Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

عطر أزرق داكن / قصة روث رينديل ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2014-11-27

من الممكن أن تقول: لم يمر يوم دون أن يفكر بها. باستثناء السنوات الوسيطة. حينها لفتت نساء أخريات انتباهه، مع أنه لم يفكر بأي منهن لتكون زوجته الثانية. كان يشاهد الرجال الآخرين مستقرين في سني الفترة الوسيطة من العمر، ويتطلعون لكهولتهم بامتنان، مع زوجات محبات بالقرب منهم، ولذلك يقول في سره: كاترين، آه يا كاترين...

ومنذ أن تركته لم يعمل ولم يقطن في مسقط رأسه. عمل في شركة أرسلته لكافة أرجاء العالم، وعاش لسنوات في جنوب أمريكا، وإفريقيا، وفي الهند الغربية. ثم عاد لموطنه في الإجازات إنما ليس كل الإجازات. وأخيرا فكر بالعودة والاستقرار في وطنه بعد التقاعد، وفيما يخص ذلك، وفي إحدى العطل، اشترى لنفسه بيتا. كان في المدينة التي ولدا فيها، هو وهي، ولكنه اختار منطقة بعيدة، قدر الإمكان، عن المنطقة التي رحلت لتعيش فيها مع زوجها الجديد. وبعيدة جدا عن المنطقة التي عاشا فيها معا. فقد صادف أن اشترى هذا البيت في الوقت الذي عادت لتسكن فيه أفكاره مجددا.

وتقاعد حينما وصل لعامه الخامس والستين وعاد لبلده. عاد بالطائرة وشحن ممتلكاته التي تراكمت مع الوقت بالبحر. وضمنها مسدس اشتراه قبل أربعين عاما وكان قد عزم أن يقتل نفسه به حينما وصل لدرجة لا تحتمل. ولكن أحواله لم تكن غير محتملة على وجه الإطلاق. فغضبه عليها وكراهيته لها أعاناه على البقاء حيا، ولم يصل للنقطة التي يضع فيها المرء الطلقة في بيت النار، من هذا المسدس الصغير وغير المذخر والأوتوماتيكي.

وقد وصل لبيته في الشتاء، كان الجو كئيبا وأبرد مما يتوقع أو يتذكر. وحينما سقطت الثلوج لم يغادر البيت، ليحتفظ بالدفء في حنايا صدره، وأيضا كي لا يلتقي بأحد. لم يكن هناك من يرغب برؤيته، على أية حال، كلهم رحلوا أو ماتوا.

وحينما وصلت مقتنياته بثلاثة صناديق- وهي كل ما جمعه في أربعين عاما، ثلاثة صناديق من المتنوعات- فتحها بشيء من التعجب. لم يضع هنا شخصيا غير المسدس، ولكن خادمه من حزم ووضب ما تبقى. لقد ظهرت تحت الإضاءة أشياء نسي أنه اقتناها، كتب وتذكارات ومظروف اعتقد أنه أتلفه في تلك الأيام المبكرة من حياته، وفيه كل الصور التي التقطها لها.

جلس في المساء في بواكير الربيع وعيناه على الصور. المرأة التي جاءت لتنظيف البيت حملت معها إناء أزرق فيه نبات المكحلة الذي أشبع الهواء برائحته العذبة والقوية. وأيقظه ذلك وقال: كاترين، كاترين، ونظر لصورتها وهي في الحديقة، وصورتها على شاطئ البحر، وشعرها يتطاير في الريح. كم ستكون حياته مختلفة لو مكثت برفقته. لو أنه زوج متحمل ومنسجم وتقبل كل ما حصل وغفر لها لتبدلت الحال. ولكن هل بوسعه تحمل ذلك؟. كيف بمقدوره أن يمكث بقربها وهي حامل بطفل من رجل غيره؟.

أصابته المكحلة بالإغماء تقريبا. فأبعد الصور وأعادها للمظروف ولكن يبدو أنه لا زال يشاهد وجهها من خلال الورق البني السميك. لعلها أكبر منه بقليل، وربما وصلت للسبعين تقريبا. لا شك أنها أصبحت عجوزا، ودميمة، أو بدينة. مصابة بالشرايين. ووجنتاها النضرتان حل بهما الهزال والوهن، والعينان غاصتا في طيات من الجلد المتهدل، وعمود رقبتها البيضاء أصبحت حزمة من التجاعيد، وشعرها الكستنائي البراق تحول لكتلة رمادية. ما من رجل سيرغب بها الآن.

نهض ونظر في المرآة المنصوبة فوق خزانة الزينة، إنه لم يتقدم بالعمر كثيرا، ولم يتغير أبدا. الجميع يؤكدون ذلك. طبعا لم يطعن بالعمر، ولكن دبيب وتوالي الأيام يزيد من العمر. لم يكن أصلع، وكان أرفع مما هو عليه في عمر الخامسة والعشرين، عيناه لا تزالان متقدتين وشاردتين ومفعمتين بالأمل. وسيتضح الآن لو أن السنوات الأربعة التي تكبره بها قد انمحت وأصبحا متعادلين. لعلها ماتت. فهو لم يسمع عنها شيئا. ولم تصله أخبارها منذ الطلاق واقترانها بالرجل الأخر.

ألدريد سيدني. ربما مات ألدريد سيدني، وربما هي الآن أرملته. وفكر بذلك الاسم. لقد كان يستفزه، كيفما ورد وفي أي سياق.

" أريد منك أن تقابل المدير العام الجديد، سيدني روبنسون".

" نعم، لقد أرسلونا إلى أستراليا، في الواقع إلى سيدني".

" كاميرون وسيدني، للمساحة والتسعير، هل بوسعي تقديم خدمة".

كان يرتعش لفترة طويلة لدى سماعه اسم كنيتها. واستغرب كيف يمكن لفظه بلا اهتمام بلسان شخص آخر. لن يزيد عمر ألدريد سيدني على السبعين. ولا يوجد سبب للافتراض أنه ميت.

" هل تعرف ألدريد وكاترين سيدني؟. يسكنان في رقم ٢٢. زوج من العجائز. نعم. هذا صحيح. مخلصان لبعضهما بعضا. كم هذا رائع...".

لا يعتقد أنها لا تزال تعيش هناك، ليس بعد أربعين عاما. ذهب إلى الصالة والتقط دليل الهاتف. ولدقيقة أو إثنتين جلس هامدا. والدليل في حضنه، يتنفس بعمق لأن قلبه يدق بسرعة. ثم فتحه وانتقل لخانة حرف الـ s. كان اسم ألدريد سيدني غير شائع. وربما هناك ألدريد سيدني واحد فقط في البلد. ولكن لم يجده في الصفحة. مع أن أكثر من أ. سيدني واحد موجودون بعناوين لا تعني له شيئا. لا توقظ في ذهنه أي شيء. وتساءل لاحقا لماذا نظر لكل صف الأسماء حتى نهايته، وسمح لعينيه بالتنقل نحو الأسفل حتى حرف B ليبحث عن اسمها، بلا شك، بلا جدل، هو اسمها. كاترين ٢٢ أورورا رود....

كانت هناك، لا تزال هناك تعيش، والهاتف مسجل باسمها. أما ألدريد سيدني فقد وافته المنية حتما. تمنى لو لم ينظر في دليل الهاتف. لماذا فعل؟. بالكاد تمكن من النوم في تلك الليلة وحينما استيقظ في الصباح الباكر بعد تناول جرعة دواء، كان اسمها على شفتيه: كاترين، كاترين.

تخيل أنه يهاتفها.

" كاترين؟".

" نعم، تتكلم، من حضرتك؟".

" ألا تعرفين؟ احزري. مضى وقت طويل جدا جدا يا كاترين".

هذا ممكن بالخيال وليس بالواقع. لا يمكنه أن يميز صوتها الآن لو سمعه. ولو قابلها في الشارع لن يعرفها. ركب سيارته في العاشرة صباحا وانطلق للشمال، وقطع النهر وتابع للضواحي الشمالية. من أربعين عاما خلت كان المكان الذي تعيش فيه خارج الدائرة العامة للمقاطعة بمسافة ملحوظة. وتفصله عن المدينة غابة وحقول.

قاد السيارة عبر شوارع جديدة، ومر بأحياء جديدة. من غير خارطة لن تكون لديه اية فكرة أين هو حاليا.

لقد توسعت الأرياف خلال العقود الأربع الأخيرة. وحلقت بشكل خجول بمحاذاة المدينة من الخارج وأصبحت ضاحية من ضواحيها. ها هو أورورا رود. لم يسبق له أن زاره، ولم تقع عينه على بيتها، مع أنه بمقدوره أن يعرف أين هذا الشارع بالضبط على الخريطة، كما لو أن اسمها مطبوع بحروف حمر تحرق عينيه بمرآها.

هذا هو مرآها أخيرا. أن يكون هناك ويرى بيتها، جعل رأسه يترنح لو شئت الحقيقة. أغلق عينيه وجلس هناك برأس منكس فوق المقود. ثم التفت ونظر إلى البيت الصغير والأنيق. كان دهانه جديدا ومرتبا والباب الأمامي الذي يعود لخمسين عاما خلت تم استبداله بباب في إطار من السنديان، والشرفة المربعة استبدلت بنافذة مقوسة. ولكنه بيت مسكين ومتطامن بالرغم من كل شيء. تأفف قليلا من المرحوم ألدريد سيدني والذي لم يوفر لزوجته ما هو أفضل من هذه النتيجة.

افترض أنه عليه أن يقترب من الباب ويقرع الجرس؟. ولكنه لم يفعل ذلك، فالصدمة ستكون قوية عليها. في النهاية، لقد حضر نفسه. أما هي فلم تحضر نفسها لمواجهة ذلك الزوج الذي لم يتغير مع مرور الزمن. كيف يمكنه تجاوز هذه المباغتة المقيتة، هذا الانتقام!. كان هو من الرجال الوسيمين، الذين يبدون في أواسط العمر، وعلى وجنتيه القليل من السمرة الاستوائية، وجسمه نحيف ومستقيم، بينما هي امرأة مسنة مقهورة، منهارة، لحق بها المشيب، والذبول.

تنهد قليلا. ونسي كل تفكيره بالنتقام الفظيع. وأراد عوضا عن ذلك أن يكون رحيما، لطيفا. هل أفضل تصرف أن يتركها بسلام وينصرف؟. ويعود أدراجه لتكون وحدها في بيتها الصغير مع ما حفره التقدم بالعمر من علامات في قلبها وذهنها.

أشعل المحرك مجددا وابتعد بالسيارة قليلا. وفاجأه أن يجد أن أورورا رود هو على حافة الأرياف التي تنحسر. وأن هذه المساحة المنبسطة والحجارة الرمادية الممهدة تقود للحقول. ربما حينما كانت شابة تنزهت هناك في بعض الأوقات، تحت ظل الأشجار، على طول الممشى. غادر السيارة وسار في الممشى. وبعد قليل وقعت عينه على قطار بعيد. كان يظهر ويختفي بين المروج الخضر، وكتل الأشجار المتكاتفة، وتجمعات الأسطح الحمر، ثم صادف شاخصة تدل على مركز محطة القطار، ربما سارت هنا لمقابلة ألدريد سيدني بعد نهاية يوم عمله.

جلس على المقعد الصدئ الموجود على أطراف الممر. كان مكانا بغاية الجمال. ليس رديئا ولم تلحق به الفوضى، وبالكاد تشاهد بيتا ولو منفردا. الأعشاب عذراء، خضراء نضرة، وصف الأشجار يلمع بزهور بيض ناعمة هي براعم الخوخ البري والتي لها شذا قوي وجاف بالمقارنة مع الرائحة الندية للمكحلة. في هذا الوقت من السنة يكون الجو دافئا والشمس ناصعة. مرت به نحلة بدينة من بقايا الصيف الذي يرحل. وضع رأسه على الظهر الخشبي للمقعد وغط بالنوم.

وشاهد بلا شك حلما مزعجا، من أيام شبابه حينما كان في مرحلة ولد صغير تقريبا أما هي كانت بهيئة امرأة ناضجة. جاءت إليه، كما كانت تأتي في الواقع، وأخبرته بجسارة، من غير تردد أو خجل، أن الولد الذي تحمله ليس منه. ثم سخرت منه في الحلم، مع أنه لا يذكر أنها فعلت ذلك في حياته كلها، بالتأكيد لم تفعل. استيقظ بغتة ومرت لحظة قبل أن يستوعب أين هو. كان الناس يمرون على طول الممر ويتبادلون الأحاديث، ويجذبون انتباهه. غادر المقعد والممشى وابتعد بسيارته.

فكر طوال الأسبوع لو يتصل بها. وشعر بالشوق العارم للقياها. كما لو أنه وقع بالحب مجددا. واستولى عليه حنين هوسي ومخاوف مؤكدة وأفكار غريبة. وفي إحدى الأمسيات قرر أن يتصل بها في الساعة الرابعة بالضبط. وقال لنفسه حين تدق الساعة الرابعة سأعد حتى العشرة ثم أطلب الرقم. ولكن في تمام الرابعة عد للعشرة ثم جمد ذراعه ولم يتحرك لرفع السماعة. كما لو أن ذراعه مشلولة. ما مشكلته. لماذا لا يمكنه إجراء المكالمة مع امرأة مسنة كان يعرفها في الماضي؟.

في اليوم التالي وفي نهايات المساء عاد بسيارته إلى أورورا رود. وشاهد هناك ثلاث نساء عجائز تتمشين جنبا إلى جنب، ولكن ليس باتجاه بيتها، وإنما بعكس الاتجاه. هل إحداهن هي نفسها؟.

بحث عن قسمات كاترين في الوجوه الثلاثة، واحد شاحب ومتجعد، والثاني محمر وقوي الشكيمة، والثالث بلون الشمع ومتهدل، نظر يبحث عن علامة تميزها عن سواها في مشيتها. واحدة منهن كانت ترتدي معطفا بلون أحمر داكن. وتضع على شعرها الذي لحق به المشيب، قبعة قماشية حمراء. قبعة تكومت بلا شكل. كانت كاترين مولعة بالأحمر النبيذي. وقد اختارته لتتزوج به. لتتزوجه وربما أيضا لتتزوج به ألدريد سيدني. ولكن هذه المرأة ليست هي، لأنها حين مرت به التفتت وحدقت بالسيارة وتلاقت عيونهما من غير علامة تعارف.

وبعد قليل وصل للشارع، وترك السيارة، وسار على طول الممشى. كانت أوراق أزاهير الخوخ مبعثرة على العشب ووصل الزعرور مرحلة البراعم الخضر. وأشرقت الشمس الضعيفة من خلف سماء بيضاء خفيفة. في هذه المرة لم يجلس على المقعد وابتعد عن الممشى وسار تحت الأشجار، فاليوم الأعشاب جافة ونامية. وسمع صوت قطار يصفر من بعيد.

لم يتوقع أن يلاقي العديد من الناس قادمين من ناحية المحطة بهذا الاتجاه. ولا بد أن دزينة مرت في غضون دقيقتين. وتظاهر أنه يسير إلى هدف معين، ربما لتحسين صحته، ماذا يتوقعون منه غير ذلك، وهو تحت الأشجار وحده، بلا صاحب أو حتى كلب؟. ومر آخر شخص - ولعله اعتقد أنه الأخير. ثم سمع صوت وقع خطوات ناعمة، صوت حذاء خفيف على أرض جافة ورملية.

بعد ذلك كان عليه أن يقول لنفسه إنه يعرف خطواتها. في ذلك الوقت، وبصدق، لم يكن متأكدا، ولم يجرؤ أن يعزم رأيه، أو أن يثق بذاكرته. وحينما برزت اتضح له تماما أنها جاءت من ممشى يمر من نفق صنعته الأشجار. وشاهدها تتوجه نحو شارع أورورا وحينما مرت به كانت على قرابة ما لا يزيد على عشرة ياردات فقط.

وقف في مكانه، جامدا وبلا تفكير. وشعر لو أنه تحرك ربما يسقط ميتا. وهي لم تتحرك بسرعة إنما بهدوء وباندفاع كعادتها، وقد تراكمت عليها السنون خفيفة ولطيفة مثل وقع خطواتها على الرمل. كان شعرها أبيض وقامتها الإسطوانية زادت قليلا. وهناك علامة على تضاعف ذقنها مع القليل من الخشونة في قسماتها الحساسة. ولكن ليس أكثر من ذلك. لو أنه لا يزال شابا، هي مثله كذلك. كما لو أنه يمكن الاحتفاظ بالشباب عند كل منهما في هذه اللحظات.

أراد أن ينظر في عينيها. زرقة المكحلة، ولكنها احتفظت بهما مستقيمتين تنظران أمامها، وسرعان ما غابت عن بصره. ودخلت في منعطف في الممشى. جر نفسه إلى المقعد وجلس. يا لها من إنسانة غريبة. مدهشة!. تخيلها طاعنة بالسن ووجدها شابة، غير أنها طالما فاجأته. نوعيتها، وقدرتها على التماسك، بلا نهاية.

جاءت من القطار مع غيرها. هل تعمل؟. في هذا العمر؟ العديد منهن كذلك. ولماذا هي؟. لقد مات سيدني وتركها، بلا شك، من غير مدخرات. لقد مات سيدني... وفكر بالحياة معها مجددا، والوقوع بحبها، وبالمغفرة والتسامح، وتعويضها.

" هل تقبلين بي زوجا يا كاترين؟".

" ألا زلت تفكر بي- بعد كل شيء؟".

" مر كل شيء كحلم طويل ومزعج فقط..".

ستأتي وتعيش في هذا البيت وتجلس قبالته في المساء، وستذهب معه في إجازات، وستصبح زوجته. وسيتبادلان النكات مع الأصدقاء.

" كم مضى على زواجكما؟".

" في الأسبوع الماضي حلت الذكرى الثانية لزفافنا وفي الشهر القادم ستكون الذكرى الخامسة والأربعين".

ومع ذلك لم يخابرها. ولم يجلس على هذا المقعد في نفس الوقت من الغد ولم ينتظرها لتمر من أمامه وتتعرف عليه.

وقبل أن يغادر البيت تأمل صوره القديمة التي كانت مع صورها القديمة أيضا. كان وجهه أكثر امتلاء وبلا نظارات. وضع يده على جبينه العالي والمنحدر وتساءل لماذا يبدو ضيقا في الصور.

أزياء الرجال لا تتغير مع الزمن كثيرا. والسترة الرياضية التي يرتديها اليوم هي مثل التي ارتداها في شهر العسل.

وحينما شرع بمغادرة البيت امتلأ بشذا المكحلة، والتي انتهى وقت تفتحها وبدأت تنشر رائحة مريضة وتسبب الدوار. أزهار زرق داكنة مع عطر أزرق داكن.... وبردة فعل قطعها من رؤوسها وألقاها في سلة النفايات.

كان اليوم مضيئا وانزلق بسيارته من تحت الشمس التي تغطي سقفها. وحينما وصل إلى أورورا رود، الحقل والممشى، تخلص من نظاراته ودسها في جيبه. لم يعد بمقدوره أن يرى بشكل جيد من غيرها ولذلك تعثر قليلا وهو يسير قدما.

لم يجد أحدا على المقعد. وجلس في وسطه. سمع صوت القطار. ثم شاهده. وهو يقعقع بين الأشجار المنتفخة والسقوف الحمر الصغيرة المائلة والمربعات الخضر. فكر: هذا يجيء له بسعادة الحياة وبهجتها. افترض أنها لا تصعد بهذا القطار دائما؟. أو افترض أن ظهورها بالأمس مجرد حدث طارئ، وليس عودة من العمل ولكن من زيارة لا تتكرر؟.

لم يجد الوقت الكافي ليفكر بالموضوع، فقد بدأ الناس بالوصول. الواحد وراء الآخر ثم إثنان معا. يبدو لن يمر كثيرون مثل الأمس. انتظر، ويداه متشابكتان. وحينما وصلت لم يسمعها إلا بصعوبة، كانت تسير بوقع خطوات منخفضة..

كان بصره ضعيفا بلا نظارات وبدت له مثل طيف. تقريبا مثل امرأة هلامية، شبح. ولكنها ها هي، حركاتها المفعمة بالحيوية، ومشيتها الرياضية المنضبطة، لم يتغير ذلك منذ أيام صباها، لم يتغير شيء، هذا هو جوها الذي يعرفه حتى لو أنه ليس قصير النظر فحسب بل أعمى وأصم أيضا.

توقفت الرعشة التي سيطرت عليه مجددا وهي تقترب وركز نظره عليها. وهو يهم بالنهوض بنصف قامته من المقعد. ونظرت له كذلك. وكانت على مقربة والتمع وجهها فجأة حين أصبح في نطاق بصره. وجه داكن قلق ثم دب فيه الانتباه قليلا. إنه متاكد أنها تعرفت عليه. حاول أن يتكلم وخرج صوته مكسورا يقول:

" ألا تتذكرينني؟".

بدأت تبتعد مسرعة، ثم انطلقت تعدو. حدق من ورائها دون أن يصدق نفسه. هناك أناس آخرون قادمون من المحطة الآن، وخرج رجل من نفق الأشجار واحتضنها. نظر كلاهما للخلف، وتهامسا. ثم سمع صوتها، وقد تركت السنوات بصمتها الطفيفة عليه، اخشوشن قليلا بالمقارنة مع حالته في لقائهما الأول. ابتعد عن المقعد وتريض بين الأشجار، ورأسه بين يديه. نظرت له، ويبدو أنها تعرفت عليه - ولكن لم تكن ترغب بذلك.

وحينما وصل للبيت مرة ثانية فهم ما لم يواجهه تماما حينما تقاعد لأول مرة، إنه بلا هدف يعيش من أجله. في الأسبوع المنصرم عاش على ذكراها، وعلى أمل العودة لها. بحث عن مسدسه، الأوتوماتيكي الصغير الذي لم يستعمله، وذخره وحرر صمام الأمان وتأمله. سيكتب لها رسالة يخبرها فيها ما فعل- وفي لحظة وصول رسالته يكون الأمر قد تم وانقضى- أو، الأفضل، أن يراها لمرة واحدة، ويضطرها لمقابلته وجها لوجه، ثم يفعل ما انتوى عليه.

في الأمسية التالية قاد سيارته إلى بيتها في أورورا رود. كانت الساعة تقريبا الخامسة والنصف، وستأتي في أية لحظة. جلس في السيارة، وهو يشعر بثقل المسدس في جيبه. حاليا وصل الرجل الذي لاقاها في اليوم السابق ، ولكنه اليوم وحده، ويسير على امتداد أورورا رود ثم ينعطف في شارع جانبي.

لقد تأخرت. غادر السيارة وابتعد وانطلق ليبحث عنها، لأنه لم يعد يقوى على الجلوس في موضعه، يؤلمه ذلك، ويتسبب له بالتوتر الممرض. وتابع تخيل وجهها وهي ترمقه، بنفور ثم بخوف.

قفز قطار آخر بين خصل الشجيرات والقبعات الحمر، وسمع صوته يدخل إلى المحطة. هل كان اللون الأخضر، الخضار المتنوع والمنبسط ناصعا وبراقا في الأمس كما هو اليوم؟. لقد هاجمت عينيه خضرة العشب وأوراق الدراق الجديدة والبراعم الكثيرة. ثم تخطى المقعد وتابع المشي، لأبعد مما اعتاد عليه، ووصل إلى بستان خيم عليه الظلام حيث الأشجار تتعانق بشكل قوس فوق الممشى. ثم همست قدماها على الرمال كاليمامة. فوقف جامدا، بانتظارها.

تباطأت حينما شاهدته وبعد ذلك تابعت مترددة، ورفعت إحدى يديها لوجهها. اتخذ خطوة نحوها، وقال:" من فضلك، من فضلك لا ترحلي. أود أن أتبادل معك الحديث من كل قلبي".

وضع اليوم نظارته، ولم يعد من فرصة لتخدعه عيناه. لا يمكن أن يخطئ بمعاني تعبير وجهها. كان مزيجا من البغض والخطأ. وفي هذه المرة لم تجد إمكانية للمتابعة في الطريق دون أن تسقط بين ذراعيه. لذلك التفتت بتردد نحو الخلف باتجاه الطريق الذي حضرت منه، وحين استدارت أطلق عليها النار.

بأول طلقة أرداها على الأرض. وهرع إلى البقعة التي سقطت عليها ولكن لم يتمكن من النظر إليها. وأصبح بوسعه أن يراها صغيرة جدا وبعيدة جدا من خلال ستارة الانتقام الحمراء.

كرر إطلاق النار، وفي النهاية ارتفعت يدها البيضاء، التي تخلو من خاتم الزواج، باعتباط لتدرأ الخطر عن وجهها وسقطت هامدة بأثر الموت.

كان المسدس فارغا. والدم الذي تدفق منها يصبغه. ولم يعبأ بذلك، ولم يهتم من رأى أو علم، ما دام قادرا على العودة للبيت وتذخير المسدس من أجله. استغرب قدرته على المشي، ولكن هذا ممكن وطبيعي كما يرى. لقد فقد أحاسيسه الآن، لم يعد لديه ألم أو خوف، واستقر تنفسه، مع أن قلبه لا زال يخفق. نظر نظرة عامة وسطحية وأخيرة للجثمان الذي سقط على الأرض، وابتعد عنه. خرج من نفق الأشجار، وأصبح في الممشى. صنعت الشمس طبقات رقيقة ناصعة من النور على العشب مع ظلال مدببة وطويلة. سار على طول أورورا رود نحو سيارته التي تقف أمام بيتها.

وهو يفتح قفل باب سيارته انفتح باب بيتها. وخرجت امرأة عجوز. وتعرف عليها. فهي واحدة من النساء اللواتي التقى بهن في زيارته الثانية، المرأة التي ارتدت المعطف الأحمر الداكن والقبعة. وجاءت للبوابة ونظرت من فوقها. ورمت نظراتها لليسار بقليل من الاضطراب، ثم تراجعت مع ابتسامة خفيفة له. شيء في نظرته دفعها للكلام، وإبداء دواعي التهذيب لهذا الغريب.

قالت:" أنتظر ابنتي. تأخرت اليوم قليلا. بالعادة تستقل أول قطار".

وضع يده المثلجة على لوح البوابة، ورأى ابتسامتها تغيب.

قال لها:" كاترين. كاترين..".

رفعت له عينيها المتسائلتين، كانتا زرقاوين بلون المكحلة التي ألقى بها بعيدا.


روث رينديل RUTH RENDELL كاتبة بريطانية. من مواليد عام ١٩٣٠. تكتب قصص التشويق والعقد النفسية. من أهم أعمالها: الحياة النائمة، الوحش في الصندوق، منذ الفجر مع الموت، عدوانية الغربان، وغيرها. هذه القصة من مجموعتها ( الصديقة الجديدة) الصادرة عام ١٩٨٥.











































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow