Alef Logo
المرصد الصحفي
              

البياض النازف

عباس بيضون

2015-04-12

مشهد المسلحين وهم يدمرون التماثيل الأشورية أو القوالب التي صبت على غرارها فظيع، لكننا مع ذلك لا نستطيع ان نقارنه بمشهد المساجين في ثيابهم البرتقالية اللون الذي يغدو من الآن فصاعداً لون الموت وخلفهم وهم ركوع المقنع الواقف الحامل سكيناً ستنحر بعد هنيهة أعناقهم. لا نستطيع أن نقارنه بمشهد النار التي تسربت إلى قفص الطيار السجين الذي سرعان ما استحال كتلة من النار. لا تصح المقارنة فـ «الأصنام» المتهاوية إلى الأرض هي من جص وحجر وهي تهوي من طولها بضربة واحدة، وهي أيضاً لا تنزف دماً فثمة أبيض يتهدم أمام أعيننا، لكنه يبقى أبيض في أبيض ولا تخالطه حمرة قانية ـ مع ذلك فإن هذا البياض الناصع أشبه بالمحو، أشبه بالاستشباح والخفية بل ان في تحطيم الأبيض وعجنه ما يشبه أن يكون ذبحاً حقيقياً وما يصدر عنه أشبه بدم أبيض ينزف من دون أن يظهر، ثم أن الموت لا يتشخص في شيء بقدر ما يتشخص في هذا البياض الكامد المشيوح الذي يكاد، من دون مبالغة، يقارب الزوال.
أن نرى المسلحين ينهالون بالمطارق على الأنصاب والتماثيل من دون أن يصدر عنها صوت أو زفرة، يرينا كم أن القسوة الماضية الحادة باردة خرساء، وكم أن الموت هو أكثر في هذا التحطيم البارد منه في الوحشية التي تظهر في حز الرؤوس. لكن لنخرج من هذا الشطط، فتحطيم التماثيل البيضاء هو الصورة السلبية لجز الأعناق وتمزيق الأجساد والحز فيها. ليس ذبح الأسرى سوى المقابل الفعلي لتدمير التماثيل. وعلى كل حال فإن الدافع قد يكون هو ذاته. عبادة الموت وتقديس العنف وتقديم الأضاحي. ينهال المسلح بمطرقته على التمثال حتى يستقطر منه الدم وحين لا يرى دماً حقيقياً يتراءى له الدم أبيض ويتم تحطيم الجسد إلى الدرجة التي يكاد فيها الجص والحجر أن يتألما حقاً. إذ لا نهاية لما يمكن أن يفعله المرء بالحجر والجص. لا نهاية للتحطيم الذي يوقعه عليهما، ثمة هنا مدى للعب واسع وعريض، ولا شك أن في فصل من فصول اللعبة يتماهى الحجر والجسد. يتماهى البياض والغبار مع الدم. لا شك أن في لحظة ما الموت هو ما يحدث للتمثال والعذاب هو ما يحيق به.
لا يسعنا هنا أن نتكلم عن الفن والتاريخ والابتكار والجمال، هذه أمور لا تخطر للمسلح المدمّر. لا يخطر له بالطبع أن يزيل حقبة من التاريخ فالأرجح أن المسلح لا يعرف أن لهذه التماثيل تاريخاً وان لها زمناً خاصاً. ليس الزمن موجوداً بالنسبة للمسلح، انه هنا نصب أمر واحد: الموت وحده زمنه والموت وحده تاريخه. انه فقط خادم الموت وتابعه. ليس يهم البتة أن تحل الساعة فهي وحدها الزمن وهي وحدها النذير ولا يهم أن تعجل أو تتأخر، لا يهم ان تأتي خاطفة أو على مهل، فما يتولاه الإنسان وما يؤديه ليس سوى الساعة نفسها، الساعة التي لا تحتاج إلا إلى سكين ومطرقة. الساعة التي لها فنها وطقسها ولها بالطبع تقليدها الذي ينبغي ان لا نسهو عن شعرة منه، فهنا أنشودة الفناء وهنا اكتماله ومثاله. وهنا فقط يمكننا أن نعيِّد وأن نحتفل، هنا فقط يكون للحياة ثمن ويكون لها مقابل ويكون لها وزن. انها فقط هنا الأداء الكامل للموت، انها فقط هذا الاستدعاء المجلجل له. هذا الحضور المثالي والمتقن له، كل ما يعرفه هؤلاء المسلحون هو ذلك وحده، انهم فقط يميتون ويموتون ولا حاجة لأن يكون هناك شيء آخر، فهنا بالتأكيد فضله وهذا بالتأكيد زيادة وهذا بالتأكيد نافل. إذ لا تعني الحياة سوى تسكع لا جدوى منه. لا تعني سوى مذلة ومهانة واستصغار للنفس وجبن واستمراء، لا تعني سوى نكوص وتراجع والتفاف، الحياة كما يقول واحد نتركها لخدمنا يعيشون عنا. انها فقط للكلاب والخدم والمرتزقين. لا يعنيهم سوى ذلك الشبق للموت، سوى نشوة الموت وبرقه واشتعاله وذروته.
بالطبع سيقال أن ذلك من الدين وأن الدين ليس إلا جهاداً في جهاد، وأن على البشرية أن تعرف على أي أساس تموت وأن هذا كل ما يلزمها من الوجود، يقال أن عليها أن تعرف فقط على أي وجه تموت وعلى أي وضع تزفر الروح. يمكننا هنا أن نفكر بأفواج الانتحاريين لكن ما يفعله هؤلاء لا يزيد عن كونه تقليداً للحياة تاجه الموت والموت فحسب. يمكننا هكذا أن نفكر بشعب من الانتحاريين الذين يهدمون. يهدمون فحسب. أن نحرق مدناً وأن نعرض مئات وآلافاً للذبح. أن نفعل ذلك بغير اكتراث حديدي. أن نتمنى الموت لأنفسنا ولأعدائنا على السواء. هكذا نساويهم بأنفسنا ونلاقيهم في الميدان ملاقاة أشباح لأشباح. فالواضح أن لا شيء يمكنه أن يتأله وأن يُعبد سوى الموت. والواضح أن ما قبله وما بعده لا يهمان فالساعة هي هو والساعة وحدها التي تهم.
يمكننا أن نقول ذلك لجيوش الانتحاريين التي تغزو العالم، يمكننا أن نقوله لهؤلاء الذين سرعان ما يتولاهم حلم مشبوب، حلم هو اللاوجود عينه، هو الفراغ الكامل. هو الانقطاع عن كل شيء، هو توسل نيرفانا دموية نيرفانا من أحمر الدم وبياض الحجر. هكذا يغدو القتل مبدأ، قتل الناس والحيوانات والحجارة. وقبل ذلك كله قتل النفس.
عن ملحق السفير الثقافي

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

ليل في العزل

08-أيار-2021

فيروز في عيدها الخامس والثمانين: تجديد التكريس

05-كانون الأول-2020

البياض النازف

12-نيسان-2015

الاستبداد العربي

18-تشرين الثاني-2011

مثقفـــون وحريـــات

26-حزيران-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow