Alef Logo
ضفـاف
              

أشهر بائع صحف في دمشق: عادل عبد الله: الفقر سرق حزني!

رائد وحش

2008-05-30


الذين يلتقون بعادل عبد الله سرعان ما يتورّطون بصداقته ومحبته والإدمان على مجالسته. شخصٌ من نوعيّة نادرة، يمتلك موهبة الدّخول العفويّة إلى القلوب بتلك الفيزا التي لا تُمنح بسهولةٍ. عمله، كبائع صحف، في ركنه الشّهير في مدخل مديريّة صحّة القنيطرة، سهّل له هواية الاقتحام، ومرحه الدّائم والطّازج أعطاه مغناطيسيّة، جعلته يصير مع الوقت موقفاً إلزامياً، نقطة عبورٍ لا بدّ منها، قبل الدّخول المقهى. إنّه، بمعنى من المعاني، محطّة وقود لتزويد المواطنين بما يلزم من سخرية لقضاء يوم عصيب جديد.
زبائنه وأصدقاؤه يدركون أنّ جلده الأسمر يخفي آلام فقراء هذه البلاد، وأوجاع طبقةٍ لم يعد لها من نصيرٍ إلا الأوجاع، لذا لا يبالون بهمومه فهم مثله، والكلّ في الهمّ سواء، لكنّ ميزة عادل، مع عمله الإضافي في الهمّ والغمّ، وحصّته الأوسع من خبز الأيام المريرة، أنه يمتلك روح التفاؤل، ويغالب يأسه بالتنكيت.
أبٌ لأربعة أولاد، يعمل سبع عشرة ساعة ويعيش بكفاف يومه، لكنّه سعيد، والسّبب «لأنّني لستُ فقيراً ثقافيّاً»، فثقافته وتجربته هما رأسماله وثروته، وحين تسأله: «عادل.. ما الذي قادك إلى هذه المهنة؟» سيجيب على طريقته الخاصّة:«من المعيب أن أقول أنّ القدر من قادني إلى هنا، أو أنّني أعمل من باب الشغف بالقراءة، أو لأنّها مهنة والدي رحمه الله، لأنّ الدّوافع المعيشيّة ترغمك على أكثر من مهنة»
وفي عمله اليوميّ، هناك على رصيفه إياه، أوجد سياسة خاصة في الترويج للمطبوعات، حيث تراه يخبر المشتغلين في الشأن العام عن ملفّ سياسيّ دسم، أو يدل فناناً على مقابلة مع زميل له في إحدى المجلات، أو يغري مهتماً بالأدب بملحق يصعب العثور عليه.. ولكنْ هل تجدي هذه السياسة دوماً؟ تزعجه كلمة سياسة في هذا السّياق «كلمة سياسة تحتاج إلى أيدلوجيا، وأنا لا أملك أيدلوجيا في البيع».. هكذا يقول، ويفضل صرف الأمر في سياق آخر هو أخلاق المهنة واحترام الزبون. إنّه يقرأ بضاعته، ويحاول تسهيل عمليّة الشّراء، لكلّ شخص حسب اهتمامه.


وماذا عن الصّحف والمجلات السورية التي ظهرت في السنوات الأخيرة؟ هل استطاعت المنافسة؟ هل لبّتْ حاجات الناس؟ يبتعد، في جوابه، عن تقييم المنافسة، ويعتبر المطبوعات الجديدة «موجودة لأنها موجودة فقط». أمّا مجلته، أو صحيفته المفضلة فهي «كلّ صحيفة أو مجلة موضوعية، لأنها دون ذلك تتشابه وتتساوى»، باستفزازه والغمز باتجاه نزعته الشعاراتيّة، وبالإلحاح على ضرورة التسمية يقول: «أركز على جريدة (السفير) لأنها أقرب إلى شريحتي»، وبعدها يشيد بجريدة «الثورة» التي يعتبرها قد قفزتْ في الآونة الأخيرة «قفزة نوعيّة». هذا السؤال يقود إلى الاستفسار عمّن يقرأ من كتاب الصّحافة السوريّة، ومرّة أخرى، وككل الشخصيات العامة، يرفض ذكر أسماء محددة مكتفياً بجملته محايدة: «أقرأ لصاحب الهمّ الذي يتبنى موضوعه فعلاً»، لكنّه، حين يتخلى عن نزعته الدبلوماسيّة، يسجّل ملاحظاته على أداء الصحافة في سورية التي يرى فيها «كتابة تفتقر إلى تبني الفكرة» قي كثير من الأحيان، كما يجد فيها الكثير من التخبّط، واستشراء الأقلام الفقيرة الموهبة، وأكثر ما يصيبه بالأذى كقارئ «موضوع مبهر ذو مضمون إنشائيّ، حيث يضيع الكاتب ويضيّعنا معه، وتتخرّب الفكرة التي لا لا تملك حيالها إلا أن تشعر بالشفقة على وأدها بهذه الطريقة».
كثيرة هي المرات التي يتحول فيها ركن الجرائد هذا إلى ملتقى، حيث يرمي عادل «فتّيشاته»، فيدور جدال على قارعة الطريق، لمدّة لا تتجاوز ربع ساعةٍ، ويتحول، هو، إلى مدير لندوة صغيرةٍ على الواقف، ودوافع النقاش «عنوان كتاب غير مريح، مانشيت مخالف للواقع... إلخ»، والمنتدون الذين من المشارب السياسية كافة: «بعثيون، قوميون سوريون، شيوعيون، إسلاميون...» يتفرقون راضين تمام الرضا، بعد حوارٍ راقٍ. أما أكثر من يحبهم ممن يتواجدون عنده فهم: «نصر الدين البحرة، وليد مدفعي، وليد إخلاصي، الراقي المحترم العم أبو عادل مظفر النواب، محمد الماغوط رحمه الله».
هذا عن الرجال.. والنساء؟ النساء يارجل.. أليس لديك زبونات مداومات وأنت تمعن أكثر ما تمعن في إبراز مجلات الموضة والأزياء؟ بحركة لا واعية يلفظ الكلمة كتميمة «المرأة»... ويعيدها ثانية، وفي المرة الثالثة يطلق صرخته «المرأة كالظلّ الخفي إن لم تكن مهيّأ لها هربت من واقعك.. يجب أن تحاورها بالحواس السبعة، وبرضوخ أيضاً، لأنها أنثى، والأنثى سلطة يا صاح!!!». وبعد قليل يتخلّى عن صورة العاشق مقابل صورة الأب، ومن الموقع الثاني سيقول: «هناك الكثير من الشّابات اللواتي يدخلن مجال الثقافة. عندما أسأل إحداهن، بعد مرات من زيارة بسطتي، عن سبب شراء هذه المطبوعة أو تلك، تخبرني أنّها تحاول الكتابة. أسألها هل كتبت؟ (محاولات في بعض الصحف المنسية). تقول. ومع مرور الوقت تجدها عالية الثقافة، وذات قدرة على العطاء، فلا أجد إلا أن أشجعها وأعرّفها على فلان أو فلان ممّن يقدرون المواهب، أكثر ما يؤسف هو غياب رعاية الدول للأجيال الجديدة».
غالباً ما تجد أحداً يقرأ الصحف مجاناً. شيء يشبه (السلبطة). وعند سؤاله ألا تتضايق منهم؟ ألا تعتبر هذا تطفّلاً؟ يضحك ملء الفم «ألفتُ هذه الظاهرة»، وهنا يعلن عن سرّ « ما تراه هكذا هو في الحقيقة مقايضة، ففي غالب الأحيان يدعوني هؤلاء الأشخاص إلى جلسة منادمة، وكأس بصحّة الوجع». واستغلالاً لهذه الصّراحة أواجهه بسؤال كنت أفكر بتجاوزه: لماذا تبيع الكتب التي تُهدى إليك؟ أليس في هذا نكران للهدية؟ وبما فيه من صراحة يعلن «صحيح..» ويأخذ بشرح الأمر من وجهة نظره «حين أتحاور مع المؤلفين أجدهم ممتعضين من عجزهم عن نشر الكتاب أنا أعرض الكتب من باب الدعاية لها، ويحدث أن تباع، وهذا، مع الاعتذار مع الجميع، يبعث فيهم السرور، كما أنهم لا يمانعون ذلك... فما الخطأ؟؟».
توفيتْ والدته بعد معاناة شديدة مع المرض.. (وهنا يبدأ الشدّ نحو شؤونه الشّخصيّة، وأموره الخاصّة).. الأم عانتْ سوء المعاملة في المشافي ولم تقل شيئاً، وحين أسلمت الروح كان الابن أمام كارثتين: حزن الفرق وحزن كامد آخر، من أين يغطي نفقات الدفن. وعند هذه النقطة التي دخلت الحوار دون سؤال سأسجل حرفياً مونولوج عادل كما ارتجله، ودون أية رتوش: «اعتدتُ بهذه الحياة أنّ الفقر يسرق الابتسامة.. أما أنّك يا فقر، وبكلّ وقاحة، تسرق منّي الحزن فهذه مأساة.. كم تكلّفتُ على علاجها، وهي تصرخ بوجهي: يا بني ما معنا مصاري.. ما بدي اعيش.. تركني موت وارتاح.. وريّحك!!». لم يستطع التوقف عن عمله خلال العزاء، وظل مضطراً للقيام بعمله الذي لا يسمح له جل مثله، بالبكاء في الشارع هكذا سرق الفقر حزنه...
صمتنا طويلاً بعد هذا التّصعيد الدّراماتيكي، وفي محاولة للتخفيف عنه، عن عينيه الدامعتين سألته: ألا تخاف على مهنتك من الانقراض بعد انتشار الإنترنت؟ فكان الجواب المباشر: «منذ أيام قرأتُ في إحدى الصحف خبراً يتناسب مع هذا السؤال عن الانقراض. الخبر على النحو التالي: (هناك مزاد علني لبيع روث الديناصور، وصاحب هذه التحفة طبيب...) ليكن السؤال المضاد: إذا كان للروث مزاد ولم ينقرض.. فهل تنقرض الكلمة؟؟؟»
مع انتهاء الحوار بدأ، الفقير إلى ربّه، عادل عبد الله، أشهر باعة الصّحف في دمشق، بلملمة بضاعته. راقبته بشغفٍ.. وفيما يحمل كميّة من أكداس ورقه قال: «يوم آخر بصحبة الندم.. لا محصلة مادية!!». ثم غاب وعاد راسماً تلك الابتسامة الغامضة، التي تتأرجح يميناً باتجاه الفرح، وشمالاً باتجاه الحزن.. ليهتف: «يبدو أن أيدلوجية الفقر سترافقني من المهد إلى اللحد كاللعنة!»
بعد وداعه وابتعادي عنه، خطر ببالي سؤال هو: أنت الذي أورثك أبوك هذا الرصيف، وكانت تركة أمّك محقن الأنسولين، كما اشتراه لها ابنك، من مصروفه، في عيد الأمّ.. ما الذي ستورثه لأولادك الأربعة؟ بالتأكيد كان سيقول: أورثهم ما تبقى من ابتسامتي!!

رائد وحش
[email protected]



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عام الجليد (مقطع من رواية)

30-تشرين الثاني-2019

عام الجليد + جزء من رواية

16-تشرين الثاني-2019

قصة الحيوان الرباعي

09-تشرين الثاني-2019

عام الجليد (مقطع من رواية)

02-تشرين الثاني-2019

أشهر بائع صحف في دمشق: عادل عبد الله: الفقر سرق حزني!

30-أيار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow