Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

مطار مادلين / قصة جيسي ميلر ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2016-10-22


حصل ذلك لأنها كانت في ذروة الإنفعال وعلى وشك أن تنفجر. كان أول يوم تشعر فيه باقتراب الربيع. إنه الوقت الوجيز بين الفصول الذي تشعر فيه بحدوث شيء جديد، و هذا فاقم من قلقها و عصبيتها. كانت الحالة مثل تبديل الجو. أو تنظيف خلايا النحل. هطلت الأمطار الخفيفة في الخارج و أرادت مادلين أن تفتح نافذتيها الصغيرتين على باحة شقتها الصغيرة ليدخل الضباب الدافئ و يملأ الغرفة. و لكن صوت الزحام كان صعبا، و خافت منه على العصفور. كان صوت احتكاك الإبرة بالكاد يسمع. جلست القرفصاء قرب المدفأة لتسمع. كانت الموسيقا منخفضة و مرهقة. شيء يشبه بيللي هوليداي. هذا هو بيللي هوليداي، و لكن لأسبوعين و هي تبحث عنه، و لم تجده في أي حانوت لتوزيع الأغاني. استندت على كرسي القراءة المتداعي و تأملت رف الكتب و كانت بجانبها الأشياء الفنية. و أنفقت وقتا طويلا في الداخل تقرأ و تحلم، و هكذا انتابها القلق.

نظرت إلى العصفور الصغير الأخضر المشوب بظل أزرق و هو في القفص المجاور لفراشها، ثم التقطت قلما أزرق. كان العصفور هادئا. هادئا و مستقرا و جميلا. و بين حين و آخر تستدير برأسها قليلا لتتأمل ما حولها. كانت هادئة. حتى حينما جاءت بها مادلين للبيت من حوالي أسبوع و معها كاميرا فورية، خفقت بجناحيها، و لكن بشكل وديع.

خطر لمادلين: كانت الحركة البطيئة الغامضة لحظة من لحظات الكشف و التجلي، و هي تمرر أصابعها على حافة الصورة المعلقة حاليا على الجدار قرب الكرسي. كانت تبدو كالبحر. استبدلت القلم بغيره و بدأت. تساءلت كم مضى على ماغي في الحياة هناك. كم مضى عليها من زمن هناك. أراحت رأسها على الجدار و شرعت ببطء بإزالة العلامة التجارية الورقية القديمة التي تغلف القلم. مدت يدها لعلبة من المطاط الإسمنتي و فكت الغطاء. امتزجت الموسيقا بصوت ماغي، كأن البكاء جزء من الأغنية. ليس مثل علبة الموسيقا - ليس صوتا مرافقا، و لكنه باطني، كأنه يأتي من بين ألحان الموسيقا. صوت شبح. قرب ماكينة التصوير دهنت مادلين الصمغ بواسطة الفرشاة و ألصقت الورقة الخصراء على الجدار. و همست تقول:" هذا زبد البحر".

< 2 >

عادة كانت تغادر في أمسيات الأربعاء. ذلك هو اليوم الوحيد الذي ترفه فيه نفسها بنزهة تبلغ قيمتها ٣$. و غير السعر، كانت تحب الصالة الفارغة. فهي صالة قديمة للأفلام و تعرض الأفلام القديمة أو الفنية. و كانت مادلين تحب الرائحة التي تنتشر في الداخل، و لون المقاعد المهترئة و هو الأحمر النبيذي. و تحب بريق الألوان التي تتكتم عليها العتمة. مثل لوحة هوبير القديمة المعلقة فوق كرسيها. و أحيانا، كانت تأتي بمصباح القراءة الصغير و دفتر ملاحظات و ترسم وجها من الوجوه التي يعرضها الفيلم.

و في ليلة السبت التقت بها. في لحظة غريبة حينما توجب عليها أن تدفع ثمن بطاقة بلا تخفيض، لأن الفيلم الذي رغبت بمشاهدته كان خاصا بالعطلة الأسبوعية. و هو ذكريات غبار النجوم، بطولة وودي ألان. كان واحدا من المفضلين عندها قبل المأساة الفظيعة مع ابنة زوجته. قبل أن يغمره الخوف من العمر و الموت.

من قبل شاهدت له فيلما جديدا أو إثنين. و هذا ما أربكها. كأنك تكتشف صديقا حميما يكذب عليك.

" هل رسمت طيرا في حياتك؟".

رفعت مادلين عينيها عن الملف و قالت:" ماذا قلت؟".

" أعني دفتر الرسم. هل أنت رسامة؟".

" آه، هذه مجرد خطوط".

أصابت مادلين الدهشة حين انتبهت أنها امرأة من بنايتها. التقت بها في عرفة الغسيل في القبو منذ أول يوم سكنت فيه هنا. كانت توجد سلة غسيل مقلوبة و تستعمل كسلم، و لذلك صعدت عليها لتصل إلى الغسالة ثم مجددا لتجلس في إطار نافذة فوق الغسالة.

كانت تنظر من إطار النافذة المفتوحة القذرة و تطعم عدة عصافير صغيرة من خلف قضبان الحماية. و راقبت مادلين العصافير تقفز إلى الداخل و الخارج، و تنقر البزور من يديها مباشرة. و بعد ثلاثة أيام سمعت صوتها لأول مرة من وراء المهواة و علمت أنها تعيش في الطابق 3c. تحتها بالضبط. و التقت بها مرة أخرى أمام نافذتها في إحدى الأمسيات. و كانت تغادر البناية، وحدها. تذكرت مادلين تصفيفة شعرها الناعم، و هو يطير مع نسمات الهواء بينما هي تبتعد بخطواتها.

< 3 >

قالت المرأة و هي تقطع بطاقة برتقالية من دفتر البطاقات:" أحب هذا الفيلم".

نبشت مادلين في جزدانها لتبحث عن أوراق مالية. ثم وضعت 6.50$ على طاولة غرفة التذاكر و رفعت نظرها. و لاحظت أن المرأة تبتسم لها. ابتسامة جميلة و هادئة زاد من فتنتها عينان بنيتان عميقتان. حاولت أن تخبرها إنها لم تعد مشدودة لوودي ألين، و لكنها جاءت لترسم المرأة الحزينة التي لعبت دور أول عشيقة لوودي ألان في الفيلم.

فهي لم تشاهد نفس المرأة في فيلم آخر كأنها اعتزلت. و هناك مشهد يعجبها على وجه الخصوص. لقطات بسيطة للمرأة- لقطات سريعة لتعابير مختلفة: القلق و الهوس، الضحكة اللطيفة، الألم، الحزن. أرادت أن تخبرها أنها جاءت من أجل هذا فقط. لترسمها في دفترها، كي تنقذها من هذا الفيلم و تغلق الباب على ذكريات وودي و للأبد.

قالت بلهجة اعتذار:" نعم، أفهم قصدك". و خطر لها هذا انحياز.

" تفضلي". و ببطء أعادت المرأة لمادلين نقودها مع البطاقة.

" و لكن، لماذا؟".

ابتسمت المرأة بنعومة و هزت رأسها. و قالت:" هيا. سنلتقي مجددا. يمكن أن تستضيفيني في المرة القادمة".

ابتسمت مادلين و قالت:" آه، شكرا". ثم حملت النقود و البطاقة.

" أنا ماغي".

" شكرا يا ماغي".

كانت الكلمات بسيطة. سحبت مادلين يدها. لم تكن بتمام وعيها و هي تنصرف، لقد حاصرتها كلمات ماغي الأخيرة و أغنيتها الهامسة، و نقرات المطر الذي بدأ يضرب بقوة على نافذتها. و لكن العصفور أجبرها على الانتباه. لامست الجرس الفضي الصغير المعلق في سقف القفص. و حرك العصفور رأسه للأسفل لينظر لمادلين و هي على الأرض. نظرت مادلين له لقليل من الوقت، و هي تبتسم، ثم استدارت للجدار لتنتهي من رسومها: طار شريط حول رقبة العصفور و وصل الجدار و تحول لكلمات تقول: مرحبا يا ماغي الحزينة.

< 4 >

لم تستعمل المصعد، لأنها لا تعلم هل سيؤثر على العصفور أم لا. عند المجموعة الثانية من السلالم ارتعشت يداها. قرقع المطر في الخارج على الحواف المعدنية، و امتلأت عتبات السلالم بالأصداء. قفز العصفور من طرف لآخر و تفحص الجدران و الدرابزون الذي نمر به. سألته:" هل أنت على ما يرام يا صغيري؟". و حينما دخلت للبهو و اقتربت من الباب، خطرت لها فمكة مرعبة:" مرحبا يا ماغي، أعلم أنني التقيت بك مرتين، في مسكني توجد مهواة، كما ترين.. على أية حال... سمعت صوت بكائك و.. و رغبت أن أهديك هذا العصفور؟". نعم، حسنا. يا للهراء. تجمدت أوصالها. و فكرت:" كلا. لا تتجمد من البرد". و نظرت للأسفل نحو العصفور. و عادت أدراجها إلى السلالم، و حينما أصبحت على أهبة التراجع، حصل ذلك. غرد العصفور. تغريدة قصيرة. فهمدت في مكانها. نظرت للأسفل إليه. كان يتأملها. و لم يعد بوسع مادلين أن تتحرك.

و انفتح باب الشقة. نظرت منه ماغي. " عصفور؟".

و شرع العصفور بالغناء. فخرجت ماغي إلى البهو.

قالت حينما تابع العصفور التغريد:" آه يا صغيري. كم أنت رائع. نعم". ثم التفتت إلى مادلين و قالت:" هاي".

ابتسمت لها مادلين. و احمر وجهها. و لم تكن متأكدة أنه بوسعها أن تنسحب. فرفعت ذراعها ببطء لتقدم القفص لماغي. قفز العصفور و ارتطم بباب القفص الأمامي ليرحب بماغي. فانحنت له ماغي و لامست القضبان القريبة من العصفور بأناملها.

" إ،،،إ،،، اشتريته لك".

رفعت ماغي عينيها لمادلين. كانت هادئة. قالت:" آه". و ابتسمت بصمت، و قطبت أساريرها لدقيقة من الوقت ثم اخضلت عيناها بالدموع.

< 5 >

تناولت القفص من مادلين بيدين ترتعشان قليلا. و تابعت التحديق بمادلين و قالت:" هل تودين الدخول؟".

حاولت مادلين أن ترسم ابتسامة تهدئة و قالت:" نعم، بالتأكيد".

أول شيء لاحظته مادلين، حينما أصبحت في الداخل، هو النباتات. ليس كميتها- هناك عدد لا بأس به - و لكن اخضرارها. أو أي شيء من هذا القبيل. فقد أحاطت بفراغ النافذتين الصغيرتين.

" كيف تحافظين على اللون الأخضر لنباتاتك؟".

و قبل أن تحصل على إجابة، شعرت بيد ناعمة تلامس رقبتها. استدارت فمالت ماغي عليها و قبلتها.

همست ماغي تقول:" شكرا".

نظرت مادلين في عينيها، أما ماغي فقد اقتربت منها و بدأت تسرّح لها بمحبة خصلة الشعر المنسدلة على جبينها. ثم قبلتها مجددا.

قالت ماغي:" أتبادل معهم الحديث".

فابتسمت مادلين.

قالت مادلين و هي تتلمس يدي ماغي اللتين تلامسان خصرها:" هناك شيء أود أن أطلعك عليه". و نظرت للطائر الذي لا يزال ملتصقا بباب القفص، لينظر للمرأتين بإمعان.

" حسنا. هذا شيء سخيف و لكن... أول مرة حينما كنت... حسنا...،". و شردت. ثم تابعت تقول:" حينما حضرت الفيلم كنت أود أن اقول لك.. أنا لا أحب وودي ألان، و أعتقد أنه يرتكب الكبائر. و لكن أحببت ذلك الفيلم. نعم. هكذا فكرت هناك". و تنفست ثم ضحكت بطريقة غريبة.

ضحكت ماغي. و قبلت جبين مادلين.

تابعت مادلين بحياء:" رسمت المرأة التي تمثل في الفيلم".

هزت ماغي رأسها و ابتسمت.

< 6 >

تلفتت مادلين في أرجاء الشقة ثم تأملت ماغي.

سألتها مادلين:" أول صديقة حميمة".

هزت ماغي رأسها بالإيجاب و قالت بهدوء. " اللقطات السريعة".

ابتسمت مادلين و قالت:" كنت أنظر لك كشبح".

ضحكت ماغي و قالت:" و كيف تعرفين أنني لست كذلك".

" حسنا. أعتقد أنني لست متأكدة". و شردت و نظرت للعصفور و قالت:" لكن العصفور يستطيع أن يراك أيضا".

" ربما ذلك العصفور الجميل شاهد الكثير من الأشباح".

التزمت مادلين بالهدوء. نظرت نحو الأرض. و رفعت بصرها إلى ماغي، و اهتز رأسها قليلا كأنها عصفور. و قالت:" و أنت هل رأيت شبحا؟".

وقفت ماغي. و تنهدت. و قالت بنعومة:" لست متأكدة". و أصبحت نظرتها بعيدة و منفصلة. التقطت مادلين أنفاسها و اقتربت بخطواتها من ماغي، ثم ضغت يدها قليلا براحة يدها. و أغمضت عينيها، و مالت عليها ثم طبعت قبلة على وجهها تحت أذنها مباشرة و قالت:" لا مانع عندي. لا أشتكي من ذلك".

كانون الثاني 2002

جيسي ميلر Jesse Miller: مخرج أفلام مستقلة، و فنان متعدد الوسائط و كاتب. أمريكي ويعيش في بيركلي، كاليفورنيا.

الترجمة من ( إيست أوف ذي ويب )






























































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow