Alef Logo
دراسات
              

الإسكاتولوجيا والخلاص الموعود (1/2)

د: حسن رشيدي

خاص ألف

2015-09-30

تعتبر الإسكاتولوجيا أحد الحقول المعرفية والفروع الأكاديمية التي تناولت درس النهايات بشكل رئيس في عديد الحضارات الإنسانية والثقافات الشعبية، فهي بذلك تبين الشكل المتخيل لنهاية التاريخ البشري والكوني الطبيعي عند مختلف الجماعات البشرية.

وتختلف هذه النهايات الكونية والتاريخية بحسب الحضارات الإنسانية وخصوصيتها الاجتماعية، تبعا للروافد المؤثرة فيها وتعدد مشارب واتجاهات كل اجتماع بشري على آخر؛ كما تتحكم في رؤية هذه الإسكاتولوجيات وطرق إخراجها على أرض الواقع، قطبي العامل النفسي والنص الديني حسب قولنا.

1) الإسكاتولوجيا و العامل النفسي:

يعد العامل النفسي المتولد أساسا من ضعف الذات الإنسانية أمام الأبعاد الأخرى التي استطاع خلقها -كإجابة عن الأسئلة الوجودية- ونسَج معها علاقات وطيدة إشباعا لرغباته؛ العامل الأول الرئيس الذي دفع العقل لوضع نهاية للحياة وبموازاة مع ذلك جعل لنفسه ملجأ للخلاص؛ زد على ذلك استصغاره أمام القوى الطبيعية الحية التي مثّل لكل ظاهرة كونية منها وخصص لها آلهة وشياطين تتجلى وراء فعلها. مما شكل وعيا جمعيا شرع معه في طقوس السحر وتقدمة القرابين كآلية لاسترضاء هذه القوى الغيبية المتخيلة: دفعا لشرها ورهبة من غضبها، وطلبا لخيرها ورغبة في عطاءها وإخصابها.

وقد ردفت هذه الإسكاتولوجيات -برغم حمولتها الدلالية على نهاية تاريخ الحضارة الإنسانية- عقيدة لا تقل أهمية عن بارقة الأمل الذي صاحب الإنسان طيلة مسيرته حين اشتداد الكروب، والمتمثلة أساسا في عقيدة الفادي الذي يمثل دور المخلّص ويبرز الخلاص كرمزية للإنعتاق، وغلبة لآلهة النور على آلهة الظلام؛ ولربما صور الإنسان هذه النهاية كوسيلة للهدف المرتجى، ألا وهو نيل الخلاص والعودة للفردوس المفقود...

مبتدأ العامل النفسي تاريخيا، نجده في النص الأسطوري لديانات الشرق الأدنى القديم التي أبدعت تصوير الحياة والموت من دورة الطبيعة انطلاقا من فترة الخصوبة المتمثلة ابتداء من الشتاء مرورا بمباهج الحياة التي يجسدها الربيع، إلى أن تقفل هذه الأخيرة دورتها في فصل الصيف الذي يهلك الحياة بقيظه الشديد. ويتجلى ذلك "خصوصا في ديانات الخصب التي تقوم أساسا على فكرة موت الطبيعة وبعثها المتكرر، الذي هو انعكاس لموت الإله وانبعاثه من جديد"[1]. فكانت هذه الدورات للحياة النباتية، والحيوانية، ودورات الطبيعة المختلفة محفزة له لرسم معتقداته عن الموت والبعث والنهاية والخلود، فخطى على نهجها ورسَم تصوراته على منوالها، "وبذلك يكون متكاملا مع كافة ظواهر الحياة المحيطة به، بمعنى أنه يصعب عليه الانفراد بذاته لأنه يعتمد على تلك الظواهر الطبيعية المحيطة به، ويشعر بالأمان عندما يسير في موكب حياتها الأبدي"[2].

بل إننا لنجد فكرة إخراج الحياة من قبضة الموت بارزة في سفر تكوين الأولين قد أُسقِطت على عالم الألوهة المقدس، وذلك حينما برزت الآلهة البناءة كطاقة فاعلة في الكون ضد آلهة العدم لحالة العماء من أجل رسم الشكل وسن النظام في لحظة صراع للإرادة الكونية؛ حيث أنها لا تستطيع تشكيل العوالم بمنأى عن "التمرد والثورة على آلهة العماء والسكون والفوضى واللاتشكل، التي تقف ضد هذا الشرخ في جدار الزمن الساكن. ولهذا لن يتأتى ظهور العالم إلا بإراقة الدماء، وانتصار آلهة ودمار أخرى، ولن تتوطد أسس الكون إلا على أشلاء الضحايا المغلوبة"[3]، كتكريس لما يعيشه الإنسان في حياته ورمزية لإعادة نسخ الزمن في سرمدية نسبية وعود أبدي للدورات الجزئية الدنيا، التي هي في واقع الأمر نسخة مصغرة لاكتمال الدورة الكلية الكبرى المرتبطة أساسا بصنف الآلهة؛ وكأن الجنس البشري لا طاقة له بإبداع الأكوان وإعادة كتابة الأقدار بمعزل عن الآلهة العليا. فحيثما تمردت الآلهة الفاعلة ذات الإرادة القوية على الخلق والإبداع، على آلهة العماء والسكون المطبق من أجل تخليص الأكوان من قبضة هذه الأخيرة لغاية كبرى، ممثلة في نفخ الروح فيها وبث كل دابة عليها؛ فقد كان لزاما على العقل الإنساني أن يعي جيدا هذا المستوى الإرادي، وذلك بسبر كنه رمزية الخلق والنشأة الأولى وإعادة صياغتها في محتوى يوافق رؤيته للنهايات وينشد خلاصه المبتغى. باعتبار أن الحياة التي يعيشها الفرد برغم أطوارها التي يتقلب فيها إنما هي صراع ووهم، وأن الحقيقة تكمن فيما وراء الموت الذي يحرر الإنسان ويساعده في الرجوع إلى أصل خلقه... لما تحمله الأرض من معاني اتحاد الفرع بالأصل، بل "انعكاس للحالة التي عاشها الفرد في رحم أمه"[4] فهي بذلك تمثل المآب للآلهة الأم، آلهة السكون والغمر المائي التي تخلصه من تعب الحياة وصراعها المضني.

وسوف نتطرق في المستوى التالي إلى كيفية تصوير الأديان إلى هذه النهاية الحتمية، من خلال الإسكاتولوجيا والنص الديني.

2) الإسكاتولوجيا والنص الديني:

يعد النص الديني من أهم العوامل المؤثرة على حياة الإنسان الفردية والجمعية على حد سواء باعتبار انتماءه إلى البعد المقدس الميتافيزيقي الصادر عن الآلهة أو قوى علوية كاملة القدرة والقهر الكوني؛ ولا يخلو أي اجتماع بشري إيمانه بهذه القوى الفاعلة والآلهة العلوية التي يكتسب منها طاقته ويستمد منها سبل الاعتصام والميثاق المقدس الذي يبرز أساسا من خلال الشرائع والفروض السماوية، ليرتد إليها في هيئة طقوس تعبدية وأخلاق تعاملية.

وقد كرست الأديان -على علاتها- من خلال نصوصها المقدسة نهاية العالم وما يصحب ذلك من اضطراب بنيوي في الحياة الاجتماعية والنظم الكونية، لا بل أكدت على بعث ثلة من المختارين الذين سيرثون الأرض آخر الدهور بعد أن يستبد الظالم ويطغى الظلام ويكثر الشر. ويمكن لنا أن نفصل ذلك في مستويين دينيين:

المستوى الأول.

الأديان الوضعية: التي قسّم العقل فيها العالم إلى "مستويين متصارعين هما الخير والشر، أو النور والظلام. وجوهر الخلاص فيه هزيمة الشر في قرارات النفس وعلى الأرض، وبالتالي أمكن للروح بأن ترجع متحدة مع آلهة النور والضياء مع إعطاء قيمة ذاتية ورفيعة للأنا"[5]، "فالإنسان لم يعد عبدا للآلهة ولا أداة في يد القدر، بل كائنا حرا ومسؤولا"[6]. وهو ما ميز الأديان الوضعية التي سلكت "طرقا غنوصية كوسيلة لملأ الفراغ الروحي، فتطلعت من خلال هذه التجربة الفردية التأملية كشف الحجب والأسرار، لمعرفة أصلها السماوي والعودة إلى انبثاقها النوراني"[7]. كما صورت هذه الأديان عقيدة الفادي الذي يحرر الإنسان من آلهة الظلام والشر المحيط به.

ففي الديانة الهندوسية نجد أن الإله براهما الذي انقسمت عنه المخلوقات وتولدت منه، يجسد دورة الحياة في مراحلها الرئيسة المتمثلة في الخلق والحياة والموت، حيث أن له "وظائف ثلاث: الخلق Création والحفظ Préservation والتدمير Destruction. وله أقانيم ثلاثة: (ثالوث) فعند الخلق هو Brahman، وعند الحفظ هو Vishnu، وعند التدمير هو Shiva"[8]. ويعد Vishnu المنقذ من سطوة الظلام والشر الذي يهدد الجماعة المؤمنة من غضب Shiva المدمر. وتتعدد مظاهر نزوله الخلاصي على شكل (أفتار Avatar) بحسب الداعي وكيفيته التي قد تكون جزئية أو مرحلية أو كاملة بحسب درجة التهديد[9]. إلى أن تعود روح الإنسان وتتحد مع الإله براهما كأسمى صور الاتحاد.

ولن يتأتى هذا الاتحاد إلا إذا انعتق الفرد من قانون الكارما Karma الذي يزن الأعمال فيتقبلها أو يرسلها إلى حياة جديدة بداعي التطهر من الرغبات والأفكار الفاسدة، وهو ما يعبَر عنه بعقيدة التناسخ أو دورة الروح؛ وإذا ما استطاع الإنسان أن يطهر ذاته فإنه ينال النرفانا Nervana -وهي السعادة الأبدية المتمثلة أساسا في العود والتمازج مع ذات الإله براهما-؛ في تعبير على أن الخلاص الكلي لن يتأتى للفرد إلا باقتحام عقبات الشر الخارجي للطبيعة، والداخلي للذات الإنسانية.

...وهي الاستنارة التي تراءت لبوذا Buddha في رحلته سبيلا منه في إيجاد طرق الخلاص، باعتبار أن الألم (الخطايا التي تعيد الروح إلى الحياة) مردّها لعقيدة التناسخ بعد الموت، والموت هو نتاج للحياة والحياة مردها للولادة، "وبذلك يتضح أن البنية الأساسية لفكرة الخلاص في البوذية ترتكز على مصطلحي الألم ونهاية الألم"[10]. ولا مناص من تخطي هذا الألم لدورة التناسخ وتجنب العود الأبدي، إلا بالعمل على مقتضى الحقائق الأربعة السامية والنبيلة ذات الشعب والمسالك المؤدية للإنعتاق التي تَوصل لها وبشّر بها.

وفي الديانة الزرادشتية نجد أن التاريخ ينقسم إلى أربع فترات، "تمتد كل منهما ثلاثة آلاف سنة. في الفترتين الأولى والثانية كان الله والشيطان يجهزان قوتهما، أما في الفترة الثالثة فقد اشتبكا في الصراع، وفي الفترة الأخيرة سوف ينهزم الشيطان في النهاية"[11]، وهي الحتمية المقدرة أزلا للعالم، حيث "تقوم فيها معركة عنيفة بين القوى المتعارضة تنتهي إلى نشوء أو ولادة هذه الحالة الكاملة، التي يتمتع الفضلاء فيها بعد أن يكونوا قد ساهموا في ولادتها العسيرة بهناء أبدي"[12]. وسيكون لكل فرد من أفراد المجتمع حينها الحرية الكاملة في اختيار أي مشيئة يختارها ويحارب في صفوفها حسب قناعاته، "وأما سلاح الإنسان في المعركة، فوعيه وحريته واختياره الأخلاقي"[13].

إلى أن يأذن للمخلص بالظهور والخروج عند نهاية تاريخ الفكر الزرادشتي، وهو ما سيجسده (ساوشيانت المنتظر) الذي يعتبر عمدة الخلاص بعد سلسة من المخلصين الثانويين، وظهوره سيكون إيذانا ببداية النهاية وخاتمة لدورة الزمن، وذلك بقضاءه على جحافل الشر وإرساء قواعد العدل، ومبشرا بملكوت أهورامزدا. وسيخضع الأشرار والأبرار إلى تجربة النار والمعدن التي ستكون على شكل "تيار دافق، يعبره الأخيار كأنهم يطفون على نهر حليب دافئ، أما الأشرار فيبيدهم ويفنيهم، ثم يغوص نهر النار بهم في هوة الجحيم عندها يتم التخلص من الشر كاملا"[14]...

وبهذا تتفق الأديان الوضعية حول أحداث نهاية تاريخ الجنس البشري التي تكون الغلبة فيها للأخيار والقهر للأشرار، مع منظور النص الأسطوري لحضارات الشرق الأدنى القديم التي سبقت الأديان الشرقية والفلسفات الغنوصية؛ كما اقتفت أثرها في تصوير مخرجات المنقذ من الهلاك الذي يقود أتباعه المؤمنين من الظلمات إلى النور. إلا أن فكرة نهاية العالم وترقب الخلاص لن تنتهي عند هذا الحد، بقدر ما ستقودنا إسكاتولوجيا الأديان الإبراهيمية -اليهودية والمسيحية والإسلام- إلى رؤيتها الخاصة للنهاية وأحداث الخروج. فهل ستتفق هذه الأخيرة مع الأديان الوضعية؟ وبالتالي تكريس الرؤية الرافدينية، أم أنها ستغير وجهة الأحداث إلى قبلة أخرى غير التي أبدعها الإنسان الأول؟

وهو ما سنتطرق إليه في المستوى الثاني لإسكاتولوجيا النص الديني للأديان السماوية، ونظرتها للخلاص الموعود
يتبع

[1] - فراس السواح: مغامرة العقل الأولى. دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة. دمشق 2002م. ط 13. ص 276.

[2] - خزعل الماجدي: أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ. دار الشروق للنشر والتوزيع. عمان الأردن 1997. ط 1. ص 117.

[3] - فراس السواح: مغامرة العقل الأولى. ص ص 27-28.
(*)- يتجلى ذلك عندما قهر الإله بعل الإله يم. وقهر مردوخ الإلهة تعامة. كما تمثل الإلهة نمو البداية لسلسلة الآلهة الفاعلة و الإخصابية التي تولدت عنها حياة الأكوان تجسيدا للتمرد والخروج على حالة العماء الكوني.

(*)- كما نجد فكرة المنقذ من الهلاك جلية عند نزول الإلهة انانا إلى العالم السفلي، ليكون ننشبور مخلصا لها من قبضة إريشكيجال إلهة العالم الأسفل؛ ونفس الحدث سيكون مع الإلهة عشتار وتموز في الحضارة البابلية.

[4] - فراس السواح: مغامرة العقل الأولى. ص 256.

[5] - حسن رشيدي: الخلاص في الفكر الأسطوري والفكر الديني دراسة وصفية تحليلية. بحث لنيل شهادة الماجستير. جامعة سيدي محمد بن عبد الله. كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس. 2013/2014م. ص 45.

[6] - فراس السواح: الرحمان والشيطان الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية. منشورات علاء الدين. دمشق 2008م. ط 2. ص 51.

[7] - حسن رشيدي: الخلاص في الفكر الأسطوري والفكر الديني. ص 46.

[8] - وهدان عويس: أديان البشر عرض موجز ومقاربة. أزمنة للنشر والتوزيع. عمان الأردن. ط 1. ص 72.

[9] - راجع تمظهرات نزول Vishnu لإنقاذ البشر من دمار Shiva، عند جفري براندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. مراجعة عبد الغفار مكاوي. سلسلة عالم المعرفة. منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت. ذو القعدة 1430هـ/1993م. ص ص 175-177.

[10] - ول ديورانت: قصة الحضارة. الهند وجيرانها – الشرق الأقصى الصين. ترجمة زكي نجيب محمود. مطبعة لجنة التأليف والنشر. القاهرة 1968م. ط 3. ج 3-4. ص 70.

[11] - جفري براندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب. ص 120.

[12] - فيليسيان شالي: موجز تاريخ الأديان. ترجمة حافظ الجمالي. طلاس للدراسات والترجمة والنشر. دمشق 1991م. ط 1. 132.

[13] - فراس السواح: الرحمان والشيطان. ص 51.

[14] - فراس السواح: موسوعة تاريخ الأديان. الكتاب الخامس. الزرادشتية المانوية اليهودية المسيحية. ص 35.





































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هللويا لنور السنا

24-تشرين الأول-2015

الإسكاتولوجيا والخلاص الموعود (1/2)

30-أيلول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow