Alef Logo
المرصد الصحفي
              

العالم العائم

محمود الزيباوي

2008-06-06


يعرض "متحف غيميه" في باريس مجموعة استثنائية من أعمال هوكوسائي، أشهر التشكيليين اليابانيين في القرن التاسع عشر. يأتي هذا المعرض تحت عنوان "هوكوسائي، المجنون بفنّه، من إدمون غونكور إلى نوربير لاغان"، ويضم كل ما جمعه "متحف غيميه" من أعمال هذا الفنان الكبير منذ أكثر من مئة وعشرين عاماً إلى يومنا هذا. حظي هذا الفنان الخلاّق بشهرة واسعة في فرنسا فاقت شهرته في موطنه، واقتنى أعماله الكثير من أعلام الأدب والفن، في مقدّمهم إدمون غونكور، أوّل من أنجز دراسة خاصة بإنتاجه. وجدت هذه المجموعات الخاصة طريقها إلى "متحف غيميه" تباعاً، وشكّلت أهم مجموعات هوكوسائي المحفوظة في متاحف أوروبا والولايات المتحدة من حيث العدد والقيمة الفنية. للمرة الأولى، يعرض هذا المتحف العريق مجموعته كاملة، ضمن تظاهرة احتفالية برائد مدرسة الـ"لأوكيدو-إه" تستمر حتى الرابع من شهر آب.

اختلفت الروايات في اسمه وأصله ونسبه. اسمه الرسمي توكيتار بن ناكاجيما إيس. وُلد عام 1760 في ناحية من نواحي مدينة إيدو، وهو الإسم القديم لطوكيو، ومعناه "ميناء الخليج"، ونشأ في كنف عائلة من الحرفيين. تقول بعض الروايات إنه من أبوين مجهولين، وإنه حمل الاسم الذي أطلقه عليه والداه بالتبني وهو في الثالثة من عمره. اختار مبكرا طريق الفن، وبدأ بتعلّم فنون الحفر والطباعة في إحدى المطابع، وأقدم ما وصلنا من أعماله ستة رسوم زيّنت رواية فكاهية شعبية صدرت في عام 1775. في عام 1779، دخل محترف المعلّم كاتسوكاوا شونشو حيث تعلّم أصول الحفر والطباعة على الخشب. تابع دراسته الفنية على رغم الفقر والعوز، واختبر التقنيات اليابانية المختلفة وتلقّى أصول تصوير الأبعاد على يد رسام ياباني يُدعى شيبا كولان، عمل مع تشكيليين هولنديين. وقّع أعماله في تلك الفترة باسم شونرو، وفي فترة لاحقة، استبدل الاسم بـ"توارايا". في نهاية القرن الثامن عشر، تخلّى الفنان عن اسمه هذا لصالح أحد مريديه، واختار لنفسه اسم هوكاتشوسيكا هوكوسائي، ووقّع بعدها بأسماء أخرى، منها "غاركيو روجين"، أي "المجنون بالرسم"، إلا أن أشهر الأسماء التي اعتمدها يبقى هوكوسائي، وهو في اللفظ الشائع هوكوساي.

عاش هوكوساي حياة طويلة، وترك مجموعة لا تُحصى من اللوحات والرسوم والأعمال الطباعية، وقال في وصف مسيرته في الفن: "منذ السادسة من عمري، شرعت في رسم أشكال الأشياء. في الخمسين، نشرت عددا لا نهاية له من الرسوم، لكن كل ما أنجزته قبل بلوغي السبعين لا يرضيني. في الثالثة والسبعين بدأت بفهم أشكال الطيور والأسماك والنبات وطبيعتها، مما يعني أني سأتطور كثيرا حين أبلغ الثمانين، وأبلغ عندذاك عمق الأشياء. في المئة من عمري، سأصل بالتأكيد إلى درجة أعلى لا يمكن وصفها. في العاشرة بعد المئة، سيكون كل ما ارسمه حيا، سواء أكان ذلك نقطة أم سطرا. أسأل كل الذين سيعيشون بقدري أن يشهدوا إن كنت سأصدق في كلامي هذا. هذا الكلام مكتوب، في سن الخامسة والسبعين، مني أنا، هوكوساي قديما، واليوم غاركيو روجين، العجوز المجنون بالرسم". مات العجوز المجنون قبل أن يبلغ التسعين، وحصد في حياته شهرة واسعة في أوروبا، غير أنه بقي في بلاده فنانا "شعبيا" لا يرقى إلى مصاف الكبار، ولم يُكرَّس اسمه إلا بعد مرور عقود من الزمن على رحيله.


الصور العابرة

ارتبط اسم هوكوساي بمدرسة "لأوكيدو-إه"، أي "العالم العائم". ظهرت هذه الحركة الفنية اليابانية في بداية القرن السابع عشر، وقامت على تقنية خاصة بالطباعة تعتمد الحفر على خشب الكرز. في منتصف القرن الثامن عشر، عرفت هذه التقنية تطورا كبيرا تمثل في ابتكار الطباعة المتعددة اللون، وشكّل هذا التطور بداية العصر الذهبي لفن "العالم العائم". يعكس هذا الاسم مناخ الصور التي انتشرت عبر هذا الأسلوب، وهي في غالبيتها مشاهد تجسد تقلبات الطبيعة وتحولات الحياة الدنيوية بصورها العابرة.

اختبر هوكوساي التقنيات المتعددة التي وصل إليها كبار المعلّمين الذين سبقوه زمنيا في هذا المجال، وأنجز خلال مسيرته الطويلة مجموعات عديدة من الرسوم الطباعية تعتمد كل منها على موضوع محدد. انتشرت هذه المجموعات في اليابان، وعبرت شهرتها البحار، فبلغت باريس، ومنها وصلت إلى مدن أوروبية أخرى. على مستوى فني آخر، شكّلت هذه المجموعات آخر مراحل تطور مدرسة الـ"لأوكيدو-إه" وأرفعها شأنا، وقد تراجع هذا الفن في المرحلة التي تلت رحيل هوكوساي، وتقهقر أمام صعود المنهج الأكاديمي الغربي الذي اجتاح اليابان، تماما كما اجتاح مختلف أقاليم العالم القديم.
جاء هوكوساي من الوسط الشعبي، وعرفت أعماله نجاحا كبيرا في أوساط البورجوازية الصغرى، غير أن الطبقة الأريستوقراطية اليابانية لم تعترف بهذا النجاح، بل نظرت إليه بشيء من الازدراء. لم يخترق هذا الإنتاج الكبير حصن المدارس الكلاسيكية اليابانية، لكنه طبع بمفرداته وتراكيبه الفنون التطبيقية بطرقها المتعددة، وألهم الكثير من الحرفيين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر. دخلت أعمال هوكوساي الطباعية منازل العامة من التجار والصنّاع، وشكلت مصدرا أساسيا من مصادر تطور الفنون التزيينية في إشراقاتها الأخيرة. نقلت هذه الصور مشاهد حية من مدينة إيدو تصوّر العمال والتجار والعاهرات في مواقع العمل الخاصة بكل فئة من هذه الفئات الاجتماعية، كما سجّلت تحولات الطبيعة اليابانية عبر مناظر متعددة تستمد مادتها التشكيلية من بعض أشهر المعالم اليابانية. في باريس، تركت هذه الأعمال أثرا بالغا على كثير من الفنانين التشكيليين، أشهرهم كلود مونيه، فان غوغ، إدغار دوغا وتولوز لوتريك. تردد صدى هذا الأثر فى إنتاج فنانين ظهروا في زمن ما بعد الانطباعية، ومنهم بيار بونار وادوار فويار، على سبيل المثال لا الحصر. من جهة أخرى، لقي هذا الفن شهرة مماثلة في الأوساط الثقافية الأدبية، وكان أبرز أنصاره الأخوان جول وادمون غونكور، فريديريك فيلو وبيار لوتي. كذلك، أُعجب الكثير من كبار الذوّاقة الأثرياء بهذه الصور الآتية من خلف البحار، وبدأوا بتكوين مجموعات يابانية خاصة، وأهم هذه المجموعات تلك التي كوّنها هنري غيرنوشي، تيودور دوري، فيليب بورتي، إميل غيميه، فيليكس ريغاميه ونوربير لاغان. في ذلك الزمان، كان هاكوساي في اليابان حرفيا شعبيا لا يرتقي إنتاجه البتة إلى مصاف المعلّمين الكبار، وكان الـ"لأوكيدو-إه" في الأوساط الأميركية فنا ثانويا غالى النقاد الفرنسيون في رفع شأنه. عمّ الشغف بأعمال الفنان الياباني المدن الأوروبية بعد انتشاره في باريس، ولم يبلغ أميركا إلا في مرحلة لاحقة.

جبل فوجي

وجدت مجموعات "العالم العائم" الخاصة طريقها إلى المتاحف منذ نهاية القرن التاسع عشر. حصل "متحف غيميه" الخاص بالفنون الآسيوية على حصّة الأسد، وضمّت محفوظاته مجموعة كبيرة من أعمال هوكوساي، لعلّها أهم المجموعات المتحفية في الغرب. يعرض المتحف اليوم للمرة الأولى هذه المجموعة التي تضم أكثر من مئة وثلاثين عملا، ويأتي المعرض كتحية مزدوجة تشمل الفنان والذواقة الذين اقتنوا أعماله. تتوزع هذه المجموعة على ثلاثة أقسام رئيسية تشهد لتعددية الفنان في التأليف والتعبير والاختبار على مدى عقود من العطاء المتواصل. نشاهد بعض الأعمال التي صنعت مجد هوكوساي، ومنها "مشاهد جبل فوجي الستة والثلاثون" التي أنجزها بين 1926 و1933. أشهر هذه المشاهد هي قطعاً لوحة "الموجة الكبيرة في كاناغاو" التي تجسد تجليات "العالم العائم" في أحلى صوره، وتختصر أسلوب الفنان الياباني في محاكاة الواقع وإعادة صوغه في كتابة تشكيلية صرفة. إلى جانب مجموعة المناظر الطبيعية، تحضر مجموعات أخرى تستمد عناصرها من الحياة الاجتماعية، وأكثرها إثارةً الأعمال التي يطغى عليها الطابع الجنسي الفجّ الذي اشتهر به اليابانيون، وأشهر هذه الأعمال لوحة "حلم زوجة البحار" التي تصور امرأة تجامع أخطبوطا عملاقا. تأخذ هذه المشاهد الحية طابعا إنشائيا في بعض الأحيان، كما أنها تخرج من حدود الواقع لتخترق آفاق المدهش والمستحيل. من جهة أخرى، يبرز هوكوساي كرسام من الطراز الأول في الصفحات التخطيطية التي أطلق عليها اسم "مانغا"، وهو تعبير ياباني يُمكن ترجمته بـ"صورة عابثة"، يشمل اليوم صروفا عدة من "الشرائط المصورة" اليابانية الرائجة في أنحاء العالم المعاصر.
ينتقل الفنان من الصور العابثة إلى الصور المرهفة بحرية تامة، ويبدع في كل الميادين التي يدخلها، جامعا بين التأصل في التقليد والابتكار الخلاق. تغيب الحدود التي تفصل عادةً بين الفنون الكبرى والفنون الصغرى، وتتحول المفردات الزخرفية إلى قيم تشكيلية عالية. في ظاهرها، تبدو المجموعات الخاصة بالورود والأسماك والطيور أشبه بالرسوم التوثيقية الإيضاحية الخاصة بالموسوعات التعريفية،

لكنها في عمقها تقاسيم وتراكيب تسحر العين والروح في آن واحد. نمشي في طرق مدينة إيدو التي تضج بالحياة، وندخل المقاهي المعروفة بـ"بيوت الشاي" حيث تخلو النساء إلى أنفسهن. نعبر البحار والأنهر ونبلغ قمة جبل فوجي الثابتة والمتغيرة، والمتلألئة بألف لون ولون. نتعرف الى عناصر أليفة تردّد صداها في أعمال مونيه وفان غوغ، وهي صور لجسور تربط بين ضفة وضفة، وأغصان مزهرة تحتل مسافة التأليف كلها، وسهول وارفة ظهرت على أطباق وصحون، فبدت كأنها لوحات في لوحات. نتأمل في الموجة التي تقذف الموجة، ونتذكر ما قاله شاعر من شعراء اليابان منذ أكثر من ألف عام: "أكثر فأكثر/ يزداد حنيني إلى/ بلدي الذي غادرته/ آه كم احسد الموج الذي/ يستطيع الرجوع!" ■


محمود الزيباوي
ملحق النهار

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

قولوا للثوّار يضلّن ثوّار/تدمر انتهت من الأرض/صارت الصرخة وصارت النار

16-حزيران-2015

لاذقية العرب

29-آب-2011

العالم العائم

06-حزيران-2008

رحلة إلى جيفرني

08-أيار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow