Alef Logo
ضفـاف
              

في قواعد الفن

خضر محجز

خاص ألف

2015-02-28

الفنون العظيمة هي التي تبدهنا بما لا نتوقع، وتفاجئنا بما لم نتعود. وبما أنه من الصعب علينا أن نفهم ما لا نتوقع، فإننا نرفضه. إننا واثقون من عبقريتنا في فهم كل شيء، إلى درجة الاعتقاد بأن كل ما لا نفهم معدوم.

لكن يجب معرفة أن مجرد المفاجأة لا يكفي لجعل الشيء جميلاً، فالقبيح يفعل ذلك دائماً. فكيف نميز بين مفاجأة جميلة وأخرى قبيحة؟

الزمن هو الحكم، هو الذي يعطينا الإشارة. إذا مضت مدة معقولة فصرنا نفهم هذا، سنبدأ بفحص ما إذا كان جميلاً.

إن كل أغنية عظيمة سمعناها مرت بهذه التجربة، كل قصيدة جديدة فعلت بنا هذا، كل لوحة من لوحات فينوس المتعددة جعلتنا نعيد التأمل من جديد، لأننا كل مرة نرى جمال الجسد بطريقة غير متوقعة. لا أتحدث هنا عن الأعمال الفنية المتواضعة، بل عن الآثار الخالدة.

فماذا يعني هذا؟

إن عادات التلقي الجمالي لدينا هي ما أنتج القواعد. لقد مضى زمن طويل منذ قرر السابقون أن التدرج قانون جمالي، فإذا ما اخترق أحد هذا التدرج، فقد صدم ذوق القاعدة. لكن الإبداع العظيم يسير دوماً عكس هذا الاتجاه. إنه هو الذي يصنع القواعد: لقد أنتج مبدعون كبار آيات فنية لأزمان متطاولة، ففهمها الذوق وتلقاها واستنتج من خلالها القواعد. فإذا كنت فنانا واتبعت القواعد، فربما تنتج عملاً جميلا، لكنه لن يكون أثراً خالدا، لأن مثله متوفر وربما كثير. أما إذا كنت عظيما في موهبتك، فلن تسمح لك موهبتك باتباع القواعد، إنها موهبة عبقرية فذة لا ترى نموذجا لها سوى ذاتها، لذا فهي تتخطى القواعد، وتنتج المبهر الذي يتردد الناس في قبوله، ثم يبدأون في قبوله بعد حين، ومن ثم يجعلونه نموذجا يحتذى، وبذا تنشأ قواعد جديدة.

لقد قدم الفن الإغريقي صورة اكتمال الجسد البشري، في لوحاته وتماثيله. ولقد كان ذلك خارقاً، لأنه أجمل من الواقع، فتقبله الناس باعتباره النموذج السماوي المثالي، الذي كانت عليه الأشياء في السماوات، قبل نزول الجسد إلى الأرض (أفلاطون). بل إنهم عبدوه. وهم في عبادتهم هذه معترفون بأنه أكمل من الواقعي.

لا يمكن أن يبلغ جمال الجسد البشري، في الواقع، ما بلغه جماله في تمثال أفروديت، أو ديميتر، أو أخيل، أو زيوس... لقد تسبب هذا الجمال في الجلال، فعُبد. لكن حين سقطت الآلهة الإغريقية من عليائها، فيما بعد، أتاحت للناس أن يتأملوا واقعهم. من هنا بدأ اختراق القواعد، وأصبحت الحياة هي النموذج، وأصبحت ترى لوحات وتماثيل لفنانين عظام آخرين يتذوقون الواقع، ولا يصعدون إلى السماء، يتمثلون جمال الطبيعة الواقعية، بحيث صرنا نرى أجساداً ووجوهاً جميلة غير كاملة، كما هو حال الواقع، صرنا نرى جمالاً، في الأثر الفني، لم نكن نراه إلا في الطبيعة. صار جسد المرأة أقل اكتمالاً، وصرنا نبحث فيه عن الجميل، فيما كنا في الماضي نراه كله دفعة واحدة جميلا. هذا هو سحر الواقع: أن ترى امرأة يومية تنالها، بدل ان ترى إلٰهة تعبدها.

إن أغلب فنون العصور الحديثة قدمت خرقا للمتوقع. دعونا نتأمل ونتساءل: ما هو الجميل في الموناليزا؟ ما هو الجمال المتفوق الذي قدمه لنا دافنشي هنا؟ هل قدم لنا وجهاً أجمل من وجوه اللوحات القديم؟ بالتأكيد لا. لكنه قدم لنا وجهاً يثير التأمل، يدعونا للتساؤل عن سر سحرٍ لا نستطيع لمسه بالأيدي، أو تعيين مفرداته بالعقل!.

صور النساء العاريات، التي رسمها فنانو القرن التاسع عشر، كانت في غالبها صور أجساد جميلة غير مكتملة. لا بد من ملاحظة عيبٍ هنا، أو نقصٍ هناك. ونحن حين نقارن هذه الصور بالاكتمال الذي بدا عليه الجسد في تمثال ديميتر القديم، نكتشف الفرق بين جمال الإلٰهة غير الواقعي، وجمال المرأة الواقعية اليوم.

جمال النساء في أفلام هوليوود جمال غير واقعي. إنها تعلم ذلك وتريده وتقصده، لأنها تريد أن تقدم لنا آلهة تُعبد. هذا هو أحد وجوه خطورة هوليوود، وأحد أهم وجوه قبحها. لقد شكا الزعيم الهندي جواهر لال نهرو، ذات يوم من هذا الغزو، حين قال: ليست الـ(C.I.A) هي الأخطر، بل هوليوود.

وفي مجال الغناء، يمكن تذكر كيف كان عبد الحليم حافظ يقدم لنا أغنية واحدة في السنة، وكيف كنا ننظرها بشوق. ثم دعونا الآن نتذكر كانت تفاجئنا الأغنية في البداية!. لطالما حاولنا ــ نحن عشاق حليم ــ إقناع أنفسنا، كل مرة، بأن ما نسمعه أجمل مما سمعناه.. لكنه في الواقع كان صادماً، وربما لم يكن الأجمل. هذا كان يحدث معنا في كل عام. لكننا من بعد أن نستمع إلى الأغنية مرة ومرات، نعيد اكتشاف الجميل فيها. ونعلم أن حليم خرق قواعده الأولى. هذا هو سحر الفن العظيم. أما ما يحدث اليوم، فهو أننا نستمع إلى أغنيات تعجبنا فوراً، ثم ننساها فوراً. هذا هو الفرق بين اتباع القواعد، واختلاقها من جديد.

لقد اقتضى خرق القواعد من حليم سنة كاملة كل أغنية، فعاشت أغانيه خالدة؛ أما اتباع القواعد، فيخرج لنا في كل يوم مئات الأغاني.

يتبقى سؤال لا بد منه؟

هل معنى ذلك أن كل دعي لا يعرف القواعد قادر على أن يهرف ما يريد بزعم خرق القواعد؟

اللهم لا، فخرق القواعد لا بد أن يسبقه معرفة بالقواعد. إن الفرق بين الجاهل والمبدع هو تجاوز المبدع لما يعرف، أما الجاهل فلا يعرف شيئاً لكي يتجاوزه.















تعليق



مهيب حمودة

2015-02-28

قمة الروعة والفائدة بوركت وزادك الله انفتاحا وعلما

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حول رواية مصائر لربعي المدهون: ثرثرة مملة لكن لا تطبيع ولا ما يحزنون

25-حزيران-2016

مسرحية القفص للمخرج علي أبو ياسين بصقة في وجوه الأبوات

10-حزيران-2015

في قواعد الفن

28-شباط-2015

فضائح اللاشعور في قصيدة (طيري يا حبيبتي) لخالد جمعة(*)

12-كانون الثاني-2015

هناك عندما في الأعالي "من وحي ساعة غزة"

23-تموز-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow