Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

الرسالة / قصة ليديا دايفيزـ ترجمة

صالح الرزوق

خاص ألف

2013-06-03

استلقى عشيقها قربها و بما أنها بدأت بفتح الموضوع سألها متى انتهى كل شيء. فأخبرته انتهى من عام ثم لم يعد بمقدورها أن تضيف. انتظر قليلا ثم سألها كيف انتهى. فأخبرته بشكل عاصف. فقال بتأن إنه يود لو يعرف التفاصيل، و كل شيء عن حياتها، و لكنه لا يريد منها أن تتكلم عن الموضوع لو أنها لا ترغب بالتذكر. فدارت وجهها منه قليلا حتى سقط ضوء المصباح و لمع على عينيها المغلقتين. فكرت إنها ترغب لو تخبره، و لكن لا تستطيع الآن و هي تشعر بانحدار العبرات تحت جفنيها. وهي مندهشة لأنها تبكي للمرة الثانية في هذا اليوم مع أنها لم تبكي منذ أسابيع.
و لا يمكنها أن تعترف لنفسها أن كل شيء انتهى، ، منذ أن انتقل لمدينة أخرى، فهو لم يتصل بها لما ينوف على عام. و قد اقترن بامرأة أخرى. و لكنها كانت تسمع بعض الأخبار أحيانا. فإحداهن تلقت رسالة منه، و ورد فيها إنه تجاوز مشكلته المالية، و هو يفكر بإنشاء مجلة.
وقبل ذلك، كان لدى شخص يعيش في مركز المدينة مع هذه المرأة التي سيتزوجها لاحقا بعض الأخبار. لم يكن عندهما هاتف، لأنهما يدينان لشركة الاتصالات بالكثير من النقود. في تلك الأيام كانت شركة الاتصالات تتصل بها من فترة لأخرى و تسألها بتهذيب أين هو. و قد أخبرها صديق إنه يعمل ليلا في الموانئ و يحزم الأواني البحرية ثم يعود للمنزل في الرابعة صباحا. ثم أخبرها الصديق نفسه كيف قدم خدماته لامرأة وحيدة لقاء مبلغ محترم من النقود الأمر الذي جعل المرأة تشعر بالإهانة و التعاسة.
وقبل ذلك، حينما كان لا يزال يعمل بالجوار، في محطة الوقود، كانت تقود سيارتها إليه لتراه و تتجادل معه. كان يجلس في مكتب المحطة تحت ضوء نيون و يقرأ فوكنر، و يرفع عينيه المتعبتين لينظر إليها و هي قادمة. كانا يتجادلان بين الزبائن، و حينما ينشغل بملء خزان سيارة بالوقود يخطر لها : ماذا يمكن أن تقول أيضا. فيما بعد توقفت عن زيارته، و كانت تتابع و تمر من وسط المدينة و تنظر لسيارته فقط.
وذات مرة، تحت المطر، انعطفت شاحنة عند زاوية الشارع فجأة و اتجهت نحوها فتعثرت ببوطها و سقطت في أخدود، ثم رأت صورتها بوضوح: امراة في أوائل منتصف العمر ترتدي البوط المطاطي و تسير في الظلام بحثا عن سيارة بيضاء و الآن ها هي في أخدود، مستعدة لتتابع المسير حتى ترى سيارة الرجل في موقف سيارات و يطمئن قلبها حتى لو كان الرجل المعني في مكان آخر مع امرأة غيرها.
في تلك الليلة قامت بجولة على الأقدام حول البلدة، و استغرق ذلك فترة طويلة، و تفحصت الأماكن نفسها عدة مرات، و كانت تفكر طوال خمس عشرة دقيقة استغرقها المشوار من طرف البلدة للطرف الآخر، و هي المسافة التي قد يقطعها بسيارته ليصل للبقعة التي تركتها قبل خمس عشرة دقيقة، و لكنها لم تلمح السيارة.
سيارته فولفو بيضاء من الطراز القديم؛ و لها شكل جميل و ناعم. و هي ترى سيارات الفولفو الأخرى القديمة كل يوم تقريبا، و بعضها رصاصية أو بلون كريمي- يشيه لون سيارته، و بعضها بلون سيارته، و لكنها غير مضروبة و لم يلحق بها الصدأ. و لوحة النمرة بلا حرف k ، و السائقون دائما لهم خيال، و هم إما نساء أو رجال بنظارات أو رجال برؤوس أصغر من رأسه.
في ذلك الربيع كانت تترجم كتابا لأنه الشيء الوحيد الذي بمقدورها أن تؤديه. و في كل مرة، تتوقف فيها عن الطباعة و تحمل القاموس، يطفو وجهه في المسافة التي تفصلها عن الصفحة و يتغلغل الألم فيها مجددا، و في كل مرة ترمي بالقاموس جانبا و تتابع الطباعة يرحل الوجه و يختفي الألم المرافق له. لقد قامت بقدر كبير من العمل في الترجمة لتطرد عنها الآلام فقط.
وقبل ذلك، في نهاية آذار، و في بار مزدحم، أخبرها ما توقعت أن تسمعه منه و قد كرهت سماعه. و فورا فقدت شهيتها للطعام. و لكنه إأل بشهية كبيرة و التهم طعامها أيضا. و لم يكن يمتلك النقود ليدفع ثمن الغداء و هكذا اضطرت أن تدفع. و بعد الغداء قال، ربما في غضون عشرة سنوات. فقالت، ربما خمسة، و لكنه لم يرد على ذلك.
وقفت قرب مكتب البريد لتصرف شيكا. كانت متأخرة على المكان الذي تقصده، و لكنها احتاجت للنقود. و شاهدت خط كتابته على مظروف في صندوق البريد. و مع أنه معروف لديها، أو لأنه معروف لديها، لم تخمن مباشرة أن هذا الخط هو خطه. و حينما أيقنت من ذلك، شتمته بصوت مرتفع عدة مرات.
عادت سيرا على الأقدام إلى السيارة. و بينما هي تشتم كانت تفكر. و استقر رأيها على أن هذا المظروف يحتوي على شيك بمبلغ معين يدين لها به. إنه يدين لها بما يزيد على 300 $. و لو أنه متعكر بسبب الدين، فهذا يفسر صمته طوال عام، و لو أنه يمتلك اليوم بعض النقود التي يمكن أن يرسلها إليه هذا يفسر الحقيقة وراء كسره لصمته المطبق. دخلت في السيارة، وضعت المفتاح في مشعل الشرارة، ثم فتحت المظروف. لم يكن يحتوي على شيك مصرفي، و لم تكن هناك رسالة و لكن قصيدة بالفرنسية، نسخها بخط يده بعناية فائقة، و القصيدة تضع حدا لحملته الصامتة compagnon de silence . ثم اسمه، لم تقرأها كلها لأنها تأخرت على الاجتماع مع بعض الناس الذين لا تعرفهم جيدا.
و تابعت السباب حتى وصلت إلى الطريق الرئيسي. كانت غاضبة لأنه أرسل لها الرسالة، و لأن الرسالة أسعدتها فورا، و بعد ذلك فتحت بهذه السعادة المجال لعودة الشقاء و الألم. و مع أنه من الصعب أن تقول عن هذه إنها رسالة، فهي مجرد قصيدة، و القصيدة بالفرنسية، و قد كتبها شاعر مختلف عنه. إنها غاضبة أيضا بسبب نوعية هذه القصيدة. و غاضبة كذلك لأنها ستحاول لاحقا أن تفكر بطريقة للرد عليها، لقد انتبهت مباشرة أنه لا توجد طريقة ممكنة للرد.

و بدأت تشعر بالدوار و المرض. وقادت السيارة بتمهل لتدخل في زقاق يميني و قرصت جلدة رقبتها بقوة ليتلاشى الدوار.
طوال ذلك اليوم كانت برفقة آخرين، و لم تتمكن من النظر بالرسالة مجددا. و في المساء، حينما اختلت بنفسها، انهمكت بالترجمة، و كان الموضوع قصيدة نثرية صعبة. و اتصل عشيقها و أخبرته كم هذه الترجمة صعبة و لكن لم تشر للرسالة.
بعد أن انتهت من العمل، نظفت المنزل بحذق شديد. ثم تناولت الرسالة من جزدانها و ذهبت للسرير لترى ماذا يمكن أن تفهم منها الآن.
فحصت أولا خاتم البريد. رأت تاريخ و ساعة الإرسال و اسم المدينة بوضوح. ثم فحصت اسمها المطبوع فوق العنوان. ربما تلكأ بكتابة كنيتها، لأنها وجدت نقطة حبر صغيرة في منحنى أحد الحروف الملتوية. لقد كتب العنوان مع خطأ طفيف، حيث أن رمز البريد المكتوب ليس صحيحا. و نظرت لاسمه، أو بالأحرى للحرف الأول منه، حرف G . كان مرسوما ببراعة. و بعده كنيته. ثم عنوانه، و استغربت لماذا وضع عنوان الإعادة على الرسالة. هل يطلب جوابا عليها؟. على الأغلب إنه غير متأكد أنها لا تزال هنا، و لو أنها ليست في هذا العنوان، فهو يريد لرسالته أن تعود إليه، و هكذا يعلم أنها رحلت. و لكن رمزه البريدي مختلف عن الرمز الموجود على خاتم البريد. لا بد أنه أرسلها من مكان بالجوار. هل كتبها و هو في منزله؟ ترى أين كتبها؟.
فتحت المظروف و مدت الورقة أمامها، كانت جديدة و نظيفة. و الآن تلاحظ بالضبط ماذا فيها. التاريخ، 10 أيار ، مكتوب في الزاوية العليا من اليمين و بحروف مكتوبة باليد و بخط صغير و سميك و مزدحم بالمقارنة مع الخط المكتوب في الورقة الثانية. كما لو أنه كتبها بوقت مختلف، إما قبل أو بعد البقية. لقد كتبها أولا، ثم تلكأ و فكّر، و شفتاه مطبقتان بإحكام، أو و هو يبحث عن الكتاب الذي سيقتبس منه القصيدة. و مع أن هذا غير محتمل، فالأرجح أنها كانت أمامه حينما جلس ليكتب. و ربما فكر بعد أن فعل ذلك إنه من الأجدى أن يضع التاريخ عليها. قرأها عدة مرات، ثم سجل التاريخ. و ها هي تنتبه أنه وضع اسمها في الأعلى، و بعده فاصلة، و هي بالتوازي مع اسمه المكتوب في الأسفل بعد نهاية القصيدة. التاريخ، اسمها، فاصلة، ثم القصيدة، بعدها اسمه، ثم مسافة. إذا القصيدة هي الرسالة كلها.
و بعد أن رأت كل ذلك، قرأت القصيدة بتمهل، لعدة مرات. و رأت كلمة لم تتمكن من فك رموزها. لقد جاءت في نهاية سطر و لذلك نظرت للقافية و كانت الكلمة التي يجب أن تناسب القافية هي الصافيات ، الصافي ( الأفكار الصافية)، و لذلك إن الكلمة التي لم تتمكن من قراءتها هي على الأرجح الغامضات، داكن ( ورود داكنة). ثم لم تتمكن من قراءة كلمتين وردتا في بداية الشطر الأخير من المقطوعة. و نظرا للطريقة التي كتبت بها الأحرف الكبيرة الأخرى اعتقدت أن هذا الحرف الكبير يجب أن يكون L ، و عليه تكون الكلمتان هما بالضرورة La Lune ، القمر، القمر سخي أو أنه aux insensés - للناس الممسوسين.
وكانت الكلمات التي تتذكرها و هي تقود سيارتها شمالا في الطريق الرئيسي هي أول ما وقعت عينها عليها ، و التي تقول compagnon de silence ، رفاق الصمت، ثم بعض الأبيات عن التماسك بالأيدي، و غيرها عن المروج الخضر، البراري بالفرنسية، و القمر و الموت فوق الطحالب. و لكنها لم تشاهد ما تراه حاليا، فمع أنهم ماتوا، أو أن هذين الشخصين ماتا بالقصيدة، فقد التقيا مجددا، nous nous retrouvions ، لقد التقيا مجددا، في الأعلى، في مكان شاسع، في مكان ما، لا شك أنه الفردوس. التقيا و هما يذرفان الدموع. و هكذا تنتهي القصيدة، تقريبا، لقد التقينا و نحن نبكي، رفيقين عزيزين في ملكوت صامت. فحصت كلمة retrouvions ببطء، لتتأكد من الخط ، و أن الأحرف تتلو بعضها البعض حقا لتلتقي. و تلكأت عند هذه الحروف بتمعن و لدقيقة من الزمن كان بمقدورها أن تشعر بكل شيء في داخلها، و بكل شيء موجود في الغرفة أيضا، و بكل ما مر عليها في حياتها حتى الآن. لقد التأم شمل كل ما مضى وراء عينيها و كأنه يرتكز على سطر متواصل من الحبر و على سطر آخر يستمر فيما بعده كما تتمنى.
لو أنه لا مجال للشك بالـ retrouvions. و على ما يبدو لا مجال للشك، فباستطاعتها أن تعتقد أنه يفكر بها، من على مبعدة ثمانمائة ميل من هنا، و أنه من الممكن أن يلتقيا بعد عشرة أو خمس سنوات من اليوم، أو بعد تسع أو أربع سنوات من الآن، باعتبار أن عاما مضى على فراقهما.
و لكنها قلقة من فكرة الموت: قد يعني ذلك أنه من المحتمل أن لا يراها، لأنهما بالنهاية ميتان. أو أن الفترة ستكون طويلة جدا، و ستستمر طوال الحياة. أو أنه من الممكن أن تكون هذه القصيدة أقرب شيء يمكن أن يتوفر في قصيدة تهتم بما كان يفكر به عن الزمالة، و الصمت، و البكاء، و نهاية الأشياء، و لكنها ليست بالضبط ما توارد لخاطره تماما. أو أنه صادف القصيدة و هو يقرأ في مختارات من الشعر الفرنسي، و قد ذكرته بها لقليل من الوقت، و حركت أشجانه ليرسلها إليها، و هكذا سارع بإرسالها من غير هدف واضح في الذهن.
طوت الرسالة و أعادتها للمظروف، و وضعتها على صدرها و يدها فوقها. أغلقت عينيها، و بعد لحظات، و الضوء مشتعل، بدأت تغط بالنوم. نصف حالمة، خطر لها ربما علقت بعض رائحتها بالورقة فاستيقظت. و أخرجت الورقة من المظروف و فتحتها و استنشقت عبير الهامش الأبيض العريض الموجود في أسفل الصفحة. لا شيء. ثم القصيدة، ربما يمكنها أن تشم شيئا هناك، و لكن في النهاية لعلها لن تشم غير رائحة الحبر.

ليديا دافيس Lydia Davis : كاتبة قصة أمريكية مولودة عام 1947. لها رواية واحدة بعنوان ( نهاية القصة )، و عدة ترجمات عن الفرنسية من أهمها البحث عن الزمن المفقود لبروست. حازت على جائزة مان بوكر الدولية لعام 2013.

المصدر ( القصص الكاملة لليديا دافيس ). بنغوين. 2010.



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow