Alef Logo
ضفـاف
              

أصول التدوين و أنماط الكتابة عند جمال الغيطاني (٢-٤)

صالح الرزوق

خاص ألف

2014-06-01

الكتابة و التدوين

لجمال الغيطاني خطان أساسيان في الكتابة الفنية و هما:
الإخبار بمعناه الفني الذي يرقى بأصوله إلى غوغول ( و من معطفه خرجت القصة النظامية ذات التمهيد و الحبكة و الخاتمة التي يغلب عليها البكاء و الدموع و التأسي). ثم إلى غي دي موباسان ( و الذي خرجت من معطفه قصص النفوس المعقدة).
و لا يخفى على أحد الفرق بين الإثنين. فهو تعبير عن نظام إنتاج إقطاعي و نظام أسرة تتألف من عدد محدود من الأفراد. لقد ترك ذلك أثره على الحكاية.. زمن مفتوح مقابل عدة ساعات أو أيام، و شخصيات بطولية خارقة مقابل أناس عاديين من داخل المجتمع.
لم يتورع جمال الغيطاني عن توظيف كلا الأسلوبين في نسيج محكم لبنية واحدة. فبالمشاهدة وضعنا في مواجهة خطوط العزل كالجدران و الأسوار و المباني المرتفعة الشاهقة و بالنشاط النفسي قفز من فوق هذه الحواجز و ترك للنفس حرية التجوال في عالم لا حدود له، سواء كان كابوسا مرعبا تقشعر له الأبدان ( ذكر ما جرى و حكايات المؤسسة مثالا) أو حلما أخضر يدعو للتفاؤل و يشجع على الانتظار ( الزويل مثالا).
الخط الثاني: الإخبار بالتوازي. و هو الخطاب ( الإنشاء بلغة كمال أبو ديب) و يرتبط بالأذهان بتجارب بلاغية لها رصيد في لغتنا الجميلة ( بين قوسين).
و فيه أيضا اتجاهات.
١- متوازيات اللغة والحكاية. و هي كل كتابة تتوحد فيها تراكيب الجمل و العبارات مع زمن القصة. بمعنى أن نحو اللغة تدعمه حكاية القصة. كلاهما يعمل بصيغة مضطردة و مستقيمة. فصيغة الماضي تتكلم عن حقبة تاريخية قديمة لا يمكن لنا إحياؤها إلا فنيا ( الزيني بركات و أوراق شاب عاش منذ ألف عام مثلا). و صيغة الحاضر تتخصص بما يجري حاليا من أزمات عابرة و مخاطر تهدد الأفراد و كذلك مصير الأمة ( نفثة مصدور للتجربة الخاصة و الرفاعي للتجربة البطولية التي لها بعد أسطوري و ملحمي).
٢- متوازيات اللغة و خطاب البنية ( أسلوب ترتيب الأحداث ). و هنا تدخل اللغة في دورة إنتاج استهلاكي. و تتعرض التراكيب المعروفة التي أفل وقتها ( كتقاليد المشافهة و الكتابة الفارسية و العثمانية ) للتفكيك ثم إعادة التركيب بتأويل معاصر. لقد كان الغيطاني يفرّغ الأساليب السابقة من محتوياتها ثم يعيد تحميلها برسالة لها أخلاقيات و منابع أو مصادر مختلفة. و اعتمد في ذلك على تفريع خط الحكاية و على شكل الحكاية الروسية ( الحكاية ذات الأدراج ) و على رسم مشاهد متتالية لها نفس المعاني و الأدوات كما هو الحال في مغانرات السندباد. فهي تتألف من رحلات عجيبة تكثر فيها المعجزات و البطولات التي يقدمها لنا الراوي المجهول بشكل دوائر لا تنتهي. و أقرب مثال عليها هو ( هاتف المغيب). إنها رواية دائرية
يمكن أن نضيف لها وحدات أصغر باستمرار. و لذلك إن نهاية الأحداث لا تدل على استنفاذها و لكن على الدواعي النفسية الخاصة للحالة.
٣- تراكيب لغوية ليس لها وقت و لا مكان. و تشبه في مبناها و معناها ما للغة الأحلام و الإشارات من سلطة و قوة.
و أرى أن جمال الغيطاني نسيج وحده في هذا المجال. فهو يختلف عمّا قام به زكريا تامر الذي نبش قبور شخصيات تاريخية ميتة بكل ما للكلمة من معنى. لقد ترك منهم الاسم فقط و حرمهم من قانون اللحظة، المكان و الزمان و حتى المنطق. و قل نفس الشيء عن أمين معلوف الذي سلط على رقاب شخصيات مدونته التاريخية قانون ترفيه النخبة في عصر التوسع الإمبريالي. و نحن على أتم الثقة أن مدونات العثمانيين و من قبلهم الفرس و كذلك أدباء دولة المرابطين كانوا أقرب للغة الشارع و لعفويته و أوهامه. لقد كانوا يعملون تحت ضغط الضرورة. و ما خيالاتهم عن كنوز مرصودة و أنهار من عسل إلا لهدف واحد هو التستر على الحرمان و الفاقة و العوز.
لقد كان جمال الغيطاني في بلاغياته يتبع سياسة أو منهج أسميه " تعميم الخاص". و هو أشبه بإدخال مؤسسة داخل نظام مؤسسة منافسة. و بتعبير أوضح: استعمل نظام المشافهة في نظام كتابة مدونته.
و لئن كان لا بد من مقارنة لا أجد في الذهن غير مثال يتيم هو للشاعر المعاصر أديب كمال الدين الذي استعمل تراكيب و أناشيد العشق الإلهي للتعبير عن أزمته الخانقة و هو يتنقل بين المنافي.
و يجب أن لا نفهم من ذلك أن جمال الغيطاني يبحث عن تمكين الأصول و لكنه كان يعمل على تحرير نفسه منها. إن أية محاولة لإعادة إحياء التراث تنطوي على مشروع تحرري قد يؤدي لإلغاء حدود النوع بهدف التأسيس لنوع ليست له سوابق، نوع نظيف و طاهر.
فالمشابهة لا تدل على الاستسلام ( كما يقول بريان بالتريدج ).

زهور جمال الغيطاني المتأخرة: رشحات الحمراء

راهن جمال الغيطاني منذ بداياته على حدود النوع. و لذلك اختار أن يبدأ حياته الفنية بكتابة ما يسميه الرسائل و الخطط و الأوراق، و لكنه اختتمها بسلسلة ذات عنوان موحد هو ( دفاتر التدوين).
ولئن كان كل دفتر سيرة نفسية أو مشاهدات ذات طابع سياحي و تأملي على طريقة ما يسميه سومرست موم عميد المسرح البريطاني ( عصارة الأيام - summing up) فقد انفردت ( رشحات الحمراء ) بحكاية تتألف من طبقتين:
١- البحث عن الزمن المفقود بالاستعادة. باعتبار أنه نشاط ذاكرة ثاقبة لا يفوتها أن ترى في الإنسان قيمة رمز عضوي. و معادله هو الطبيعة المقيدة و غير الحرة التي فقدت نقاءها و دخلت في طور سقوط و تحلل و احتضار ( فهي طبيعة مكان اجتماعي متخلف).
٢- تثبيت لحظات من الطفولة كانت بمثابة نافذة على الجانب الأسطوري و الملحمي للذات. بكل عقدها و ما يترتب على ذلك من أمراض و قنوط و تقهقر.
و كما أرى إن التثبيت هو التعبير النفسي عن مشاعر الخشية و الخوف و الرعب من المجهول الذي تحول إلى لعنة غامضة لا فكاك منها. هي لعنة التخلف ( من الجانب الحضاري) و لعنة الكبت و الإظلام ( من جانب إداري- هذا إذا اعتبرنا أن الحاضر هو أنجع وسيلة لإدارة مخزوننا و تجاربنا فيما يتعلق بالنظام و القانون و السلطة و معنى جوهر الحرية).
و قد ساعد ذلك على ابتكار طريقة لتحرير النص من تراكم الأنواع دون التضحية بالمتبقي - و هو الجزء الخاص بامتداد شجرة الأنواع.
و بعبارة أوضح: لعب ذلك دورا أساسيا في تحديث الشكل القصصي دون التضحية بروحه أو جذوره. لقد خرج على مفهوم القصة الحديثة كما كتبها بلزاك و فلوبير و لكنه لم يدخل بين أسنان الطاحونة التي استبدلت الحكاية بالمونولوج كما فعل جويس مثلا.
لقد اعتمد الغيطاني في هذا العمل الصغير و المتوازن على عدة خدع فنية كما يلي:
١- سياسة إغلاق و عزل المشاهد. بحيث أن كل مشهد يتطور على امتداد خط مستقيم. بلا انحناءات و لا منعطفات. و هذا يعني التقليل من أهمية الحبكة و الاتكال فعلا على الإسقاط و المجاز و الاستعارة و كل الجماليات الإضافية التي تضع النص بمواجهة نفسه. فهو نص إبلاغ و ليس نص مشاهدة و متابعة. و هذا يبرر لماذا لجأ للإسقاط و الاستعارة و المجاز للتحرش بالسلبيات و الانحرافات.
و لذلك كل مشهد قصصي لديه إذا بدأ بفعل ينتهي بمعنى الفعل مع التأكيد على زمن وقوعه. مثلا لو بدأ المشهد بفعل تجيء ينتهي بتراميب تؤكد أنها تجيء الآن.
٢- الإكثار من أدوات الوصل. و هي أسماء ( في الصرف و النحو) و الهدف منها الربط و الاستدامة. و لذلك كانت المشاهد المتجاورة تترك لدى القارئ الانطباع أنها متتالية. و لو لا ذلك لماتت الحكاية في مهدها.
٣- تعدد المشاهد مع الاحتفاظ بحق شمولية الأنماط. فتعدد الأسماء ( لشخصيات نسائية غالبا ) و تعدد الأماكن ( و هي لساحات ثابتة لا تتأثر بالزمن و تقلباته و بالتالي تبدو مقاومة للموت و الشيخوخة) تتحول لفضاء له وظيفة أو صفة مثل ذات - الشخص و ذات - المشهد.
و مثل هذا الإلحاح على زمن ذات الكتابة momentum يساعد على تمرير لغة المدونة، لتكون حاملة و تمثيلية. تعبر عن معنى و تحيل لصور لها معنى و رصيد نفسي. بلغة أخرى هذا الأسلوب هو الذي يضاعف من أهمية المدونة.
إنها تتحول بذلك لفضيحة تنشر الأسرار و تنتهك الخصوصيات. وبعبارة مختصرة إنها هي التي تسهل علينا قراءة المدونة كموضوع و ذات. كحكاية خيالية ممكنة و كمذكرات حصلت فعلا و لا مجال للشك بمصداقيتها.
لقد كان الفاعل في ( رشحات الحمراء ) نفسه. إنه شخص من الواقع و ينتمي للزمن المكتوب ( شريط اللغة و التراكيب ) و ليس لزمن الكتابة ( الأدوات المادية المنتجة للنص).
إن القصة بمفهومها الكلاسيكي تبدأ بالمرسل و تنتهي بالمتلقي. و لكن في (رشحات الحمراء) يوجد طرف ثالث لا غنى عنه هو ما يسميه بارت قابلية الكتابة.
ولا بد أن هذا النص الشيق و المدهش و الممتع قد حقق التوازن بين أطراف النشاط اللغوي: الكتابة و القراءة.
لقد بدأت المدونة بوعي أشياء العالم و ابتكار أسماء لها ثم انتقلت في جزء يسير منها ( قبل الخاتمة ) إلى إنارة خفايا ذاكرتها. بمعنى أن التكوين و امتلاك الأحداث و اشتقاق المعاني تحول في النهاية إلى ملاحظات و مشاهدات.
و يمكن أن نقول أيضا إن الاهتمام بعلاقة الفضاء النفسي و زمانه كان له أن ينتقل إلى رسم مساحات بيضاء.
لقد عمد جمال الغيطاني في ( رشحات الحمراء) إلى صيغة التقابل. بحيث كل أداة تغدر بمثيلتها: الزمان يغدر بالمكان. و التعريف بالنكرة و الاسم بالفعل، و هكذا دواليك كما يلي:
١ باعتبار أن ( رشحات الحمراء) ذكريات غير متسلسلة كان الكاتب يقدمها لنا بشكل قراءة في صفحات من ماضيه الشخصي. و لكن هذا يفترض لزاما وجود عازل بين زمن القراءة و زمن الأحداث التي جرت على أرض الواقع.
و في هذا الفاصل لا بد من فراغ نفسي يصول فيه الكاتب و يجول حسب ميوله و أهوائه و رغباته و ليس استجابة لإملاءات موضوعية.
٢- لشد اهتمام القارئ كان لا بد من التغاضي عن المألوف و التركيز على المدهش و الغريب و المشوّق. و قد فرض ذلك نوعا من المبالغات الموضوعية في تجسيم المادة الخام. إنها تحويلة فنية لا بد منها للانتقال من مجال التصوير للتأويل. من الواقع الأبكم الصامت المنكفئ على ذاته لسريالية الذهن و أشواق الروح.
و أتبع ذلك بتعريف ما هو معرّف. أو بتوظيف رؤيتنا لما نعرفه. و رفد ذلك بخبرات نفسية خاصة تضعنا بمواجهة المحيط النفسي و أمواجه المتلاطمة. سواء عن طريق الحلم أو قراءة ما بين السطور. و ربما عن طريق توسيع الواقع و ردم نقائصه بالأوهام و التخيلات.
٣- دمج فعل التذكير ( إعادة تعريف البديهيات و الحدود ) مع العاطفة الثابتة التي تلعب نفس الدور مهما اختلف الزمان و المكان و البطل ( الشخص الحامل للأحداث).


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow