Alef Logo
دراسات
              

الواقع الافتراضيّ وتجلّياته في القصّة المحليّة القصيرة

د.إيمان يونس

خاص ألف

2015-01-11

تنطلق هذه الدراسة من الافتراض القائل بأن الأدب مرآة العصر، وبأن الأديب هو الضمير المعبّر عن أفكار شعبه وعن ثقافته وهواجسه وأحلامه، يعكس قضاياه ويعنى بشؤونه. وبما أن شبكة الإنترنت بما تتيحه من خدمات مختلفة في مجال الاتصالات عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي هيأت لبناء واقع جديد يعرف بالواقع الافتراضي، والذي قد أصبح بدوره من أهم سمات هذا العصر؛ كان لا بد للأدباء من الالتفات إليه والتعبير عنه معربين عن وجهات نظرهم تجاهه بما تنطوي عليه من مخاوف وتطلعات. وعليه، تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن مفهوم الواقع الافتراضيّ كما يتجلى في القصة القصيرة المحليّة، ورصد تصورات الكتّاب المحليين لمفهوم هذا الواقع ولطبيعة العلاقات الافتراضيّة داخله، ومن ثم صياغة رؤية مستقبلية تستشرف تجلي هذا الواقع وانعكاساته في الأدب مستقبلا. أما القصص القصيرة التي ستتمحور هذه الدراسة حولها، فهي على التوالي: "رحيل مناضل كبير" و "أبو تحرير الفيس بكي" للكاتب والصحافيّ سهيل كيوان، و"البطل الافتراضيّ" و "البطلة الافتراضيّة" للكاتبة عايدة نصرالله، و"حالة افتراضيّة وزقاق" للكاتب جودت عيد.

• تمهيد

أصبحت الإنترنت واقعًا ملموسًا في حياتنا اليومية بما تقدمه من خدمات اجتماعية، كمواقع التواصل الاجتماعي: "فيس بوك" و"توتر" ومواقع الدردشة وغيرها. وأصبحت هذه المواقع عالمًا قائمًا بحدّ ذاته، نلتقي فيه بأشخاص من بلاد وثقافات مختلفة، لا نعرفهم عن قرب في أغلب الأحيان، ولكنّا نتبادل معهم الحديث والمعلومات الشخصيّة، وأصبح لكل شخص تقريبًا سلسلة من الأصدقاء "الافتراضيين". وأتاحت هذه المواقع للناس الفرصة لبناء الكثير من العلاقات فيما بينهم في أطر مختلفة، منها العائلية ومنها في مجال العمل، أو بين ممارسي الهوايات المختلفة. بل وأصبح البعض يعتمدها لبناء علاقات رومانسيّة وللتعارف والزواج. وأصبحت الصلة الإلكترونيّة بين الناس بديلة عن الزيارات واللقاءات على أرض الواقع، كما أصبحت الاتجاهات السياسية تأخذها كمنبر رئيسيّ ومعتمد أول في التواصل بين أعضائها ونشر أفكارها، ولم تترك الحكومات مساحاتها على النت، فأخذت لها هي الأخرى مواقع لتتواصل مع المواطنين. باختصار، لقد أدت هذه المواقع إلى انتقال الإنسان من العيش في عالمه الواقعيّ إلى العيش في واقعه الافتراضيّ.

وعليه، فإن مصطلح "الواقع الافتراضيّ" (Virtual Reality)، والذي أصبح يشار إليه بالاختصار (VR)، يعتبر أحد المصطلحات التي جلبتها معها ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المتمثلة بتطور التقنيات في مجال الحاسوب وشبكة الإنترنت، ويقصد به ما ينطبق على محاكاة الحاسوب للبيئات التي يمكن محاكاتها مادياً في العالم الحقيقي (المعجم الشامل، 2001). ويعرف دافيد كريستال (David Crysral) الواقع الافتراضيّ في كتابه "اللغة والإنترنت" بقوله "إنه عبارة عن بيئات متخيلة يمكن للناس الدخول إليها للانخراط في تفاعل اجتماعي خيالي مبني على نص" (Crystal, 2005, p. 24).

ويعرفه جونثان ليزر Jonathan Layzer)) بأنه:

عبارة عن تجمعات تشكلت من خلال شبكة الإنترنت لا يقطن أعضاؤها في بوتقة جغرافية واحدة، ولكنهم

موزعون في أنحاء مختلفة ومنتشرة حول العالم، يجمع بين هذه التجمعات اهتمامات مشتركة ومختلفة وتتعدد أنماط

هذه التجمعات ما بين تجمعات تجاريّة وتجمعات طبيّة، وتتسع لتشمل أنماط متعددة أخرى" Layzer, 2000)

ويري برينير (EV. Brenner) أن مفهوم الواقع الافتراضيّ هو مفهوم مركب يشير إلى علاقات تظهر بين الأفراد الذين يتشاركون عبر الإنترنت مستغلين التقنيات الإلكترونيّة وأدواتها في تحقيق وتنفيذ مشاركات اجتماعيّة, pp. 67-68) 2000Brenner, ).

ويعد هاورد رينجولد (Haward Rhingold) من الأوائل الذين ساهموا في توجيه نظر العالم إلى دراسة "المجتمعات الافتراضيّة"، وقد جاء ذلك في كتابه "المجتمع الافتراضيّ" (, 1993 (Virtual Community، إذ يقول:

هذه الجماعات هي تجمعات اجتماعية تشكلت من أماكن متفرقة في أنحاء العالم يتقاربون ويتواصلون فيما بينهم

عبر شاشات الكمبيوتر والبريد الإلكتروني، يتبادلون المعارف فيما بينهم ويكونون صداقات، ويجمع بين هؤلاء الأفراد اهتمام مشترك، ويحدث بينهم ما يحدث في عالم الواقع من تفاعلات ولكن ليس عن قرب، إذ تتم هذه التفاعلات عن طريق آلية اتصالية هي الإنترنت التي بدورها ساهمت في حركات التشكل الافتراضيّة (1993Haward, ).


لقد هيأت مواقع التواصل الاجتماعي كما أسلفنا، على اختلافها وتنوعها، وباعتبارها وسائل اتصال شخصيّة وجماهيريّة، أرضيّة صلبة لتشييد هذا الواقع، وأدت إلى تطوير نوع خاص من العلاقات الاجتماعيّة في كنفه، تعرف بـ "العلاقات الافتراضيّة". وقد أصبحت هذه المواقع من أكثر وسائل التواصل الاجتماعيّ بين البشر، عملت على تغيير أنماط حياة الأفراد اليوميّة وعلاقاتهم الاجتماعية وطرائق تفكيرهم وثقافتهم، إلى درجة ذهب بعض الباحثين إلى تشبيه التغييرات التي أحدثتها هذه الوسائل بتلك التي أحدثها فيهم التلفون في مطلع القرن العشرين، والتلفزيون في مرحلة الخمسينات والستينات (Kraut, 1998). ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، إذ يعادلون بينها وبين التغييرات التي أحدثتها الحروف الهجائيّة في مسيرة المجتمع الإنسانيّ (Castells, 1996).

يرى علماء الاجتماع أن كل وسيلة اتصاليّة تمرّ بأربع مراحل قبل أن تستقرّ في المجتمع وتحظى بقبوله لها وبشرعيتها داخله. في المرحلة الأولى، ينظر المجتمع إلى الوسيلة باهتمام باعتبارها "لعبة" تثير الإعجاب، لكنّه لا يبدي موقفًا محدّدًا تجاهها. أما في المرحلة الثانية، فيتعمق اهتمام المجتمع بتلك الوسيلة، ويوجه الانتقادات إليها، ويثير التساؤلات والاستفسارات حول طبيعتها ومدى تأثيرها. وفي المرحلة الثالثة، تتجاوز تلك الوسيلة الانتقادات السابقة وتكتسب ثقة المجتمع بها لتطورها الفنيّ والتقنيّ، ومن ثم فهمه لها بشكل أعمق. وأخيرا تأتي المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الاعتراف بشرعيّة تلك الوسيلة، على الأقل لدى عدد كبير من الناس، بحيث تنغمس في المجتمع وتصبح جزءًا من ثقافته العامة، لا يستغني عنها (Gumpert & Cathcart, 1982).

يقودني هذا التمهيد حول مفهوم الواقع الافتراضيّ والعلاقات الافتراضيّة الناتجة عنه، إلى طرح جملة من التساؤلات: إلى أي مرحلة من المراحل الأربع المذكورة وصلت مواقع التواصل الاجتماعيّ في مجتمعنا العربيّ المحليّ بما تحمله من عوالم وعلاقات افتراضيّة؟ وما هي طبيعة وشكل هذه العلاقات؟ وكيف يتعامل الناس معها؟ وما مدى قبولهم لها؟.

لا شك أن جميع هذه التساؤلات قد شكلت- وما زالت - مادة جوهريّة لأبحاث مختلفة في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع، ولكن ما يعنيني هنا هو موقف الأدب من هذا، وكيف تعامل مع هذه الظواهر الاجتماعيّة؟ وكيف عبر أدباؤنا المحليون عنها؟ وهل يمكن القول بأن هاجس العولمة وما جلبته معها من سلوكيات وأنماط اجتماعيّة جديدة، أصبحت هاجس الأدب والأدباء أيضًا؟

بالطبع، لن أجيب عن هذه التساؤلات كما يجيب عنها علماء الاجتماع، ولن أتوسل أدواتهم، بل سأترك للأدب هذه المهمة باعتباره معبرًا عن حال المجتمعات، ومرآةً تعكس العصر، ولسانًا ينطق باسم الشعوب. فانعكاس مثل هذه القضايا في الأدب ليس بالأمر الغريب، بل هو ضروريّ وحيويّ، إذا ما نظرنا إلى الأدب من منظور التيار الواقعي. فالأديب مطالب بتفهّم الحياة وانخراطه فيها حتى يدرك دقائقها وتفصيلاتها، وهذا معناه أن يحتك بمشكلات عصره وقضاياه، فيجعل من قوة التعبير الفنيّ وسيلة في تنبيه النفوس وتوعيتها بواقعها ومصيرها (إسماعيل، 1967، ص 373). وبما أن شبكة الإنترنت بما جلبته من عوالم افتراضيّة أصبحت من أهم مظاهر العصر، كان لا بدّ للأدباء أن يلتفتوا إليها ويعكسوا تصوراتهم حولها، فدخلت إلى المتون الأدبية باختلاف أنواعها. لكن، ولضيق المجال، ستقتصر هذه الدراسة على إلقاء الضوء على الواقع الافتراضيّ وتجلياته في القصة القصيرة المحليّة فقط دون سائر الأجناس، وذلك من خلال معاينتنا لبعض النصوص.

• الواقع الافتراضي: حقيقة ذات قناع

"رحيل مناضل كبير" هو عنوان القصة الأولى التي سأعرض لها في هذه الدراسة، وهي من تأليف الكاتب والصحافي سهيل كيوان. تتحدث القصة عن وفاة رجل مسن كان قد فقد ذاكرته قبل عامين من وفاته. يتجمع أهل الفقيد في بيت العزاء لتقبل التعازي من حمائل القرية. يمر اليوم الأول عاديًّا، لكن في اليوم الثاني يشهد بيت الأجر تحولا غريبًا، إذ تدفقت أعداد هائلة من المعزين من مختلف البلاد وخارجها، ووصلت برقيات من خارج البلاد موقّعة من جهات وحركات سياسية ذات شأن لنعي الفقيد، ولم تعد قاعة المعزين تتسع لاستقبال الوفود القادمة، فتعج الشوارع وتضطر الشرطة إلى إقامة الحواجز وسدّ الطرق، ثم ترفع الأعلام على أعمدة الكهرباء، وتسمع شعارات راح يطلقها المعزون على المرحوم، مثل: "المناضل الكبير" و "المكافح العنيد ضد الاستعمار وأذنابه"، ويقترح أحد رؤساء الوفود إقامة حفل تأبين للفقيد. كل هذا أمام دهشة واستنكار ذوي الفقيد الذين أخذتهم الصدمة، وأصابهم الحرج، حتى تجرأ ابن الفقيد ووضح للوفود المعزيّة بأن هناك سوء تفاهم، فوالده لم يكن غير فلاح بسيط، وهو بعيد كل البعد عن تلك الصفات التي ينعتونه بها. وبعد نقاش طويل بين كلا الطرفين اتضح أن حفيد الفقيد هو من "روّج" لجدّه وجعل منه مناضلا كبيرًا وذلك على صفحات المواقع الاجتماعيّة، جاعلا منه بطلا افتراضيًّا اكتسب محبة وتأييد الجماهير من شتى أقطار الوطن العربي. وتنتهي القصة بردّ الحفيد على اتهامات والده وتهديداته له قائلا: "شو يعني...حرام يطلع من هالبلد واحد مناضل...أوف...شو بدو يصير يعني...بدها تخرب الدنيا...!!.

تلقي القصّة أعلاه الضوء على الكثير من خصائص العلاقات الافتراضيّة التي أفرزتها مواقع التواصل الاجتماعيّ كعوالم افتراضيّة، وتبين سبب إقبال الناس عليها، خاصة من أبناء الجيل الجديد. ويفسّر عالم الاجتماع التونسي حلمي ساري (2005) في كتابه "ثقافة الإنترنت" هذا الإقبال بقوله:

التواصل الافتراضيّ يتيح للأفراد تقديم أنفسهم للآخرين بحريّة كبيرة ودون قيود، وهذه الحريّة تعطيهم مجالا رحبًا

لتقديم أنفسهم للآخرين بأكثر من طريقة، وليلعبوا أكثر من دور، وليقوموا بعرض أكثر من جانب من جوانب

ذواتهم التي يصعب عليهم عرضها أو تقديمها في حالة الاتصال الوجاهي. بالإضافة إلى ذلك، فإن طبيعة الموقف

الاتصاليّ الافتراضيّ يتسم في كثير من الأحيان بالغموض، مما يجعل الفرد يشعر بحالة من اللاتعيين في

شخصيّتهAnoymous) )، وهذا يعني أنه شبه مجهول الهويّة بالنسبة للآخر، مما يدفعه إلى إبراز جوانب كثيرة

غير موجودة في شخصيّته الحقيقيّة، وكثيرا ما تكون هذه الجوانب المزعومة جوانب مثاليّة. هذا بالإضافة

إلى أن التواصل الافتراضيّ يتيح للفرد توسيع شبكة علاقاته مع الآخرين على المستوى المحليّ والإقليمي والدوليّ

بصرف النظر عن خلفياتهم السياسيّة والاقتصاديّة والعرقيّة والاجتماعيّة، وتسمح له بالقفز فوق الحدود الجغرافيّة التي

تفصل بينه وبين الآخرين، مما يتيح الفرصة أمام من يشتركون بأفكار متشابهة ومصالح مشتركة وهوايات معينة

وخلفيات سياسيّة وفنيّة متشابهة من الالتقاء والتواصل وتبادل وجهات النظر وخلق شبكة من العلاقات الإنسانيّة المشتركة (ساري، 2005، ص29-30).

ومن الجدير ذكره أن الآراء التي طرحها ساري تتفق إلى حدّ كبير مع النتائج التي توصّل إليها كل من خالد أبو عصبة ومحمد أبو نصرة في بحثهما حول أسباب ودوافع استخدام أبناء الشبيبة العرب للإنترنت في منطقة المثلث (أبو عصبة وأبو نصرة، 2012، ص126).

يبدو لنا جليًّا بأن الكاتب على دراية تامة بجميع هذه الخصائص، فقد عمل على إبرازها بشكل واضح في القصّة، وجعل من رد فعل الجماهير الغفيرة التي جاءت لتقديم التعازي برهانًا على قوّة هذه العوالم الافتراضيّة على الإقناع، واستقطاب رأي الجمهور، مما يثبت فعاليتها وتأثيرها خصوصًا فيما يتعلق ببث الأفكار والاتجاهات السياسيّة.

لكن هذه المزايا جميعًا، لم تمنع الكاتب من رؤية الوجه الآخر للعالم الافتراضيّ، أي الوجه السلبيّ. إذ يرى أنه يؤدي إلى خداع الآخرين الذين أصبحوا يعرفون بـ "ضحايا العلاقات الافتراضيّة". فقد سعى الحفيد إلى خلق شخصية افتراضيّة وهميّة مناضلة كي يحقق ولو افتراضيًّا حلمه بأن "يطلع من هالبلد واحد مناضل"، فلجأ إلى تزييف شخصيّة جده وتغطيتها بقناع يخفي ملامحها الحقيقية، وقدّمها إلى الجمهور بطريقة تثير إعجابه وتشبع تطلعاته، وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين:

"هناك العديد ممن لا يرون في البيئة التي يعيشونها في الواقع أي معنى، دعوهم يصبحون أبطالا في العالم الافتراضي، فهذا ما يفسّر سبب استغراقهم في هذا الأمر على ذلك النحو، ألسنا جميعا نفضل أن نكون أبطالا على أن نكون عمالا في أحد مطاعم الوجبات السريعة؟!" (فرغلي، 2008).

إن هذه الخاصيّة للواقع الافتراضيّ والتي تتيح للفرد إخفاء الشخصيّة الحقيقيّة وتقديم شخصيّة وهميّة مكانها، هي سلاح ذو حدين، فمن ناحية تمكّن الفرد من تحقيق أحلامه التي لا يستطيع تحقيقها على أرض الواقع، ما يعطيه بالطبع شعورًا ولو آنيًّا بتحقيق الذات، ومن ناحية أخرى تضلل الآخرين وتقدم لهم حقائق مغلوطة.

تشير نهاية القصّة إلى أن الكاتب ما زال ينظر إلى العوالم الافتراضيّة بعين الشك والريبة رغم مزاياها الكثيرة، لأنه جعل الجمهور يسقط ضحية "الحقائق المزيفة" التي تعج بها المواقع الافتراضيّة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه كان بالإمكان أن يبرز الجانب السلبي لهذه المواقع دون أن يجعله يطغى على الجانب الإيجابي فيه، وذلك بتمديده للأحداث، كأن يجعل الجماهير مثلا تصرّ على إقامة حفل التأبين رغم معرفتهم الحقيقة، وبذلك سيقف على كنه الشخصيّة الافتراضيّة، فما يميز هذه الشخصية عن نظيرتها الواقعيّة، هو بقاؤها رغم غياب الجسد، "فالموت في العالم الحقيقيّ يؤدي إلى نهاية عمل الجسد، واختفائه في القبر، بينما تعمل الهويّة كبديل للجسد في العالم الافتراضيّ، ما يشير إلى عامل نفسي يتمثل في إدراك الفرد وجود آخرين في الواقع الافتراضيّ يعملون على تفعيل الهويّات وضمان استمراريتها افتراضيًّا" (فرغلي، 2012). لكن انتهاء القصة على النحو الذي قدّمه كيوان يبين نيته بإلقاء الضوء على الجانب السلبي للواقع الافتراضيّ، متغاضيا عن إيجابياته، والرغبة في التأكيد على أن الحقائق التي يقدمها هذا الواقع هي حقائق ذات قناع، حقائق مزيفة، ومربكة ولا يمكن الوثوق بها في أي حال من الأحوال.


• الواقع الافتراضيّ وافتراض الواقع

"أبو تحرير الفيس بكّي"، هو عنوان القصّة الثانية التي سأتناولها في هذه الدراسة للكاتب نفسه. وفيها يتحدث كيوان عن رجل يقرّر أن يفتح لنفسه صفحة على "الفيس بوك" كي يلحق بركب الحضارة المتقدّمة، فلا يكون خارج السرب. ويقرّر هذا الرجل أن يستعير كنية "أبو تحرير الفيس بكّي"، ويختار لنفسه صورة لسماء مشتعلة بالفوسفور. ثم يبدأ الرجل بممارسة نشاطه على "الفيس بوك"، وتدهشه السرعة التي يتزايد بها عدد أصحابه ومعارفه الافتراضيين كل يوم، فيصف ذلك بقوله: "كل كبسة زر، تأتيك بصديق أو اثنين"، ناهيك عن آلاف التحيات، وباقات الورود، والشعارات، والإهداءات، والنكات ولقطات الفيديو المضحكة، التي تنهال عليه يوميا. وقد اعتاد هذا الرجل أن يبث على "حائطه" قبل النوم شعارًا ثوريًّا يتناسب مع كنيته. وهنا يعترف الكاتب على لسان الشخصيّة بإحدى مزايا هذه المواقع إذ يقول: "خلال أسابيع قليلة فاق عدد أصدقاء أبو تحرير الفيس بكّي، مئات أضعاف ما حققته صداقات العيش والملح"، وفي الوقت نفسه فهو يعي تماما أن هؤلاء الأصدقاء هم أصدقاء افتراضيون وهميون، فيقول: "صرت أقضي معظم أوقاتي مع أصدقائي الأشباح". ويتعرف "أبو تحرير الفيس بكّي" على امرأة اختارت لنفسها كنية "النجمة الزرقاء"، ووصف علاقته بها قائلا:

إحداهنّ أطلقت على نفسها اسم 'النجمة الزرقاء'، كانت لطيفة جدا، أعربت فورًا وبوضوح عن عشقها لي ورغبتها بي، تكاتبنا كثيرًا، وصار لعلاقتنا جذور وأغصان تقوى وتزداد متانة يوما بعد يوم! تحدّثنا في الشؤون العامّة، وبعدها في الخاصّة، ثم عن أعضاء جسدينا بأدق التفاصيل، وبين لحظة وأخرى تظهر على الشاشة صورة شفتين ترسمان قبلة انفجارية أو وردة متراقصة أو كائن يصفق أو أحرف 'ههههههههههههه' تعبيرًا عن استحسان طرفة أو نكتة أو بيت شعر!"

في المقطع أعلاه يضع الكاتب يده على طبيعة العلاقات العاطفية الافتراضية. وهو يذكرني بكتاب إلكتروني لـجون سولرز (John Sulers) بعنوان "سيكولوجية الفضاء الشبكي"، يقول فيه:

إن أحد أبرز الفوارق بين الاتصال الوجاهي IPR ( (In-person Relationوالاتصال الافتراضي عبر الشبكة CSR ( (Cyperspace Relationهو حضور الحواس الخمس في الأول وغيابها في الثاني، مما يدفع الطرفين في حالة التواصل الافتراضي إلى تعويض هذا الغياب باستخدام رموز وأيقونات وأشكال تعبيريّة تُظهر انفعالاتهم وتعبر عن ردود فعلهم. ولذلك فإن التواصل الافتراضي يظل ناقصًا، فعلى الأغلب لا يمكن للطرفين أن يلتقيا فيزيائيا، وبالتالي لا يمكن أن يتبادلا القبل أو العناق، أو يستمتعا بشم عطر أو وردة، أو حتى المشي معا في الشارع، ولذلك فإن التكنولوجيا تظل عاجزة عن تعويض الحواس الخمس مهما تطورت (john, 2012).

أضف إلى ذلك، فإن هذا النوع من العلاقات العاطفيّة قد تكون أصلا كاذبة، فها هو "أبو تحرير الفيس بكّي" يقول: "كل هذا وأنا لا أعرف شكلها الحقيقيّ، ولا سنّها، بل شككت أحيانا أنها ذكر يتلاعب بمشاعري وليس أنثى". وبهذا يضعنا الكاتب أمام حقيقة أخرى تتعلق بطبيعة هذه العلاقات، إذ يجب أن تؤخذ دائما بحمل الشك، ففي العالم الافتراضي "كل شيء ممكن".

والغريب في الأمر أن الشباب والشابات يقبلون على هذه العلاقات إلى درجة الإدمان رغم معرفتهم بزيفها وبعدم جدواها. ويعلل حلمي ساري هذا الإقبال بقوله:

إن سبب إقبال شبابنا على هذه العلاقات يعود إلى المجتمعات العربيّة التي تحدّ ثقافتها وتقاليدها

الاجتماعيّة من التفاعل المباشر بين الجنسين، أو تلك التي يعمل نظامها الاجتماعيّ والثقافيّ على إغلاق

قنوات الاتصال الوجاهي المباشرة وسدّها بين الأفراد، مما يعزز إقبالهم على المواقع الافتراضيّة كوسيلة

تعويضية غير مباشرة (ساري، 2005، ص 34).

ولعل هذا ما يفسر حرص "أبو تحرير الفيس بكّي" على إبقاء صداقته مع "النجمة الزرقاء" في البداية رغم شكّه بها. ويتابع الكاتب وصفه لطبيعة العلاقة الافتراضيّة بين الطرفين فيقول:

"نتبادل الموسيقى والطعام والشراب ثم النصائح للتخلص من الوزن الزائد وتطوير القدرات الجنسيّة بل تفجيرها واتقاء 'الألتسهايمر' وتسوّس الأسنان وهشاشة العظام وقضايا الحب ومثليي الجنس، وكل هذا يأتي باتفاق كلينا على الإيمان بإله واحد! ورغم كل هذه العلاقة، فما أن أتفوه بكلمة واحدة عن أنهار الدماء التي تغمر الأرض ظلمًا وجرائم الحرب التي ترتكب ضد الإنسانيّة من حولنا حتى تصمت فورًا وتغلق نافذة المحادثة وينطفئ عني (فيسها)! وعندما أستفسر في اللقاء التالي! تقول إن الكلام عن جرائم الحرب لا يضيف شيئًا للعلاقات الإنسانية العميقة بيننا، بل يعقدها، واتضح أنها لا تتفق معي في كثير من وجهات النظر والمسميات، فما أسميه نضالا تحرريّا تسميه إرهابا، وما أسميه جرائم حرب تسميه دفاعا عن النفس، ومن أعتقده بطلاً ورمزًا تقول إنه خنزير قذر أو كلب ابن كلب! ولهذا فهي ترفض الخوض في السياسة وتركّز على الجسد وحاجاته مع غطاء روحيّ ضعيف".

مرّة أخرى يضعنا الكاتب (في المقطع أعلاه) أمام خاصتين متناقضتين للعوالم الافتراضيّة، فالعلاقات الافتراضيّة التي تنجم عن هذه العوالم وخاصة "الفيس بوك" تعمل على انفتاح الفرد وتعدّد هوياته، بدلا من انغلاقه على نفسه. فها هو "أبو تحرير الفيس بكّي" يتبادل وحبيبته وجهات نظر مختلفة في موضوعات وقضايا عامة. ما يؤكد ادعاء فرغلي بأن الفيس بوك يضم بالفعل العديد من الاختلافات الفئوية حيث يجمع أشخاصًا يختلفون في الأعمار، والطبقة، والمستوى الاجتماعي، واللغة، والجنسية، والوظائف، بل وحتى الاختلاف على مستوى القيم، ويجمع أكثر من شخص له هويّة مختلفة، لكنه يخلق الحوار بين تلك الهويّات ويحاول أن يجد كل منها مساحات المشترك أكثر من مساحات الاختلاف (فرغلي، 2011). ويضيف فرغلي في مقالة أخرى قائلا:

"إن هناك في جذر فلسفة الوجود الافتراضيّ لكل صاحب صفحة على الفيس بوك عوامل تؤكد له يوميًّا مدى التنوّع والتعدّد الذي يعيشه عبر الكثير من الاختيارات التي يختار من بينها، وعبر ما يوّثقه من تفضيلات، وما ينضم إليه من مجموعات تتباين فئاتها. مما يجب أن ينبهه إلى تعدد هويّاته، فقد يكون محاسبًا، محبًّا لموسيقى الجاز أو الروك، أو الموسيقى العربيّة، نباتيًّا، أو مغرمًا باللحوم، متضامنًا مع حقوق الإفريقيين، وقد يكون طبيعيًّا في علاقاته العاطفيّة، لكنّه مدافع عن حقوق المثليين مثلا، وفي هذا كلّه نرى كيف تتعدد الهويّة وينكشف تنوعها، وهو ما يجب أن يلتفت إليه البشر باستمرار بغية التخلّص من وهم واحديّة الهويّة التي تغرق العالم اليوم في أتون «صناعة الكراهيّة» والفتنة والقتال، أو الدّعوة إليه وغير ذلك من أشكال العنف" (فرغلي، 2010).

من جهة أخرى يبرز كيوان الوجه النقيض لهذه الفرضية، أو لهذه الميزة، فبقدر ما يعمل الواقع الافتراضيّ على الجمع بين هويّات مختلفة ومتباينة، بقدر ما نجد في المقابل فئات افتراضيّة تحاول أن تستقطب إليها من هم متقاربين وإيّاها في وجهات النظر، ولهم نفس التوجهات الإثنية والسياسيّة والدينيّة. وقد تمثل هذا الجانب في موقف "النجمة" الزرقاء التي شنّت هجومًا عنيفًا ونقدًا لاذعا على "أبو تحرير الفيس بكّي" لأنه وقّع مع مجموعة تطالب بمحاكمة مجرمي الحرب، فاكتشفت عمق الفجوة بين آرائهما السياسيّة. فما كان منها إلا أن "ألغت" وجوده من عالمها بكبسة زر. وهذه إشارة أخرى إلى حقيقة "العالم الافتراضي"، فهو أوهى من بيت العنكبوت، يشيّد بكبسة زر، ويمحى عن بكرة أبيه بأخرى.

بالرغم من هذه الخاصيّة السلبيّة للمواقع الافتراضيّة، إلا أن الدراسات تشير إلى أن المواقع التي تهدف إلى استقطاب مجموعات محدّدة دون غيرها، بحسب انتماءات طائفيّة وعرقيّة، قليلة بالنسبة إلى المواقع الافتراضيّة التي تقوم على التعدديّة. فعلى سبيل المثال، فإن هناك بعض المجموعات الاجتماعيّة الافتراضية، التي تنشأ على الفيس بوك والتي تبدو في نشأتها مجرد تنفيس عن رغبات في تأكيد شعبية الهويّة التي تنتمي إليها مجموعة معينة، ومن بينها مثلا المجموعات التي ترفع اسم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، أو التي ترفع اسم السيد المسيح، أو السيدة مريم، فقد لا يزيد عدد المشتركين الذين يعبرون عن موافقتهم الضمنية على هذا الانتماء الذي ترمز له المجموعة أو «الجماعة الافتراضيّة» على مليونين أو ثلاثة ملايين. بينما سنجد أن عدد المستخدمين من أنصار فريق مثل ريال مدريد الإسباني يفوق خمسة ملايين شخص، بينما يصل عدد المستخدمين لشبكة «الفيس بوك» من محبي لاعب كرة مثل كريستيانو رونالدو إلى 15 مليون شخص تقريبًا (فرغلي، 2011).

وأخيرا، فلعل أهم ما في هذه القصة هو النهاية التي وصل إليها "أبو تحرير الفيس بكي"، هذه النهاية التي تبيّن مدى تعلق الأفراد بالواقع الافتراضيّ، وإلى أي مدى يعزلهم هذا الواقع عن واقعهم الحقيقيّ ويؤثّر فيه. ففي نهاية القصة يقول الكاتب على لسان "أبو تحرير الفيس بكّي":

... ولكنها بعد أيام بدأت تنتقم بشراسة لم أتوقعها، أنشأت رابطة (أنصار النجمة الزرقاء) وأشعلت حربًا شعواء ضد "أبو تحرير الفيس بكّي"! خلال أيام ألغى صداقتي عدد كبير من أعز أصدقائي (الفيس بكيين) من مختلف الأصقاع، والأخطر أنه صار يدخل إلى خط رسائلي أثناء المحادثات قراصنة يتجسسون على محادثاتي، وصارت تصل للبعض رسائل بذيئة باسمي ومن ( فيسي) مشوّهة سمعتي.

تعقدت الأمور وصارت تصل احتجاجات كثيرة ومطالبات بعزل ومقاطعة وفرض عقوبات على "أبو تحرير الفيس بُكّي" وحتى محاكمته لتواطئه مع الإرهاب، والحقيقة لم أتصور أن يكون للنجمة الزرقاء كل هذا التأثير والهيمنة.. صار قراصنتها يعبثون بمحتويات حاسوبي كما يشاؤون، كشفوا شخصيتي الحقيقيّة وأرسلوا صوري مشوّهة وعارية وبوضعيات مخجلة، ثم بدأوا ببث مراسلاتي السابقة مع "النجمة الزرقاء" التي كان جميعها مسجلاً، وخصوصاً (الإنطيمية) منها، وبدأوا بابتزاز المواقف مني! أسرعت بإرسال الاعتذارات للنجمة الزرقاء مع باقات زهور، وسحبت توقيعي من المجموعة المطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب، بل رحت أهاجم المجموعة بوصفها غير عملية.... المقدسات والأسرى والحصار والجوع والبطالة والمجازر وفقر الدم وسوء التغذية والمستوطنات ومصادرة المياه والأراضي ....هي أمور افتراضية من اختراع أسلاك الحواسيب الدقيقة....كل شيء زائف...لا شيء حقيقيًّا في هذا الكون سوى فوسفور الأعداء وأشلاء الأطفال الشهداء..."

وهكذا، يبيّن المقطع أعلاه مدى تأثير العلاقات الافتراضيّة والعالم الافتراضي على حياة الإنسان في الواقع. فها هو "أبو تحرير الفيس بكي" يخسر صداقاته ويتعرض للكثير من الفضائح والإهانة والسخرية والابتزاز، لدرجة أنه بات مستعدًا للتراجع عن أفكاره ومبادئه وخيانة أصدقائه، ليستعيد مكانته الافتراضيّة، ويحظى بعفو "الشخصيات الافتراضيّة" ويسترجع من جديد "عالمه الافتراضيّ" الذي انهار فوق رأسه بين ليلة وضحاها. يؤكد الكاتب بذلك أن العالم الافتراضي يمتلك قدرة على التأثير في حياة الأفراد على أرض الواقع لدرجة يصبح فيها العالم الواقعي افتراضيّا، والعالم الافتراضيّ واقعيًّا. وعن هذا الموضوع تحدث حسين راشد رئيس الاتحاد العربي للإعلام الإلكتروني في مقالة له جاء فيها "إن ما سمي العالم الافتراضي من وقت قريب أصبح هو الواقع الأكيد...إن أدوات العصر الرقمي لم تعد كسالف عهدها الافتراضيّ، بل تحولت إلى واقع لا مفرّ منه إلا بقطع هذه الشبكة (راشد، 2012). وهذا يعني أن الواقع الافتراضيّ يمكن أن يكون أقوى من الواقع المعايش في تأثيره على الأفراد، إذ يستطيع أن يلغي الأخير ويحلّ محلّه، وقد يؤثر على الأفراد إلى درجة تجعلهم يلجؤون إليه طوعًا أو كراهية، بعد زعزعة قيمهم ومبادئهم حول كل ما هو واقعيّ، كما حصل مع "أبو تحرير الفيس بكّي" الذي بات يشك في كل ما آمن به وتربى عليه من قيم وعادات ومعتقدات، ليؤثر في النهاية العالم الافتراضيّ على العالم الواقعيّ. وهذا الموضوع يفتح بابًا واسعًا لنقاش فكرة "المواطنة الافتراضية" التي تعبر عن انتماء افتراضيّ ذي طابع كوكبيّ، فيصبح جميع البشر مواطنين متساويين في دولة افتراضية قائمة على قيم ومبادئ كونية. لكني أفضل الخوض في هذا الموضوع في دراسة أخرى، لأنه سيحيد بي عن الموضوع الرئيس لهذه الدراسة.


• الواقع الافتراضيّ والجنسويّة

سنعرض الآن إلى جانب آخر من جوانب الواقع الافتراضيّ، وهو ما يتعلق بموضوع الجنسويّة وانعكاسها في العلاقات الافتراضيّة بين الذكور والإناث عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

هناك تشابه كبير بين مفهوم العنصريّة والجنسويّة. ففي حين تنطوي العنصريّة على الصفات التمييزيّة في المواقف والتصرفات والأدوار في المجتمع ضد مجموعة عرقيّة أو إثنيّة معيّنة من البشر، تنطوي الجنسويّة على ممارسة أنواع مختلفة من التمييز المعتمد على نوع الجنس. وعليه فالجنسويّة هي التمييز بين الذكورة والأنوثة على أساس "الجنس". وتفرز الجنسويّة أشكالا مختلفة من الأعمال المميزة على أساس الجنس أو النوع. فالتصرف الذي يحقّر ويستثني ويقلّل من شأن الأفراد الذين ينتمون لمجموعة جنسيّة معيّنة (ذكورا أو إناثا) ويصنف أدوار الأشخاص في المجتمع تبعًا لجنسهم، هو تصرف جنسويّ.

وتظهر الجنسويّة من خلال الموقف الظاهر المتخذ، والسلوك الشخصي الذي يعبّر عن قناعة شخصيّة، كما وتكون أحيانًا خفيّة وغير معلنة، لكنّها أيضًا تعبّر عن مواقف وقناعات أصحابها. من هنا فالجنسويّة هي سلوكيات وممارسات ومعتقدات تميّز جنسًا عن آخر وتقولبه في إطار محدد، أي أن الجنسويّة تتعامل مع الرجل أو المرأة بشكل نمطيّ (اسبنيولي والظاهر، 2010، ص 18-16).

وعليه، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل تبنى العلاقات الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي على أسس "جنسويّة " كما هو الحال في أرض الواقع؟ أم أن العالم الافتراضيّ يستطيع أن يخلّص أفراده من القوالب النمطيّة السائدة في المجتمعات؟

للإجابة عن هذا السؤال، أعود مرة أخرى إلى الأدب. وسيكون التركيز هنا على قصّتين للكاتبة عايدة نصرالله. القصة الأولى بعنوان "البطل الافتراضيّ"، والثانية بعنوان "البطلة الافتراضيّة".

في "البطل الافتراضيّ" تتحدث الكاتبة عن رجل متزوّج تضيق به الحياة في أرض الواقع فيقرر أن يبني لنفسه وطنًا جديدًا يشكّله على هواه، فيلجأ إلى الإنترنت، يبني وطنًا افتراضيًّا يسميه "الوطن الحلم" وفي هذا إشارة من قبل الكاتبة إلى الدور "المثاليّ" الذي يتوقعه الكثيرون من العالم الافتراضيّ، إذ يلجأ إليه البعض أملا أن يجد فيه ما يصبو إليه، وما لا يجده على أرض الواقع. فيتحول العالم الافتراضيّ بالنسبة إلى هؤلاء إلى العالم الأمثل، ففيه يمكنهم أن يتحكموا بحياتههم بحرية وبدون املاءات خارجيّة. يقول البطل الافتراضيّ: "هذا هو وطني، وأنا حر طليق فيه. تماما كما شئت دائما. لا أحد يسألني. أنا فقط الذي أسأل. أنا فقط الذي أقول".

ولكن ما الذي يبحث عنه هذا الرجل في عالمه الافتراضيّ؟ إنه يبحث عن متنفس لرغباته وشهواته الجنسيّة، فهو يستغل انشغال زوجته وأولاده ليتجول في عالمه الافتراضيّ من خلال نافذته الزجاجيّة، وهناك يلتقي بعشرات النساء اللواتي يخدعهنّ بكلامه المعسول، يختاره بعناية بناء على ثقافته الجنسويّة، إذ يقول عبارات مثل: "أعرف النساء من خبرتي، يجرهنّ الحنان أولا"، "المرأة تجرها العاطفة"، "أعرف أن المرأة تحب أن تكون خاصّة"......

يرى أندريه مايكل (Andree Michel) بأن الجنسويّة تتطلب أشكالا مختلفة من الأعمال والأقوال المميّزة على أساس الجنس أو النوع، ويمكن للمرء أن يقال عنه نوعيّ أو "جنسويّ" تبعًا لطريقة تفكيره وطرائق تصرفاته التي تعتمد على مفهوم الجنسويّة المغروس في نفسه، وبهذا يصبح "منمِطا جنسويّا". فالرجل المنمِط جنسويّا مثلا، يعمل وفقًا لمنطق متزمّت مزدوج المعيار، فمن جهة يكوّن تصورًا خاطئًا عن خصائص النساء، وفي المقابل ينكر وجود مواطن ضعف عند الرجل (كنجي، 2000).

إذا، فبطلنا الافتراضي هو "منمط جنسويّ" بالدرجة الأولى، إنه يتعامل مع عشرات النساء في آن واحد، مستغلا ما يراه نقاط ضعف عند المرأة، كالحنان، والعطف، والرقّة، فيكذب عليهنّ جميعّا، ويخدعهنّ، ويوهم كلا منهنّ بأنها حبيبته الوحيدة، ولا توجد في حياته إلاها. ويقول في النهاية:

"لا تسألوني لماذا أفعل ذلك. إنها غوايتي. تماما كالقصيدة. فكل امرأة هي ومضة قصيدة، ولا أريدها أكثر من ومضة قصيدة". وهنا تضعنا الكاتبة أمام التفكير الذكوري الجنسوي الذي ينظر إلى المرأة كـ"جسد" ولا يرى فيها غير ذلك. فالبطل الافتراضي يعبث مع جميع النساء للحصول على متعة جنسية، وهو لا يهتم بتطوير علاقته معهن باتجاهات أخرى، والأسوأ من ذلك أنه يتخلى عن الواحدة منهن حالما يصل معها إلى مبتغاه، فيقول: "هنا تبدأ الأنهار بالسيل وأرتوي. بعد الارتواء لا يكون علي إلا التفكير بالتخلص لأني ملول، ولا أحب الحرث في أرض واحدة. كم أنا ملول. وأحب أن أذوق من كل نهر رشفة"....ويتابع:

"وطبعا ما دامت كشفت لي كل حياتها. يصبح مريحا أن استعمل الأسماء والأحداث ضدها. وتبدأ مرحلة انهزامها والهروب الذي خططتُ له .. وانجح. طبعا في هذه الأثناء يكون عندي قائمة أسماء أخرى لنساء قد اتسلى معهن عبر الشاشة".

إن موضوع "الجنسويّة" في هذه القصة يحيلنا إلى موضوع آخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع الافتراضيّ، وهو ما يتعلق بالخيانة الزوجيّة. لقد فتح العالم الافتراضيّ الباب على مصراعيه أمام الخيانات الزوجيّة والتي تعود أسبابها إلى الفراغ النفسي والذهني والفتور والرتابة التي يعاني منها قسم كبير من المتزوجين. ويبدو أن الكاتبة واعية تمامًا لوجود هذه الظاهرة ولأسبابها، فها هو البطل الافتراضي يكشف منذ بداية القصة عن شعوره فيقول: "وطني ضاق بي حتى أصبح أضيق من رأس قدم نملة. عفته وعفت الحلم فيه"!!

لقد أثبتت نتائج الأبحاث والدراسات أن الشباب العرب يعانون من فراغ كبير في حياتهم، ويعوزهم الكثير من المرافق العامة التي قد يجدون فيها ما يسليهم، ويروح عن أنفسهم، ويزجون فيها أوقات فراغهم. لذا وجدوا في هذه الوسيلة الاتصاليّة كل ما يغنيهم عن ذلك؛ إذ بلغت نسبة الشباب ممن استخدموها لهذه الغاية (73.7%)؛ مما يدل على مدى اعتمادهم عليها وحاجتهم إليها في إشباع هذه الحاجات النفسية. واللافت للنظر أن الفراغ والملل هو حالة عامة ومنتشرة بين جميع الفئات العمريّة والمستويات التعليميّة، وكذلك بين الجنسين بصرف النظر عن حالاتهم الاجتماعية، فالمتزوجون يعانون من ملل وفراغ مثلما يعاني غير المتزوجين، ولولا وجود مواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة ترفيه في حياتهم، لكانوا قد شعروا باختناق قاتل وسأم مخيف (ساري، 2005، ص 224).

وعليه، فقد بيّنت الكاتبة أن الملل والفتور والفراغ النفسي هي بالعل العوامل الرئيسية التي تقف وراء لجوء المتزوجين إلى العالم الافتراضيّ، وبناء علاقات عاطفية جديدة فيه. لكن هذه العلاقات تظل مرهونة بما يمتلكه الرجل الشرقي من معتقدات وأفكار مسبقة حول المرأة تحدد شكل وطبيعة علاقته بها، وهي معتقدات وأفكار قائمة على أسس جنسويّة صرفة.

وتتجلى هذه القضية بشكل أشدّ حدة في القصة التالية لعايدة نصر الله، والتي تحمل عنوان "البطلة الافتراضية". وفيها تتحدث الكاتبة عن بطلتها التي قررت أن تشنّ الحرب على "الذكورية" الرجعيّة المتخلّفة، تلك الذكورية التي تأبى أن ترى فيها غير صورة الجسد. فبطلتها هذه أديبة لم تنل ما تستحقّه من تقدير أدبيّ من قبل الكتاب والنقّاد، فقررت أن تأخذ حظها من التقدير عنوة، وذلك باستغلالها لنقاط الضعف لدى هؤلاء "الذكور"، فتقول: "سأريهم هؤلاء الرجال كيف أستطيع شد رموشهم وسحب خفق قلوبهم من قعرها، سأثبت لهم ضيق آفاقهم أولئك الذين لا يرونني، أنا صاحبة النص"!!

وتعمد هذه البطلة إلى إدراج صورة مزيفة لها، ترفقها بجميع نصوصها. فتختار صورة لامرأة جميلة جدًا ذات ملامح شرقية، سمراء البشرة بعيون عسلية. وما تكاد ترفق هذه الصورة مع أول نص حتى تتوالى عليها التعليقات وتعقيبات النقّاد معربين عن تقديرهم الشديد وعن مدى إعجابهم بالنص.

لقد أشارت الكاتبة بهذا إلى وعي المرأة العربية بذهنيّة الرجل الشرقي، وبطريقة تفكيره، وإلى الظلم الذي يلحق بها نتيجة لهذه الذهنيّة التي عانت منها لسنوات طويلة ولا زالت، فتصف ذلك بقولها: "من قاع سخطها وحزنها المخزون دهورا ..".

لم تحظ البطلة الافتراضيّة بتقدير النقاد فحسب، بل حظيت بقصيدة غزل من كل "ذكر" قرأ نصوصها. وعندما شعرت بالاكتفاء "النقدي" تجاه نصوصها التي أقرّ النقّاد أخيرًا بقيمتها الأدبية لإعجابهم بصورة الأديبة نفسها، قرّرت أن تفضحهم وتعلن الحقيقة: "عليك الظهور الآن. فقد اعترفوا بنصوصك. قالوا بك ما لا يقال بامرأة من قبلك. كسبت المواقع والقصائد، برهنتِ لهم رعونتهم، وبؤس حالهم. وبأن ثقافتهم بين أرجلهم".

وبالفعل، ترسل البطلة صورتها الحقيقيّة "البشعة" إلى أولئك الرجال، معلنة بكل ثقة تمردها على هذه النظرة الجنسويّة المهينة، ورفضها لها وسخطها تجاهها لأنها تعرف أنها تستحق أن تقدر لذاتها لا لجسدها: "لا أحد بإمكانه أن يلعب معي بعد اليوم، ها أنا ألاقيكم بلا قناع. سوداء ذات قلب أبيض، ونص يجنح في السماء التاسعة".

لقد وضعتنا الكاتبة من خلال هاتين القصتين أمام قضية هامّة جديرة بالتفكير والتأمل. فقد أظهرت أن العالم الافتراضي لا يختلف عن العالم الواقعي فيما يتعلق بالجنسويّة، فالتواصل الافتراضي بين الذكور والإناث يقوم على أفكار مسبقة ومعتقدات تتعلق بالجنس البيولوجي، بينما كان من المتوقع أن يلغي العالم الافتراضيّ مثل هذه الأفكار وأن يتعامل مع الجميع من منظور آخر، دون تمييز جنسويّ، فمن بين الفرضيات التي طرحها جون سولرز حول طبيعة العلاقات الافتراضيّة وأشكالها، هو غياب الجنسويّة عن العلاقات بين الجنسين. إذ يفترض سولرز أن الاتصال الافتراضي يجعل جميع الأفراد متساوين، ويقيّمون بحسب معيار واحد هو "النص"، أي بحسب ما يكتبونه فقط، بدون أي تأثير لاعتبارات أخرى. ويوضح الفكرة قائلا:

في حالة الاتصال الوجاهي فإن الأشخاص يقيّمون من قبل بعضهم البعض بحسب التأثير الكيميائي الناتج عن هذا الاتصال، خاصة عندما يكون هذا الاتصال بين ذكر وأنثى. ولكن هذا التأثير غير موجود في الاتصال الافتراضي، ولذلك فإن الحكم على الآخر يبنى بحسب نصه وما يتضمنه من أفكار وآراء يرفضها أو يقبلها الطرف الآخر (John, 2012).

يبدو أن فرضية سولرز لم تخرج عن كونها فرضية، لأن الواقع يظهر عكس ذلك. فالأشخاص يقبلون على العالم الافتراضيّ محمّلين بثقافة معينة تحدد شكل علاقاتهم في هذا العالم والتي لا تختلف عن نظيرتها في العالم الواقعيّ.


• الواقع الافتراضيّ بين القطيعة والتواصل

رأينا حتى الآن، أن ثورة الاتصالات التي أحدثتها الإنترنت والشبكات الاجتماعيّة على نحو خاص، تستدعي العديد من الأفكار للتأمل فيما أحدثته هذه الثورة من تغيير وتثوير في طبيعة العلاقات البشريّة. ومن بين الأفكار اللافتة للنظر في هذا الصدد، فكرة التناقض اللافت في حالة التواصل الاجتماعي التي تحدث بين الأشخاص افتراضيًّا على حساب التواصل الشخصيّ القائم بين شخصين متجاورين لا يتحدث أي منهما مع الآخر بينما يجري بينهما وبين أشخاص عديدين في مناطق بعيدة تعليقات ومناقشات وحوارات كثيرة.

إن هذا التناقض الكبير بين معدّل التطورات الهائلة والمتزايدة يومًا بعد يوم في مجال وسائل الاتصال وبين ما يصحبها من تزايد مطرد في معدل القطيعة بين أكثر الأشخاص قربا، مثير للجدل والتفكير. لقد شكل هذا الموضوع المحور الرئيس في قصة "حالة افتراضية وزقاق" للكاتب جودت عيد، وهي القصة الأخيرة التي سأعرض لها في هذه المقالة.

تتحدث القصة عن شابة تعمل في مكتب شركة للحسابات. وقد اعتادت هذه الشابة أن تعود كل يوم من عملها في الساعة الخامسة مساء، فتوقف سيارتها في ذات المكان، ثم تذهب إلى بيتها الصغير عبر زقاق ضيق اعتادت أن تعبره مشيًا على الأقدام. وأثناء مرورها كانت تصطدم بالأطفال، بعضهم يلعبون بالكرة والبعض يلعبون لعبة "الحجة"، وآخرون يجوبون الزقاق ذهابًا وإيابًا بدراجاتهم. وكثيرًا ما كانت تتضايق من هؤلاء الأطفال لما يثيره لعبهم من ضجة ولغو وصياح. ومع مرور الأيام بدأت الشابة تلاحظ أن الزقاق لم يعد كسابق عهده، فأصبح أكثر هدوءًا، واختفت منه ملامح الحياة الصاخبة التي اعتادتها. ويصف الكاتب ذلك بقوله:

" لم تعد تسمع أغنية كان يرددها الأطفال الذين يتراكضون في الزقاق حين كانوا يلعبون، وكانت قد حفظتها عن ظهر قلب: "طاق طاق طاقية طاقيتين بعليِّة ورن رن يا جرس حوّل واطلع عل الفرس" وعلى قدر ما كان يزعجها هذا الكَمّ من الأجسام الصغيرة والمزعجة التي تتراكض حولها، على قدر ما تشتاق لأن تسمع هذه "الأهازيج" التي تبشِّرها بأنها قد وصلت إلى ملاذها فتشعر بالراحة".

وهكذا فإن أطفال الحي الواحد، أبناء الجيران، لم تعد الألعاب ولا الأغاني الشعبية تجمعهم كما كانت تجمعهم من قبل، لأنهم وجدوا لأنفسهم بديلا يغنيهم عنها، بديلا يجدون فيه ما لم يحلموا به أبدا:

"لقد اختفى الأطفال خلف عالمهم الجديد الذي زارَهم منذ سنوات وابتلعهم من الشارع ومن دنياهم ومن ناسهم ومن ألعابهم وذهبوا في رحلة تطول وتطول ولا تنتهي ليكتشفوا فيها عالما مثيرا وتحدّيا جديدا كل يوم، ولم يعد لديهم أي متَّسع لِما يجري في الزقاق أو ما يجري مع ناس الزقاق، لقد صار لديهم ملاعبَ افتراضية وساحات فسيحة ومساحات من الانطلاق والغضب والفرح والتسلية والاندفاع وصار عالمهم ينحصر بكف اليد! يزاولون فيه كل ما يمكن وكل ما لا يمكن والاحتمالات لا تنتهي... فالعالم كله بين أصابعهم ليحتفلوا باكتشاف لا ينتهي للذات وللذات الأخرى... لقد دخلوا بيوتَهم المحاذية للزقاق وتركوا صيحاتهم كالأشباح التائهة في فضاء المكان، شيَّدوا برجًا ضخمًا من عالم مثير في قبضة اليد بصمت كبير يهز سكون الزقاق وسكانه...".

يؤكد الكاتب من خلال القصة أعلاه أن الواقع الافتراضيّ يسهم في سحب الناس من مجتمعاتهم ليصبحوا أقل ارتباطًا بها وبالأفراد داخلها، مما يثير القلق حول مستقبل الانتماء إلى المجتمع الحقيقي.

يؤكد بعض علماء الاجتماع أن رواد الواقع الافتراضيّ ما زالوا يتأرجحون بين القطيعة تارة والتواصل تارة أخرى. إن المتأمل في حقيقة التجمعات الافتراضيّة على تشكلاتها المختلفة، يدرك أن العلاقات ضمنها والانخراط المستمر فيها؛ يؤدي إلى القطيعة على المستوي الاجتماعي، فهذه العلاقات الافتراضيّة تؤدي إلى انقطاع العلاقة مع الأصدقاء، وجار السكن، بل ومع الأسرة أحيانا. وتستهلك وقت الفرد في



























































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الواقع الافتراضيّ وتجلّياته في القصّة المحليّة القصيرة

11-كانون الثاني-2015

قراءة في مجموعة "حفنات" للكاتبة عايدة نصرالله

29-أيار-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow