ثم مع أوروبا من جديد بعد عودتها إلى الالتحاق بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك على أثر تباعد مؤقت حدث بين الطرفين آنذاك على هامش التحضر للهجوم الأميركي على العراق. أما ردات الفعل الإسلامية المصعَّدة في «الغرب» نفسه من قبل الأقليات الإسلامية، فقد صنفها القائلون بهذا التفسير أنها إنما جاءت بناءً على «أوامر» صدرت من الدول والمنظمات الإسلامية والعربية التي ما انقطعت قط عن اعتبار مواطنيها «الغربيين» أدوات تحركهم لأسباب شرق أوسطية(9).
هذه التفسيرات للظاهرة ولردات فعل المسلمين عليها، على أهميتها الأكاديمية وتنوعها الإيديولوجي والثقافي، برغم بعض المهرجانية التي أحيطت بها، وبرغم جرعات الجهل المركب التي امتلأ معظمها بها، ظلت أسيرة النخب وبعض المواقع البحثية ومراكز الدراسات.
لَيْتَهُ كان لهذه المقالة مجالٌ للخوض في مناقشة هذه التفسيرات /التأويلات الغربية لظاهرة الرسوم وردات الفعل الإسلامية عليها. لكنَّ بعض الملاحظات الأولية نجدها ضرورية ولو من باب «ربط النزاع» مع هذه التفسيرات كما يقول الحقوقيون.
سمير سليمان
لقد باتت لافتة «صدام الحضارات»، والمقصود الرئيسي منها الكلام على «صدام الأديان»، لازمة مبتذلة تتردد في كل مناسبة أو قضية تتعلق بالعلاقات بين الإسلام والغرب، وبين المسلمين والغربيين. ما أكثر الجهل في المرددين، وما أبعد النظرية عن موضوعها الحقيقي في أكثر الأحيان.
ولأننا قيد الخوض في قضية الرسوم الكاريكاتورية، فإننا نعتقد في هذا السياق أن نسبتها إلى «صدام الحضارات» هراء «مثالي»، فلا «الصدام» المفترض أن يكون بين طرفين متقاربين في القدرة والموقع..، قائم فعلاً وذلك لانتفاء شرطه التأسيسي، ونظراً لغياب التكافؤ بين الحضارتين المعنيتين ما دامت إحداهما مهيمنة والثانية مستضعفة مدافعة من جهة، (اللافت الطريف أن صامويل هانتنغتون ـ صاحب نظرية صدام الحضارات ـ يبني نظريته على أساس أن الإسلام دين هجومي حدوده دائماً دموية) (15)، ولأن الغرب ليس المسيحية من جهة ثانية، فحضارته علمانية مادية (16).
في مسألة «صدام الحضارات» يمكن أن نتقبل طرح قضية الرسوم من زاويتها إذا كان المعني بالإسلام الدين، كونه مشروعاً أو حضارة إلهيين، بينما الغرب هو مسمى آخر للحضارة المادية، فعندها يجوز الكلام على «صَدْم الحضارات» لا صدامها. لأن ثمة حضارة صادمة من نوع معين وحضارة مصدومة هي من نوع مختلف. والفرق بَيّنٌ. وفي كل حال نرى أنه حتى لو افترضنا أن الحضارة دين، فإن ما بين العالمين الغربي والإسلامي من تدافع هو ليس صداماً بين دينيهما، ولا كان كذلك في التاريخ.
أما اعتبار الرسوم الدنماركية أحد مظاهر التنازع بين المقدس والزمني في الغرب، فقول نقبل بوجاهته، لكننا لا نراه في كبد الحقيقة بل في ظل واحد من ظلالها المتعددة.
في التفسير الثالث المردود إلى ازدواجية المعايير، معيار ينشئ الغرب قياساً إليه في بعض الجوانب صورة للإسلام وموقفاً منه وخطاباً، لا يستطيع منصف أو شاهد عدل إلا أن يتلمس حجم الظلم والتجني الناتجين عن تلك الازدواجية، سواء ما كان منها صادراً عن الوعي أم عن اللاوعي الغربيَّيْن. وهذه منهجية منظمة وتاريخية لطالما وُضع فيها الإسلام والمسلمون في مرتبة دنيا، يُنْظَرُ إليهم من عَلٍ يقطر فوقية واستعلاء، الوعي أو اللاوعي فيها يقولان شيئاً واحداً، ويعبران عن «حقيقة» واحدة لا يمكن لها أن تُسَوّي خلافاً، أو تقيم سلاماً علائقياً، وإنما من شأنها تفخيخ الروابط بين الجماعات بالكراهية والكمائن وتحَيُّن الفرص للارتداد عليها وتمزيقها، مع ما يرافق ذلك من صدامات وتداعيات تبدو فيها محاولات الإصلاح واسترجاع الثقة المفقودة بين الناظر والمنظور، وبين الذات والآخر كأحلام الأبالسة.
إبَّان انفجار أزمة الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية كان واضحاً للعارفين بشؤون «الغرب» أن ازدواجية المعايير كانت توأم تطور الأزمة، تواكبها أنَّى تكون وفي كل موضع تحل. تظهر إلى جانبها في كل صورة، وتُلمح في كل وجه بدا، وتنضح من كل خطاب، وتسهم في صناعة كل موقف إلى درجة أن الباحث ليتعجب من كثافة كل هذا «النفاق» الفكري والثقافي والسياسي الذي استُنزل دفعة واحدة إلى ساح السجال، وليستفظعه. فكيف لهذا «الغرب» ذي الحول والطول والفعل الحضاري الكبير أن يتحول في لحظة إلى كتلة من النفاق.. يكاد كل ما فيه، ومن فيه يتحول إلى داهية سياسي يحمل حملة رجل واحد، ويتماهى في قولة وموقف يكادان يلامسان حداً مقلقاً مما يشي بـ «الإجماع». ولقد أقرّت قلة من المثقفين والأكاديميين الغربيين بممارسة هذا الاقتراف، لكن إقرارها دِيْسَ تحت سنابك الخيل السياسية والأسنّة الإعلامية التي سُلَّت في وجه الاحتجاجات التي صدرت عن مسلمي العالم المعترضين بشدة على ارتكاب فعلة تهين مقدساتهم. فقد فضحت بعض الكتابات نفاق الصحيفة الدنماركية نفسها (Jyllands Posten) التي سبق لها أن رفضت قبل ثلاث سنوات نشر رسوم كاريكاتورية تمثل السيد المسيح (ع) بأشكال اعتُبرت مهينة (17)، إلا أنها استسهلت إجراء «استدراج عروض كاريكاتورية» ممن يعرف أو لا يعرف أنها مهينة لنبي المسلمين (ص).
كتابات أخرى ذكَّرت بحادثة وقعت سنة 2005 نفسها عندما تمكنت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية من استصدار حكم قضائي يسحب من التداول إعلاناً تجارياً لماركة ألبسة جاهزة يستخدم مشهد «العشاء السري» للسيد المسيح (ع) وحوارييه الذين استبدلوا في الإعلان بنساء يرتدين ثياباً غير محتشمة... ويومها لم تقم لأحد قائمة في الغرب تعترض على موقف الكنيسة أو تندد بالحكم الصادر بحجة الدفاع عن حرية الرأي والتعبير والحريات الإعلامية، ولم ترتفع أصوات تذكر بذريعة الذود عن حقوق الإنسان، حتى كتب أستاذ القانون في جامعة باريس العاشرة (Paris X Nanterre)، البروفسور Daniel Borrillo، تعليقاً على الرسوم الدنماركية: «إن حرية الرأي عندنا تسير بسرعتين مختلفتين»(18).
ثم أليس ذا دلالة جهاراً نهاراً كيف يُعامل الإسلام والمسلمون في «الغرب» معاملة مختلفة عما تُعامل به الأديان الأخرى وأتباعها؟! (19)
وأما التفسير الرابع: التفسير السياسي، فهو ذاته تفسير الرئيس الأميركي جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندليسا رايس(20)، وهو على قدر كبير من التبسيط، وذلك بقدر ما فيه من ذرّ للرماد في العيون من خلال إلقاء اللائمة على مسلمي الشرق والغرب على السواء، وذهاب في اسقاط المسؤولية على غير المسؤول الحقيقي(21). فحتى ولو كانت بعض دول الشرق الأوسط قد غطت ردات الفعل لجماهيرها الثائرة أو شجعت عليها، فإن ذلك يعتبر حجة لهما لا عليهما سواء تعلقت ردات الفعل بالرسوم الكاريكاتورية أو بخلفيات وترميزات تلك الاحتجاجات التي كانت مترعة بثرائها الرمزي المذهل، وذلك من خلال رفع أعلام فلسطين وحزب الله والعراق وإحراق أعلام الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، ناهيك باليافطات والشعارات التي رفعت في المظاهرات.. وكلها رموز عبرت عن ما هو قبل الرسوم وما هو تحتها وفيها، وذلك في جيوبوليتيك يبدأ بعهد الرسول (ص)، وصولاً إلى آخر عدد نشرته وسائل الإعلام لضحايا مذابح الشوارع في العراق.
بانوراما الاحتجاجات هذه ترسم خطوط الفوارق بين تفسيرات المتساجلين في «الغرب» حول ظاهرة الرسوم الكاريكاتورية، وبين الحقائق الفعلية لما يدور في العالم الإسلامي والعربي وتلك التي صدحت بها الحناجر الغضبى، وعبرت عنها الأنفس المحتقنة والذاكرة والوعي الجمعيان للناس.
حتى عندما انبرت النخب الغربية لتظهير حدث الرسوم وتحليل أبعاده، وبعض ما توصلت إليه يتضمن الكثير من الصواب، فإنها ظلت عاجزة عن تحديد المشكلة العلائقية بين العالمين الحضاريين والإيديولوجيين وعن تشخيصها بدقة، وعن التقاط أبعادها كافة. فثلاثة من التفسيرات الأربعة التي نوهنا بها اتجهت إلى الغرب نفسه حضارياً وقانونياً وأخلاقياً، وهذا الاتجاه لا ريب في صحته من حيث المبدأ. لأن الغرب بكل ما يتضمنه المصطلح من دلالات وتعدد هو في موقع الفعل والمبادرة والغلبة منذ قرون، غير أن محاولة فهم كل هذا التاريخ العلائقي المأزوم بالتجارب والصدامات والمآسي المتنقلة من مستوى إلى مستوى، ومن بلد مسلم أو عربي، إلى بلد آخر، ومن حرب ماحقة إلى حرب أمحق.. هذه المحاولة لا ينبغي أن تُرى على أساس ما ذهبت إليه التفسيرات الثلاثة الجزئية فقط. وإنما ينبغي أن تتجه الأنظار بمنهج وعي نقدي جديد إلى ما هو خارج المركزية الغربية ونرجسيتها. لأن البقاء في نطاق أسوارها المقفلة يعني أن شيئاً لم يتغير ولم يتبدل، قياساً إلى ما كانت عليه التجارب والممارسات العلائقية السابقة. فنعود ـ طبقاً لقوله تعالى: «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»(22)، فيبقى الجهل المركب قائماً، وتمتد عدوى التجاهل إلى ما لم تكن قد أدركته بعد، أما توليدات الاحتقان بتنوعاتها الكثيفة فهي قائمة على قدم وساق، بل هي كامنة تنتظر فسحة أو فسخاً تنفجر من فوهته.
من معادلة التوازي بين المعرفي والسياسي، وبينهما وبين القيمي.. ينبغي لهذا الوعي النقدي الجدي أن يبدأ بالتصحيح والترشيد باتجاه سويَّة علائقية حقيقية تتكامل فيها الذات بالآخر الحضاري وتعترف به وتعرفه، فلا تسطو عليه ولا تهيمن. ولا يبدو لنا هذا الوعي قريب التحقق بكل أسف لأننا لا نزال تائهين عن وعي سنن التاريخ، ناهيك بالنأي عن المواقف الصحيحة منه، ولأننا ما نزال منخرطين حتى العظم بتفاضلات تكوينية أو حضارية أو سياسية أو مسيسة ليست صحيحة دائماً، نريد عبرها لأنفسنا وأهوائنا التسيُّد والرفاهية وضمانات التفوق الاستراتيجي المطلق على الآخرين، وكلها مدفوعة من حساب حقوقهم المعنوية والمادية وثرواتهم، وحتى من دون الاعتراف بهم أيضاً.
ما دامت المعادلة العلائقية بين العالمين الغربي والإسلامي العربي في هذا الدرَك من الاختلال، ثمة «رسوم كاريكاتورية» كثيرة قادمة.. وربما لن تكون ردات الفعل عليها مسيَّلة دائماً بالزبدة الدنماركية.
([) استاذ جامعي
هوامش
هوامش (1) Ramadan, Tariq -
»Libération« - Paris, 8 Février 2006.
(2) Ibidem
(3) Mallay, Robert »le Monde«
Paris, 23-24 Decembre, 2001.(أنظر ترجمة لمقالته منشورة في ملحق جريدة «المستقبل» ـ بيروت، 30 كانون الأول/ديسمبر .2001
(4) Ibidem.
(5) Ibidem.
(6) Voir: - Roy, Olivier (O.P.cit).
(7) - (م.ن)
(8) الحص، سليم ـ جريدة «السفير» ـ بيروت، 21 آذار /مارس .2006
(9)- Roy, Olivier ? (O.P.cit). هذا الموقف يكاد يكون هو نفسه الموقف الرسمي الأميركي المتعلق بأزمة الرسوم الكاريكاتورية (راجع: جريدة »Le Monde« الفرنسية ـ 9 شباط/ فبراير .2006
(15) هانتنغتون، صامويل ـ «صدام الحضارات» ـ ص /.28
(16) الجدير ذكره في هذا السياق أن دول الاتحاد الأوروبي رفضت الإشارة في مشروع دستورها الموحد إلى الديانة المسيحية كأحد مصادر التشريع والثقافة الأوروبيين، وذلك برغم إلحاح بعض دول الاتحاد والمطالبة الحثيثة الموجهة من قبل الكنائس الأوروبية وأتباعها وبعض هيئات ومنظمات المجتمع المدني في الغرب. وفي حينه كان لافتاً قول وزير الخارجية البلجيكي Louis Michel: «إن ذكر الدين المسيحي في الدستور الأوروبي الموحد هو تعبير عن تعصب ديني. والمطالبة به هي ذرائعية سياسية وفلسفية تتنافى مع الطبيعة الإيجابية لمشروع الدستور.. ثم من يضمن غداً أن لا يأتي آخرون ليطالبوا بإدخال هوية دينية أخرى إلى هذا الدستور؟..».. والسؤال الذي وجهه الوزير البلجيكي ليس بلا دلالة استراتيجية، وبخاصة إذا علمنا بأن الإسلام هو الدين الثاني في اوروبا.
(أنظر: مجلة «LEXPRESS» - باريس، 14 حزيران/يونيو ,2004 واستطراداً:
- السماك، محمد ـ جريدة «السفير» - بيروت، 31 آذار / مارس 2006).
(17) Voir - «L?Humanité» - Paris , 11 Février
.2006 (18) Borrillo, Daniel -»Le Monde« - Paris, 9 Février
.2006 - Voir aussi: Roy, Olivier - «Le Monde» - Paris, 8 Février 2006.
(19) Ramadan, Tariq- «Libération» - Paris, 8 Février 2006 (O.P.cit).
(20) جريدة Le Monde الفرنسية ـ .200629
(21) من أطرف ما قرأنا من مقالات، واحدة بعنوان رسالة (Polémia) منشورة على الإنترنت تناولت أزمة الرسوم واعتبرتها إثباتاً لوجود قطيعة في الصراع الدولي القائم مع حقوق الشعوب في حرية الرأي والتعبير. ورأت المقالة أن أمة حرة وسيدة هي الدنمارك قد تحولت إلى ضحية الصراع بين إمبراطوريتين هما الإمبراطورية الإسلامية والأمبراطورية الأميركية بهدف تغيير أسس حياتها (كذا).
(22) سورة الأنعام ـ الآية /.122
([) استاذ جامعي
عن جريدة السفير
08-أيار-2021
17-تشرين الثاني-2012 | |
الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية: قراءة في الظاهرة وردات الفعل |
24-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |