Alef Logo
ضفـاف
              

الحفر السياسي حجر عثرة في رواية فواز حداد

نبيل سليمان

خاص ألف

2014-11-04

منذ تعرفت إلى فواز حداد في روايته «موازييك دمشق 39» التي صدرت عام 1991، وأنا أحتفي به روايةً فرواية، إنْ لحفرياته الروائية في التاريخ، أو لإخلاصه للكلاسيكية التي أخذت تندر في الرواية العربية. ولطالما رددت أن روايات هذا الكاتب هي غالباً من «العيار الثقيل». غير أن روايته الجديدة«السوريون الأعداء» تدفعني إلى قول آخر، ابتداءً بعمارتها التي توزعت بين كتلتين، ثانيتهما تعادل عشر أولاهما، وتحـــاول أن تغطي ما عاشته سورية منذ 2011، بينما تعود الأولى إلى الصراع المسلح بين الإسلاميين والسلطة في حماة، مطلع ثمانينات القرن الماضي. فقد بدا تــوزيع الكتلتين تشويهاً للعمارة الروائية، ومحاولة قاصرة ولاهثة لإرسال قولٍ ما في الزلزلة السورية الناشبة منذ 2011، وهي الزلزلة التي أسفرت حتى الآن عن تسع عشرة رواية في حدود علمي، ثلاث منها صدرت في الداخل، وست عشرة صدرت في الخارج.

يزاحم السارد في رواية «السوريون الأعداء» جميع الرواة، فينقض أو يقزّم لعبة تعدد الأصوات. ومن أمثلة ذلك الكثيرة هو ذلك الحوار الفلسفي غير المقنع الذي يديره السارد بين الضابطين سليمان (العلوي) ومروان (السنّي)، حيث ينفي الأول وجود إله واحد. ويعلل السارد عداوة سليمان لهؤلاء المقاتلين باختلاف الرب. أما مروان ففي فلسفته أن الحرية هي ألاّ تؤمن بشيء، أي أن تكون طليقاً، بلا دين ولا ثورة. ومروان يحكم بأن المعتقد الديني لا يتبخر مهما أصابه من انحسار، إلاّ بقتل الفكرة القابعة في الرأس، والأجدى والأسهل لتحقيق ذلك هو قتل المؤمنين بهذه الفكرة دونما تمييزٍ بين المسلح منهم والأعزل.

ويــشـرح الـــسارد أن مؤهلات مروان هي أنه سنّي دمشقي، وقد عمل على ترسيخ سمعة بعيدة من الطائفية، فكان الأجرأ على طائفته، ليكسب رضا رؤسائه بالفتك بالإخوان المسلمين. وفي الشرح أيضاً أن مروان لو استطاع تبديل مكان ولادته، لما حاول استرضاء أمثاله من الضباط العلويين، وعلى رغم ذلك فـ (هم) في الفرع، يشككون في هذا الذي لا سند له إلاّ مبالغته في تنفيذ ما يوكل إليه، كي ينال ثقتـ (هم).

في الكتلة الصغيرة الأخيرة من الرواية، يبدو السارد في عجلة من أمره، كأنما يريد للرواية أن تودع كيفما اتفق، بعدما طال بها الحفر في التراجيديا الحموية قبل ما ينوف على ثلاثة عقود. وهكذا يختصر السارد في ستة أشهـــر المعجزة الحموية السلمية فـــي صـــيف2011، كما يبدو السارد متخلفاً عن الدكتور عدنان الراجي، أحد أبطال الرواية، والذي واجه الموت وذاق الويلات في سجن تدمر، وظفر أخيراً بسليمان الذي تسبب له بكل ذلك، لكن الدكتور عدنان الراجي رفض أن يحيل العدالة إلى انتقام. وهنا ينبق السارد شارحاً أن العدالة ليست الثأر ولا الانتقام، بل هي تدمير الدولة الظالمة: «ينبغي محوها من الوجود»، فهل تراه يوحد بين الدولة والنظام؟ بين الدولة والسلطة؟

عندما يمعــــن السارد في تسلـــطــه علــى الرواية، فإن أذاه لهـــا يفـــشو كبقع الزيت. ومن أمثلة ذلك الكثيرة أن يميل باستراتيجية الخبر العريقة في التـــراث السردي العربي، وفي تاريخ الرواية بعامة، إلى أن تكون نتفاً إخبارية تلفزيونية أو صحافية، أو إلى أن تكون تقريراً صحافياً. وقد بدأ كل هذا الذي ينال من جمالية الرواية منذ الفصل الأول من رواية «السوريون الأعداء»، في أخبار القتال في حماة عام 1982.

ولــــعــل للــــمــرء أن يحزن حين يرى البراعة المعهودة للكاتب في رواياته السابقة، تتجدد هنا في المشهد المروع لقتل سليمان عائلة الطبيب، ولكن سرعان ما تطغى الإخبارية، كما تطغى الملخصات السردية منذ الفصل الثاني، وأولها ما يعرّف بنشأة سليمان ودراسته في حلب ووشايته بخاله البعثي المعارض لحافظ الأسد. وكذلك هي قصة عشق سليمان لابنة هذا الخال، أو قصة لميس خطيبة الرائد مروان، أو تغطية الرواية حرب إسرائيل والمقاومة في لبنان عام 1982، عبر تقرير صحافي زاده سوءاً هذا التناقض في الصفحة 181، حيث اختلطت على السارد رتبة حمدان، فتارة هو ملازم أول، وتارة هو رائد! ومن أسف ألاّ تكون تلك هي الغلطة الوحيدة أو الكبرى للسارد، فسليمان – مثلاً - لا يريد شيئاً مقابل مساعدته للميس في التهريب من شتورة، لكنها جعلت له حصة من الأرباح، فلم يهتم في البداية، غير أن رصيده ارتفع، وما عاد باستطاعته التخلص من لميس، فبانكشافها ينكشف هو أيضاً. ومن أسفٍ أيضاً أن ابتليت الرواية بعدد من الأخطاء الإملائية والنحوية.

حين تبلغ الرواية مرض الرئيس الراحل حافظ الأسد وصراعه مع شقيقه رفعت الأسد، ينتأ الملخص السردي (ص 339-342). وحين تبلغ الرواية آذار 2011 تغطي تظاهرة سوق الحريقة في تقرير صحافي، وتغطي أحداث درعا في تقرير مماثل، لكنه أطول (ص 434-440). وقد تحولت الرواية في منتهاها إلى تقرير سياسي، ثم إلى تقرير عسكري، لكأنها ودعت الفن الروائي تماماً.

بالانتقال إلى بناء الشخصية الروائية، تتراجع بنسب متفاوتة سلطة السارد، وبالتالي يتراجع أذاها لجمالية الرواية. فعلى رغم شكوى شخصية سليمان من محاولة انتزاع لسانها لتكون لساناً للسارد، بالأحرى لظل الكاتب الظليل، إلا أن هذه الشخصية نجت من المحاولة مرة بعد مرة. فسليمان المسكون بعقدة قتل الخال –على وزن قتل الأب- وبعقدة الضيعة المتأتية من سابقـــتها: «النفور من الضيعة والتعلق بها، مقاطعة والديه وأقرانه له».

وسليمـــان مسكون أيضاً بعقدة الشوام، فطموحه هـــو أن تكون زوجته دمشقية، ليبرهن أنه على سوية الدمشقـــيين، والعاصمة هدفه، لكنه يكره الدمشقيين ويخــــطر له التخلص منهم. من أجل ذلك تـــرى سليمان منــــذ العهد بالجامعة يشي بأصدقائه المتدينين، ويعلن طلاقه من المذهب العلوي – وإن يكن يجهله - ويـــصر على الانتساب إلى الإسلام الصحيح فيطيل لحيتـــه، ويشجع زملاءه على تشكــــيل رابطة الشباب السوري المؤمن، ثم يشي بهم للأمــــن. وبسبب العقدة الشـــامية يحسد سليمان الرائـــد مروان على لميس المظـــلية التي كانت بين من مزّقنَ حجاب المحجبات فـــي دمشق، حين كانت سرايا رفعت الأسد في عزّها. ويقـــوّل السارد سليمان إن الشوام لا يطـــيب لهم العيش إلا مــــع شامية، وإن فقراءهم فقط، وخصوصاً الانتهازيين منهــــم، يخرقون تقاليدهم العنصرية، ويتزوجون قرويات مــــن الساحـل أو الريف القريب – أي علويات، بالعربي الفصيح - توفيراً لتكاليف الزواج، فالشوام، على ذمة السارد، حيسوبون حتى في الحب، فما بالزواج!

يدير سليمان ظهراً لدراسة الهندسة في الجامعة ويمضي إلى الجيش، حيث تصعد به طموحاته إلى القصر، ويمنحه الرئيس الراحل لقب المهندس. وفي هذا الشطر الأهم في حياته سيغدو «المعجزة»، فهو مثلاً من يسرع إلى بيروت لينقل وقائع القتال مع الإسرائيليين، ويتكشف عن دراية ببيروت يحسده عليها اللبناني، وهو الذي لا عهد له بها من قبل. لكن إبداع سليمان المعجزة لفكرة تأليه الرئيس تبدو «مسلوقة» وغير مقنعة، سواء بمحاولة إقناع المعني بها، أم بحملة التماثيل وحملة الصور على طريق التأليه. وتبدو السذاجة كبيرة هنا بالمقارنة مع ما أبدعت الرواية العربية في تألّه الديكتاتور وتأليهه...

بممارسات سليمان، وعلى لسانه، تتوحد «سحرية» النظام وتتسيد على الاقتصاد أو السوسيولوجية أو العولمة وما شاكل من هذه الترهات التي يقصر فعلها في المجتمع أو الدولة أو التاريخ عن فعل السحرية التي يتولاها السارد مرة بعد مرة، ليخفف العبء عن شخصية سليمان، على رغم أنها «شخصية معجزة». وهكذا يشرح السارد على لسان سليمان، وربما يشرح الكاتب على لسان السارد، أن العلويين ملزمون بهذه الدولة التي منحتهم خطوط التهريب والتجارة والمناصب في الاستخبارات والدولة والإعلام والصحافة و... حتى في المعارضة! وليس من علة اقتصادية أو سياسية. إذاً ليس في الدولة إلا العلة العلوية. وما من معارض علوي أو من منبت علوي إلا بتدبير من النظام السحري. وبالتالي تمضي الرواية إلى أن النظام سيسقط في ساعات لو تخلت الطائفة عنه، لكنها مبرر وجوده كما هو مبرر وجودها، وإنقاذه إنقاذ لها، والمصالحة تعني فقط تذويب الطائفة في بحر من السنة، فما أهون وأبسط الزلزال السوري إذاً، في سنته الرابعة!

تنجو من هذه الفيهقة الطائفية، جزئياً، شخصيتا المساعد ضرغام والمعارض غالب. وبذا تنفرد هذه الرواية من بين الروايات التي تدفقت خلال السنوات الثلاث الماضية، وعنها، على رغم أن غالبية هذه الروايات قد كتبت في المسألة الطائفية التي لا يمكن نكرانها – حتى للنعامة التي تدفن رأسها في الرمل – ولكن من منظور نقدي، وبلا إطلاقيات، وبلا فجاجة أيديولوجية وخطابية.

بكل ما تقدم – وهو ما يحتاج إلى تفصيل كبير سيأتي في مقام آخر – قد يكون للمرء أن يتساءل: هل رواية «السوريون الأعداء» هي عن حماة 1982 أم عن الإخوان المسلمين، ولهم، وعن المقاتل منهم وله قبل المعتدل؟ هل هي رواية عن زلزال السنوات السورية الثلاث الماضية أم سردية صحافية تنوشها الطائفية؟ ومهما يكن من أمر، أليست هذه الرواية برهاناً ساطعاً على طغيان السياسي على الفن؟


عن جريدة الحياة.














تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الحفر السياسي حجر عثرة في رواية فواز حداد

04-تشرين الثاني-2014

«مذنبون: لون دمهم في كفي». / القتلة مواطنون ... بامتياز

12-حزيران-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow