Alef Logo
ابداعات
              

صورة السيد كافكا (٢)

صالح الرزوق

خاص ألف

2015-05-16


أنفقت ساعة في موقف السيارات أشرب القهوة على الرصيف.
كانت أمامي شجرة من بين أغصانها تمر سهام من أشعة الشمس النفاذة. وتستلقي بيأس على الأرض. شمس تسقط من كبد السماء وتتمرغ على الأرصفة. وخلفها الميكرو باص جامد. بشكل قالب من الجليد. بلونه الأبيض الذي يكسوه الغبار.
وتساءلت: ماذا يصنع الآن ميسر. يحضن زوجته في الفراش. ويفكر بإنجاب ولد ثالث. فذريته تتألف من صبيين. ويرغب ببنت بأي ثمن.
كان ميسر مثل آغا. يهتم بأحواله الشخصية. استفاد من ميراث الوالد بتوسيع بيته. أما آغا فشارك واحدا من الخانات في باب الجنين بالرأسمال. وضمن لنفسه مبلغا شهريا.
كان من سنوات هبة. ظهرت معالمها على زوجته التي لا تنجب. لم يعد بإمكانها أن تحرك يدها بسبب الأساور التي تحملها. وكلها ذهب عيار 21.
واليوم لا تدر عليه سوى ثمن الطعام.
حين يجلس تبرز بطنه الواسعة ويصبح بنظري مثل طنجرة الضغط. فيه أطعمة مسلوقة ناضجة.
***
بعد ساعة أرسل لي ميسر رقم حوالة لمصرف المحطة. وفيها خمسون ليرة تركية.
تقاضيتها من موظف كان يعرج. ولكنه يعمل بدقة تروس الساعة.
كل حياة ميسر مشاكل.
نسميه باسم الساعة الناقصة. حين كان يرتب بيته نسي طلب الأذن من الجيران. فاخبروا البلدية. وحرروا ضده مخالفة تغيير معالم البيت.
وتحولت هذه المشكلة التافهة إلى إلى حرب ضروس. وسحبت وراءها ذيولا طويلة. واضطر لتكليف واحد من المحامين لينتهي من الموضوع.
سألته: كم دفعت لقاء تنظيف إضبارتك؟.
قال وهو يشتم: تفو. إضبارتي بقلب أبيض مثل قالب زبدة. نظف أنت سروالك.
من أين له هذه الأفكار البذيئة. الرجل أبو أولاد. ويجب أن يكون مثالا يحتذى في الانضباط.
لكن ماذا تقول عن بلد يفسد بالتدريج. كل يوم يفقد شبرا من أخلاقه. لم يبق أخلاق أكثر من عرض أصبع واحدة. ثم تظهر عورات السلوك, أصبحت حلب كلها مكشوفة على نفسها. أي عابر سبيل يلاحظ أنه ينقصها حشمة الأيام السابقة.
***
بعد ذلك أرسل لي رسالة فيها عنوان ابن جاره.
كان العنوان لبيت أرضي في بناية من ثلاثة طوابق.
وقفت أمام الباب لأتأكد. كان من مصراعين. بلا نقوش. مدهون بلون غير واضح بسبب الإظلام. وعليه جرس بلا اسم.
جمعت أطراف شجاعتي وضغطت على الزر. ففتح الجيران الباب.
وسألني صوت طفولي: هل تبحث عن سيفو؟..
- نعم. هل هو موجود؟.
كان المتكلم في حوالي الأربعين. بسروال بيجاما وبلوزة خفيفة. بشوارب مرسومة فوق شفتيه. وشعر غير مرتب.
قال لي: من فضلك لحظة.
ولم أفهم بالضبط ماذا يريد. فقد غاب لدقيقة وعاد ومعه سلسلة مفاتيح.
وقال فورا: كلفني سيفو أن أعتني بك. فهو مشغول بعمل هام..
وطبعا كان الحوار باللغة الإنكليزية الدارجة والضعيفة. لا شك أنه لم ينطق بجملة بلا خطأ. وأنا بالمثل. كنت أتكلم بطريقة حطاب يضرب في أخشاب ميتة.
لم أستعمل لغتي الإنكليزية من عهود. ولا عجب أنها تحولت لحطام وأنقاض. مثلها مثل كل شيء من حولي.
هل بقي في حياتنا شيء يقف على قدميه.
وسمعت صوت مفاصل الباب ولسان القفل الحديد. ثم دعاني لأدخل.
ووجدت نفسي في بهو أمرد. وعفوا لهذا التعبير. لا توجد فيه ولا حتى الأساسيات. ولكن تحيط به ثلاثة أبواب. من خشب بلون قشور الجوز.
فتح أحدها. وقال: من حظك أنه لدينا اليوم سرير.
ثم سألني: هل معك موبايل؟.
قلت له: طبعا.
وتوقعت أنه يريد أن يطلب به سيفو. ولكن وضعه في جيبه وأردف: الموبايلات ممنوعة.
- عفوا؟..
- هذه هي التعليمات. تسترده أثناء الانصراف...
قال ذلك. وانسحب بسرعة ورشاقة. وأغلق الباب وراءه. وسمعت صوت المفتاح يدور في القفل.
وهنا بدأت العنفات تدور في رأسي. وأنا أفكر بصمت مطبق: ما هذا؟..
***
ألقيت الحقيبة على الأرض. وهويت بجثماني فوق السرير. وبدأت أقلب النظر فيما حولي.
عدا زر النور. توجد أزار مروحة سقفية ليس لها وجود. وفرشة من الإسفنج الصناعي المضغوط ملقاة على الأرض كأنها جثة إنسان ميت.
ونافذة محكمة الإغلاق.
حاولت أن أرى ماذا وراءها. ولكن لم أشاهد ولو خيط نور واحد. فقد كانت مسدودة من الخارج بلوح خشب.
وانتابني الشك. فذهبت إلى الباب وحاولت معه. كان القفل لا يدور. يئن بصوت مبحوح ثم ينهار.
ودارت في رأسي الفكرة التالية: هل أهرب من خطر الموت لأسقط في هذه الحفرة؟..
ولأول مرة بدأت ألوم ميسر على سوء تصرفه.
ترى هل يعرف شيئا عن نوعية سيفو. هذا الرجل الذي لم أوفق حتى اللحظة برؤيته.
***
نقرت على الباب من الداخل وأنا أصيح بصوت مهذب: يا سيد. يا سيد..
كنت أنوي أن أفهم ماذا يجري. لكنه لم يرد. فضربت الباب بيد أقوى وناديت: يا سيد سيفو. أين أنت؟.
وعاد صدى الصوت لي. صدى أجوف. لم يلق العناية ولا الاهتمام من أحد.
فانتابني السخط. أفراد عائلتنا لديهم قدرة على ضبط الأعصاب. ولكن إذا اشتعلنا بالغضب نتصرف بلا حكمة.
لم أعد أرى ماذا حولي. وبدأت أهوي على الباب بيد ثقيلة كأنها مطرقة وأنا أعوي: يا أخ سيفو. هذا التصرف غير مهذب. لو تريد الاحتفاظ بموبايلي فهو لك. ولكن أطلق سراحي أولا...
وفي هذه الأثناء لمستني أنامل دافئة ورقيقة.
فتحت عيني. وانتبهت أنني لا أزال في المحطة. أجلس بانتظار نجدة من ميسر. وبين يدي كتاب مفتوح على إحدى الصفحات.
ألقيت نظرة على الغلاف.
ورأيت أنه المسخ لكافكا. وعليه صورة السيد كافكا بوجه شاحب مريض وأذنين مشرعتين كأنهما أذنا السياب. وبجانبه صورة الحشرة المقرفة...

نيسان 2015
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow