Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

قصة / حفلة كوكتيل في استراحة دوني ـ ويليام تريفير

صالح الرزوق

خاص ألف

2006-02-15


" لقد نسيتني تماما ". كانت تلك هي الكلمات الأولى التي وجهتها له السيدة فاراداي في ألبيرغو سان لورينزو ، كانت امرأة طويلة ، ذات شعر أسود ، و ترتدي معطفا من الشامواه بلون الصدأ الأحمر و بتفصيلة ذات طراز إيطالي. ابتسمت. و كانت لها أسنان متناسقة بيضاء ، أما ظل طلاء الشفاه الخاص بها كان كما يبدو على توافق مع لون معطفها. و كانت لهجتها أمريكية ، و صوتها ناعما ، مع أثر لبحة خفيفة. من ناحية العمر كانت تبلغ الخامسة و ربما السابعة و الثلاثين ، و لكن بكل تأكيد ليس ما يزيد على ذلك. قالت له مع ابتسامة أطول : " لقد تقابلنا من فترة بعيدة. لا أعلم لم لا أنسى الوجوه أبدا" .
كانت متزوجة من رجل يمتلك مصنعا لإنتاج الورق قرب إحدى المدن الأمريكية الصغيرة التي لم يسمع بها من قبل. كانت امرأة جميلة فعلا ، و لكنه لم يكن يتذكرها ، لا هي و لا زوجها. حتى أن اسمها كان بلا معنى بالنسبة له ، و حينما أخبرته عن تفاصيل خاصة بعمل زوجها لم تنتعش ذاكرته. كانت عيناها بنيتين ، و تتحكم بقسماتها الكلاسيكية.
قال بقصد المجاملة و لو كاذبا : " طبعا ". و ضحكت لذلك ، و كأنها خمنت ببساطة أن رده عبارة عن أكذوبة . و قالت : " حسنا في أية حال. تحياتي لك ".
كان الوقت بعد الوجبة الرئيسية تقريبا ، و الساعة حوالي العاشرة. أخذا شرابا في البار ما دام ذلك هو الشيء الطبيعي الذي بمقدورنا أن نقوم به. و توجب عليها أن تؤدي ذلك بنوع من السلوك الطقوسي ، كانت في فلورانسا ( 1 ) من أجل بيتي دونا ( 2 ) ، و هي دائما تعود في شباط. " حظ سعيد أن نلتقي من جديد. من الممكن أن تجد الناس في مثل تلك المعارض التجارية الرخيصة ".
" ألا تزورين المتاحف ؟ الكنائس ؟ ".
" طبعا ".
و حينما استفسر إذا كان زوجها يرافقها في رحلاتها إلى فلورانسا ، ردت أن المتاحف ، و الكنائس ، و بيتي دونا ترهق مزاج زوجها إلى أبعد الحدود. إنه رجل لا يتأقلم مع أوروبا ، و يفضل ملاعب السباق المحلية.
" و ماذا عن زوجتك ؟ هل هي برفقتك ؟".
" في الواقع أنا عازب ".
تمنى لو أنه لم يلتق بالسيدة فاراداي. لم يكن يهتم بمقاربات من هذا النمط ، و إن امتعاضها من الناس الذين يشتركون في معارض تجارية كما ذكرت ، يبدو خارج السياق ما داموا في النهاية ، أناسا لهم علاقة بعملها. و حقيقة أنها متزوجة من رجل يفضل ميدان السباق على الثقافة ، أمر بالكاد يحرك اهتمام الغرباء. قبل إسدال ستار النهاية على هذا الحوار ، كان واثقا أنهما لم يلتقيا في أية مناسبة سابقة .
قال و هو ينهض بعد أن انتهت من مشروبها : " يجب أن أقول لك عمت مساء. أنا أميل بالعادة إلى النهوض من الفراش في وقت مبكر ".
" أستغرب أنني مثلك !".
" عمت مساء سيدة فاراداي ".
في فراشه جلس على طرف السرير ، و كان يقلّب أفكاره في أشياء غير محددة. ثم تخلص من ثيابه و نظف أسنانه بالفرشاة. و تفحص وجهه بمرآة مسودّة قليلا كانت مثبتة فوق المغسلة. كان في السابعة و الخمسين، و لكن بالتدقيق في هذه الصورة سوف تعطيه عمرا أكبر. إن وجهه لا شك سيبدو أكثر شبابا لو اعتنى بزيادة وزنه قليلا ، السمنة تساعد في التغطية على حالة الشعور بالخطايا. و لكنه لم يكن يرغب بذلك ، كان يحب أن ينظر إليه الآخرون على أنه وراء حدود الأشياء. أطفأ صباح المرآة و أوى إلى السرير. قرأ في ( صديقنا المشترك ) ( 3 ) ، ثم تأمل الظلمة لفترة وجيزة.
فكر بدافني و لوسي – لوسي الناعمة ذات الشعر الأسود و التي أعربت في البداية عن قلة اهتمامها بالموضوع ، ثم دافني ذات العينين الزرقاوين و الواثقتين. لقد أنحى باللائمة على دافني ، و ليس على نفسه ، ثم قلب المسألة في ذهنه و طلب المغفرة ، كان اللوم يقع على كليهما بخصوص تلك الأخطاء المريعة التي تأتي بعد زواج من الأفضل له أن لا يتم ، مع ذلك أكد فيما بعد أنا أيا منهما ليس خاطئا ، من كان يتوقع أنهما غير منسجمين إلى هذا الحد ؟. و لكن مع لوسي بدأ يدرك الحقائق ، عانت المسكينة لوسي على نحو أعمق .
و غط في النوم و حلم أنه في بادوا ( 4 ) مع صديق من أزمنة بعيدة ، و كانا لا يتنزهان في حدائق النباتات النادرة ، و كان يشرح لصديقه أن دليل السياحة الذي ألفه لم يعمر طويلا. نفدت الفائدة منه بسرعة لأنه اعتمد في كل صفحة على حقائق ذات صفة مؤقتة. و قال له صديقه القديم ، كان جيريمي : " أنت إذا تشعر بالعار من دليلك السياحي . لم أنت مغمور بهذا العار يا عزيزي ؟. لم ؟ ". ثم ظهرت روزي في الحلم و كان جيريمي يقهقه من الضحك ، و يسخر منه ، قائلا إنه تلقى إرشادات مفيدة جدا ساعدته على المرور في طرقات الحديقة. و صاحت روزي بحنق : " لقد قادني فيها أيضا. يا إلهي. و كل ما استطاع أن يقوم به هو البكاء و حسب ".

تمهل عند طيور جامبليون ( 5 ) في بارجليو ( 6 ) ، و استمتع بالطمأنينة مع مينو دا نيسول ( 7 ) . إن هذا يكفي في يوم واحد ، و عليك أن تعود في الغد.

كان يحب أن يسن القوانين . و أحب أيضا أن يغامر مع هذه الحقائق ، بانتظار تعليمات مناقضة . في ذروة الموسم هنالك إثنا عشرضعفا من الغرباء بالمقارنة مع المحليين في هذه المدينة التي يلفها الغبار و أوراق المهملات : الجداريات الغرافيكية ترحب بهم – أعضاء الذكورة أصبحت لها هيئة فلورنسية مبسطة ، صلبان معقوفة في حالة تأهب ، و مطارق و مناجل في شوارع فرا أنجيليكو ( 8 ) المهذب و الأنيق ...

في وقت الغداء يوم التقى بالسيدة فاراداي كان في ( دوني ) مع أمريكيين آخرين. و لدى رؤيتها في ذلك الجو المرتب شعر بالدهشة لأنها لم تغادر ألبيرغو سان لورينزو لتذهب إلى السافوي أو إكسيليسيور . إن جو سان لورينزو كله من خصائص الماضي : فالفندق القديم تقهقر تماما. بليت ستائره ، و هواتفه أصبحت عاطلة عن العمل . و كرهه معظم الأمريكيين.
نادت عليه من طرف المطعم الآخر مع ابتسامة و تلويحة بقائمة الأطعمة قائلة : ( هاي !).
هز لها برأسه ، و لم يرغب أن يبدو يتجنبها. و كان الناس الذين برفقتها يتحدثون عن المزاد الذي اشتركوا به في بيتي دونا . همسات من حوارهم حملته النسمات الخفيفة من تلك الطاولة ، مع إشارة إلى أرباح ممكنة تقاطعت مع ما يلهب الخيال.
طلب تالايتيل (9 ) و السلطة الخاصة ، ثم أخذ نظرة من نازيون ( 10 ) . كان جثمان البنت الصغيرة غابرييلا قد وجد ممدودا في حديقة بفلورنسا. و في نفس الوقت تم التعريف بالشبان الذين روعوا المناطق المجاورة من سانتا كروس ( 11 ) بعد إلقاء القبض عليهم. بنتان ألمانيتان ، كانتا تتنزهان في الجنوب ، أجبرتا على الشرب حتى الثمالة ، ثم اغتصبتا داخل كوخ في قرية. و لمحت نازيون أن غابرييلا – الفتاة الميتة – هي شاهدة بالصدفة على توزيع المخدرات في الحديقة.
قالت له السيدة فاراداي و هي تقف قرب منضدته بعد أن انتهى من التالايتيل : " أحسدك على عملك ". و كان مرافقوها قد سبقوها بالخروج. و ابتسمت ، كأنه صديق قديم ، ثم جلست معه. و أضافت : " أعتقد أنني أرغب بالتخلص من صحابي الإثنين ".
عرض عليها كأسا من النبيذ ، و لكنها هزت برأسها و قالت : " سأشرب قدحا آخر من الكاباتشينو ".
طلب القهوة. و طوى الجريدة ، و وضعها على المقعد الفارغ بقربه. و كما لو أن السيدة فاراداي خططت لفترة أطول معه ، علقت معطفها الشامواه على ظهر الكرسي.
و قالت مجددا : " أحسدك على عملك. أنا أعشق الترحال ".
كانت قد وضعت عقدا من اللآلئ حول رقبتها ، و ارتدت ثوبا أسود. و ازدحمت الخواتم في أصابعها ، و كذلك كانت الأقراط ترن. أيضا أظافرها مشذبة و مدهونة ، أما وجهها فقد أغدقت عليه الماكياج كما في الليلة الماضية.
سألت حينما أحضر النادل لهما القهوة : " هل تمانع .. أقصد دهشتي من عدم و الزواج ؟".
قال إنه لا يمانع.
" الزواج ليس تبدلا قطعيا ".
و أشعلت سيجارة. هي تزوجت من الرجل صاحب معمل الورق فقط. و لديها طفل واحد ، ابنة توفيت بعد أسبوع. و لم تتمكن من إنجاب أولاد آخرين.
قال لها : " أشاطرك الأسى ".
نظرت إليه عن مقربة ، و كان دخان السيجارة يضع خيوطا من الدخان بينهما. بطرف لسانها التصق خيط من التبغ كان في زاوية فمها. ثم أضافت إن الزواج ليس بالأمر الذي يهز الأعماق . و استطردت كأنها تعزو وزنا أكبر لهذه الحقيقة :" استعصى علي النوم بعد الرقاد أمس. كنت أفكر لو تبتلعني هذه المدينة ".
لم يعلق ، و لم يدرك ماذا تقصد. و لم يرغب بالتفكير في هذه المرأة الجميلة التي اضطجعت في غرفة نومها في ألبيرغو سان لورينزو و دون أن يغمض لها جفن. تخيلها و هي تتأمل العتمات ، مع طرف سيجارتها الملتهب ، و مع أصوات تنفسها. كانت لا شك تبحث عن علاقة ، هكذا افترض ، و تمنى لو تنتبه أنه ليس هذا النوع من الرجال .
" لا أمانع أن أعيش على طرف الميزان هنا. حبي لهذا المكان ينمو سنويا ".
" أجل . إنها مدينة رائعة ".
" هناك مكان يسمى بالازو ريكازولي حيث يمكنك استئجار دارة صغيرة. قد أستقر هنا ".
" أقدر ذلك ".
" قد أخبرك بسر عن بالازو ريكازولي ".
" نعم سيدة فاراداي ".
" لقد أمضيت أسبوعا هناك ".
و جرع قليلا من القهوة ليتجنب الكلام. ثم تنهد من غير صوت.
" مع فتى قابلته في بيتي دونا. رجل من بلادك. من مكان يسمى هورشام ".
" لم أذهب إلى هورشام في حياتي ".
" آه يا إلهي . هل أسبب لك المتاعب ؟".
" كلا . لا بأس ".
" يا ربي . كم أنا آسفة!. أنا كذلك فعلا ! أرجوك أكد لي أنك غير متورط معي ".
" أؤكد لك ذلك يا سيدة فاراداي. أنا لا أتأثر بسهولة ".
" أنا امرأة مريعة و غبية و أسبب المتاعب لسيد إنكليزي محترم! من فضلك أخبرني أنك تغفر لي ".
" ليس هناك ما أغفره لك على الإطلاق ".
بعد أن استعادت جأشها قالت : " كانت زلة ، لو رغبت بالحقيقة .. أخبرني ماذا تخطط لتكتب في دليلك السياحي عن فلورنسا ؟".
" أشياء عامة على الأغلب ".
" آه . هيا أفصح ".
جرع ريقه. فقالت : " سوف أبوح لك بأخص الأسرار. لك وجه ذكي الملامح لم أشاهد مثله خلال سنوات !".
لم يعلق على ذلك أيضا. أطفأت سيجارتها و على الفور أشعلت غيرها. و سحبت خريطة من محفظة يدها و فتحتها. ثم قالت : " هل بمقدورك أن تشير لي إلى مكان سانتو سبيريتو ؟".
حدد مكان الكنيسة و لفت انتباهها ثم حذرها من إشارات المرور و التي تتعامل مع تقاطع الطرق على أساس اتجاه واحد.
ابتسمت له ، و هكذا ظهر صف أسنانها المتناسقة و العجيبة ، كما لو أنها تقدم له مكافأة على معونته ، و قالت : " كم أنت لطيف . بالتأكيد أنت لطيف المعشر ".

**

سار حول قطر كاسين بارك الطويل جدا ، تجاوز مدينة الملاهي و حديقة الحيوانات و ميدان السباق. كان الأمر ممتعا تحت أشعة شمس شباط ، حيث بوادر اللون الأخضر الربيعي يصبغ شجيرات البتولا المتفرعة و الضعيفة التي تنمو بمحاذاة النهر. كان العشاق متعانقين في مقاعدهم أو في السيارات ، و الأولاد يحملون البالونات. و كانت الأكشاك تبيع اللحوم و المكسرات و الكوكا كولا و السفن أب . أما العداؤون ببذات التدريب كانوا يهرولون في ميدان سباق الدراجات. و " هو فام " شاب و بدين استلقى على لوح من الأخشاب أمامه ، و استغرق بالنوم في انتظار التبرعات. كانت روزي صديقته تقول إنه يكتب عن المدن الإيطالية بطريقة تنمي لديه الإحساس بالغربة المستمرة. حسنا. كان ذلك صحيحا ، هكذا فكر في كاسين بارك ، و ليتخلص من آثار صداقته الفاشلة مع روزي سمح لجمال السيدة فاراداي أن ينشط في مخيلته. كان من الممكن لجمالها أن يجلب له البهجة لو أنه لم يلاحظ أعقاب سجائرها المصبوغة بلون طلاء شفتيها ، و ثرثرتها الجوفاء المتكررة التي لا تنتهي.
كان زوجها رجلا طيبا ، أكدت على ذلك ، و لكن الرجل الطيب ليس نوعية من الرجال الذين ترغب بهم المرأة باستمرار. و على ما يبدو أصبح بديهيا لها أن ابنتها عاشت لمدة أسبوع واحد فقط ، لأن زواجها لم يكن يستحق التورط مع الأطفال. و قد رغبت أن تواجه اعترافها عن حادثة سانتو سبيرتو ، كما قالت ، فهي تحبذ الإقرار و الاعترافات.
نهضت من الكنبة في صالة ألبيرغو سان لورينزو حالما شاهدته و قالت : " هل هو عمل أخرق أن أدعوك إلى العشاء ؟ أنا حقا أود لو توافق ". و لم تبذل جهدا لتغطي على إصرارها المقصود في انتظاره. حاول أن يقول في رده إنه يفضل لو يكون وحده. و حاول أن يصرح لها بوضوح ، و لمرة واحدة ، إنه لم يقابلها في الماضي أبدا ، و ليس لديها الحق لتطلب منه أي طلب.
و لكنها قالت بصيغة تقريرية و بعنجهية لا تصدر إلا عن الجميلات : " اختر اسم المكان ".
في المطعم كانت تلتهم المعكرونة ، دون التوقف عن الكلام ، في محاولة لتوضيح أن زوجها اشترى لها النوفوتيه لتكون مشغولة و سعيدة. و حسب أقوالها لم ينفع ذلك. و كانت تقصد أن نوفوتيه الأناقة الذي ملأ أوقاتها لم يجلب لها الثقة بالنفس. أما وجهها الذي كان يخلو من الانطباعات عموما فقد احتدم بالبهجة أكثر مما سبق ، و أصبح يميل إلى الحزن و سهولة الانكسار كما لو أنه لا ينتمي إلى الصوت الذي تدمدم به.
نظر بعيدا ، كان المطعم تزينه لوحات حديثة ، و لم يكن مملوءا بالزبائن. رجل عجوز و متأهب يجلس وحيدا كان يتبادل الكلام على دفعات مع الندل. و زوج من الألمان يتهامسان. ثم رجلان و امرأة يتراشقون بكلمات سريعة و بالإيطالية لاستهجان مصرع البنت الصغير غابرييلا.
قالت له السيدة فاراداي : " لا بد أن هذا وقت عصيب لمريم العذراء ، في لحظة تكون منكبة على قراءة كتاب و في اللحظة التالية ترى مخلوقا بأجنحة يهيمن عليها ".
و كما أشارت يكون لذلك معنى لو فكرت به على أنها عذراء أحلامك. فالملاك ليس هناك بالفعل ، و العذراء نفسها لم تكن تقرأ فعلا في ذلك المحيط العرمرم. ثم تابعت السيدة فاراداي تقول : " على ما أظن أنها حلمت فيما بعد بملاك آخر قادم ليحذرها من ميعاد موتها ".
لم يكن يصغي . أحضر لهما النادل سمك السلمون المدخن مع السلطة. و أشعلت السيدة فاراداي سيجارة ، ثم قالت : " الفتى الذي ارتبطت به في بالازو ريكاسولي لم يكن أفضل حالا من العهر الذكوري. و على ما أظن ليس لدي توضيح لهذا السلوك ".
لم يرد. . فأطفأت سيجارتها. و على ما يبدو أنها لاحظت أن الطعام أصبح بمكانه أمامها. سألته عن الفنانين التشكيليين الذين ينتمون إلى عصر النهضة في فلورنسا ، و عن أرستقراطيي أهل المدينة. و استفسرت منه لم أضرمت النار بسافونارولا ( 12 ) ، فرد يقول إن سافونارولا تسبب بإشاعة الذعر بين الناس. التزمت بالصمت لفترة ، ثم مالت إلى الأمام ، و وضعت يدها فوق ذراعه و قالت : " خبرني بالمزيد عن نفسك من فضلك ". كان صوتها يتمتع بالإصرار و العزم ، و يثير أعصابه أكثر مما مضى. أخبرها بأشياء سطحية، و عن المدن الإيطالية الأخرى التي كتب عنها نشرات سياحية ، و عن المدن المشيدة على الهضاب في توسكانيا ( 13 ) ، و عن سينك تيري ( 14 ) . و بسبب تحفظه قالت له حينما توقف عن الكلام : " لم أنجح في دفعك للتعبير عن مكنوناتك ". و أضافت إنه الألطف بين جميع من تحدثت معهم حسبما تسعفها ذاكرتها. و ربما كانت ثملة ، إنه من المستحيل أن نقرر بصدد ذلك.
قالت : " زوجي لم يسمع بميديسيز ( 15 ) و لا أي شيء آخر من هذا النوع. لم يسمع كذلك بمازاشيو ( 16 ) ، هل تفهم ما أقصد ؟".
" أجل . لقد أوضحت لي ماهية و نوع زوجك ".
" لقد أفسدت كل شيء ، أليس كذلك. حين أخبرتك عن بالازو ريكازولي ؟".
" أفسدت ماذا يا سيدة فاراداي ؟".
" آ ، لا أعلم ".
جلسا لفترة أطول مع الصمت ، للانتهاء من النبيذ و شرب القهوة. و مرة مدت يدها عبر المنضدة لتضعها على إحدى يديه. ثم رددت ما قالته منذ قليل ، عن خصاله اللطيفة.
قال لها : " تأخر بنا الوقت ".
" أعلم ذلك يا عزيزي. أعلم ذلك. و أنت تستيقظ في وقت مبكر ".
دفع الفاتورة ، رغم احتجاجها أن هذه هي دعوة منها . و أصرت على تناول العشاء معا في وقت متأخر آخر لتسنح لها الفرصة بسداد هذا الدين. ثم تأبطت ذراعه إلى الشارع.
" هل تأتي برفقتي إلى مايانو ( 17 ) ذات يوم ؟".
" مايانو؟".
" إنه ليست بعيدة . يقولون إنه من الممتع أن تتنزه سيرا على الأقدام في مايانو ".
" أنا فعلا مشغول جدا كما تعلمين ".
" آه يا إلهي ، هل أضايقك! لقد كنت أهذي بترهات ! انس مايانو . أنا آسفة ".
" حاولت أن أقول يا سيدة فاراداي أنني لن أنفعك كثيرا ".
ثم انتبه إلى الإحراج الذي تسببت به حين قبضت على يده. كانت ذراعها ملفوفة حول ذراعه و راحتا يديهما متعانقتين على نحو ما. و كانت أصابعها الآن تعبث بأصابعه ، و لكنه لم يقاطع هذا التودد.
" لديك صوت مهذب لم أسمع بمثله من قبل ! أخبرني أنك ستقابلني كرة أخرى ؟. لمرة واحدة ؟ ربما على كوكتيل في الغد ؟ رجاء ".
" انظري يا سيدة فاراداي ـــــ ".
" قل في السادسة في استراحة دوني . و أعدك أن لا أنبس بحرف واحد لو كانت هذه رغبتك. سوف نصغي إلى الموسيقا فقط ".
كانت راحة يدها باردة. و لكن أحد أصابعها التف بحركة دائرية حول أحد أصابعه. كانت روزي تقول له إنه دائما يعرج في هذه الحياة. و في النهاية كان جيريمي مترعا بالأسف له. كان كلاهما على صواب ؛ آخرون نعتوه بكلام أشد . لقد كان مخلوقا سمجا و يستحق الشفقة.
" حسنا. لا بأس " .
تقدمت له بالشكر في ألبيرغو سان لورينزو لأنه استمع إليها ، و للعشاء ، و للنبيذ. و قالت عند عتبة غرفة نومها و كان يبدو أنها تقصد ما تقول : " أتمنى كل عام أن أقابل شخصا لطيفا في فلورنسا . و حدث ذلك لأول مرة الآن ".
تقدمت منه و طبعت قبلة على وجنته ، ثم أغلقت بابها. في مرآته العاكسة تأمل الأثر الخفيف الذي تركه طلاء الشفاه و لم يحاول أن يزيله. و استيقظ في الليل ، و بقي راقدا هناك يفكر فيها ، و يحزر هل إن طلاء الشفاه لا يزال على خده.

**

بانتظارها في استراحة دوني ، طلب كأسا من نبيذ أورفييتو المبرد. و كان صوت يغني ، في شريط مسجل ، أنشودة ( فوق قوس قزح ) ، و لكنه ليس صوت جودي غارلاند بالتأكيد ( 18 ) . فيما بعد هناك عزفت الموسيقا شتراوس و بعض الإيقاعات التي تعود إلى الثلاثينيات. و حتى حوالي الساعة السابعة لم تصل السيدة فاراداي. ثم غادر في الثامنة إلا ربعا.

**

في عصر اليوم التالي تجول في مجمعات سانتالا ماريا نوفيلا ( 19 ) ، و هو يفكر من جديد بالسيدة فاراداي الجميلة. لم تصل منها أية رسالة ، و لا ملاحظة للتوضيح أو للاعتذار لعدم حضورها إلى استراحة دوني. هل نسيت الموضوع ببساطة ؟. أو هل تعرفت على شخص بمواصفات أقوى ؟ رجل موفور الشباب لم تستطع ن تقاوم إغراءاته ، فتى مثل زوجها الطيب ليس لديه أية معلومة عن مازاشيو ؟. لقد كانت امرأة من النوع الذي يقع دائما في الحب ، و هذا ما كانت تعبر عنه بقولها الحب الذي يفسد الضمير. و تساءل هل هي من النوع الذي يشير إليه الناس بقولهم : رهاب نسوي ؟ و هل ذلك هو المسؤول عن شقائها ؟.
و تخيلها بين أحضان رجل اختارته. و تصور أنها تشعر بالرضا لأن ذلك الرجل أعطاها اهتمامه ، و كان ذرع أرجاء صالة تبيع الهدايا ، بحثا لها عن لون أخضر سوف يكون آخر صرعة لهذا الموسم ، و سوف تكون هي مختلفة بعد ممارسة الحب ، و مهمومة بأشغالها الخاصة ، و من غير وقت تهدره على الترهات و التصريحات. و مع ذلك إنه من المستغرب أن لا تترك رسالة له. لم تكن تبدو أنها فظة إلى هذا الحد ، أو غير قادرة على اختراع أعذار.
غادر المجمع و سار بتمهل فوق منصة سانتا ماريا فونيلا. بغض النظر عما قالته و عن أمنياتها الطيبة ، هل خمنت أنه لم يصغي إليها كما يجب و أنه كان مفتونا بمظهرها و ليس بها ؟. بل هل استطاعت أن تخمن بحقيقته ؟.
في تلك الأمسية لم يجدها في بار الفندق. و بحث عنها في استراحة دوني ، على أمل أنه حصل سوء تفاهم عن يوم الميعاد . انتظر لفترة ، ثم تناول الطعام وحيدا في المطعم و بحضور اللوحات الحديثة.

**

" نحن نحزم الثياب يا سينيور . هل الكارابينيري ( 20 ) الذي يحقق في حادث السينيورة أذن بذلك ، سينيور ".
أشار برأسه إلى عامل الاستقبال المدجج بشنب ثقيل و شق طريقه إلى البار. لو أنها برفقة أحد العشاق سوف تظهر أمامه الآن : من الصعب عليه أن يعتقد أنها غادرت الفندق بطريقة فوضوية ، و وراءها فاتورة غير مدفوعة ، و بالأخص أنها سوف تعود عاجلا أو آجلا من أجل ثيابها. حينما عبرت على نحو دراماتيكي عن رغبتها أن تبتلعها فلورنسا لم تقصد شيئا من هذا القبيل ؟. عاد على أعقابه إلى عامل الاستقبال. و سأله : " هل جواز سفر السيدة فاراداي معها ؟..
" نعم سينيور . السينيورة أخذت جواز سفرها ".
لم يستطع أن يرقد في تلك الليلة. إن ابتسامتها و عينيها الكتومتين و البنيتين استطاعتا أن تغزوا الحيادية التي حاول أن يتمسك بها. لقد وضعت ساقا على ساق ، و بدلت بينهما. حملت كوبا آخر. و أصابعها ذات الخواتم أطفأت سيجارة أخرى، و أقراطها رنت بصوت خافت. في الصباح سأل عامل الاستقبال مجددا. لم تكن فاتورة الفندق مهمة ، هكذا قال موظف استقبال آخر بلهجة باذخة. و لو صادف و غادر أحدهم إيطاليا بعجلة ربما لأسباب تتعلق بالمرض ، أو الوفاة ، يمكن تجاوز فاتورة الحساب لفترة من الزمن.
" سوف ترسل لنا السينيورة من الولايات المتحدة شيكا. هكذا قال الكاربينيري ".
" نعم يجب أن أفترض ذلك ".
فتش في دليل الهواتف عن عنوان البيت الذي أشارت إليه. كانت البالازو ريكازولي في فيا مانتيليت. و قد ذهب إلى هناك على الأقدام ، حتى بورغاسان لورينزو و فيا سان غالو. حاجب في كشك زجاجي قال له ( كلا ) ثم قاده إلى المكتب. و هناك في المكتب قالت له فتاة حلوة ( كلا ) و هزت برأسها. ثم استدارت و سألت فتاة غيرها. و كررت هذه الفتاة المقولة ذاتها ( كلا ).
عاد مشيا إلى المدينة ، و ذهب إلى القنصلية الأمريكية في لونغارنو أميريتو. و جلس في مكتب رجل طويل القامة يدعى هامبر ، و هذا أصغى إليه في جو غير مهتم ثم اتصل بالشرطة. و بعد حوالي عشرين دقيقة أفلت السماعة. كانت ثيابه كلها بلون بني : البذة ، القميص ، ربطة العنق ، الحذاء ، و الفوطة أو المنديل. و كان أسمر. ظل آخر من اللون نفسه. كان بطيئا في كلامه، و له طرف ينتمي إلى أيام العالم القديم.
قال : " يعتقدون أنها ذهبت إلى مكان آخر. في نزهة من نوع خاص ". و صمت قليلا ليسمح لحركة تعجب أن تعبر عن نفسها في ملامحه الباردة ، و أضاف " و يعتقدون ربما فرت من تبعات فاتورة الفندق و تجاهلتها ".
" إنها صاحبة معرض أزياء محترمة ".
" الشرطة تعتقد أن المحترمون دائما يفاجئونك".
" هل بوسعك أن تستعلم لو أنها عادت إلى الولايات ؟. وفق أقوال سكان الفندق ، تلك هي نظرية أخرى من الكارابينيري ". شهق السيد هامبر و قال : " ما دمت أخبرتنا بحكايتك سوف أحاول ، بالطبع ، يا سيدي. هل الساعة و النصف وقت مناسب لتعود إلينا ؟ ".
جلس على عتبات بيازا ديللا ريبوبليكا. و تناول وجبة تورتيليني ( 21 ) و استمع إلى الحوارات العابرة. رجل معتوه جن في إحدى مدارس روما ، و احتجز الأطفال كرهائن ، و قتل مشرفا . محافظ روما تدخل و استسلم له المعتوه. لقد كان ذلك أمرا فظيعا، حسب أقوال الإيطاليين ، في غاية السوء مثل جريمة قتل غابرييلا.
سدد ثمن التورتيليني و غادر. ثم صعد إلى الشرفة – البيلفيدير ، لقتل الوقت. و اعتقد أنه رآها ، و لكن لدى التدقيق تأكد أنها امرأة أخرى لها نفس نوع المعطف الأحمر.
قال له السيد هامبر بلهجة عالمه القديم التي يعوزها الاهتمام : " لم ترجع إلى البلاد . لقد فتحت بابا يا سيدي . و فاراداي مسافر أيضا ".

**

في حجرة من مركز الشرطة بيّن لهم أن السيدة فاراداي كانت ببساطة زميلته في ألبيرغو سان لورينزو. و تقاسما وجبة مسائية ثم اختفت عن الأنظار. و هو افتقدها. و كانت لها علاقة مع أشخاص حضروا من أمريكا من أجل المعرض التجاري نفسه. و شاهدها معهم في المطعم. و هؤلاء الأشخاص يا سيدي عادوا إلى الولايات المتحدة. و هم يردون على استجواب الشرطة الأمريكية في هذا الوقت..
أمضى خمس ساعات بغرفة في مركز الشرطة ، و في اليوم التالي استدعي إلى هناك مجددا و وجهت إليه نفس الأسئلة. و في طريق الخروج ، و بهذه المناسبة ، شاهد رجلا اعتقد أنه زوجها ، رجلا ضخما بشعر أشقر ، و كان قلقا جدا حتى أنه تجاوز ضرورة النظر إليه. كان على يقين أنه لم يلتق به ، أو وقعت عينه عليه قبل الآن ، مثلما كان على يقين أنه لم يلتق بالسيدة فاراداي قبل أن تأتي و تقطع عليه طريقه في الفندق.
لم تحاول الشرطة استجوابه بعدئذ ، و استعاد جواز سفره المحجوز لمدة ست و خمسين ساعة. و في نهاية ذلك الأسبوع أشارت إحدى الصحف إلى توقيف امرأة أمريكية كانت متوارية. و لم يلتق بالسيد فاراداي مرة ثانية.
قال له السيد هامبر بعد حوالي شهر : " وجهة نظر الإيطاليين أنها ذهبت في إثر علاقة غرامية ، و هذه تحولت إلى حب حقيقي ، ففضلت أن تبقى حيث هي ".
" كنت أعتقد أن الإيطاليين يشيرون إلى فرارها من الفندق. أو أنها سقطت صريعة المرض ".
" أعادوا التفكير برأيهم إلى حد ما. و بضوء ملابسات مختلفة".
" أية ملابسات ؟"
قال السيد هامبر و هو ينقر على سطح مكتبه : " من أقوالك إن السيدة فاراداي كانت سيدة مغامرة. و يعزو أصدقاؤنا الإيطاليون إلى ذلك بعض المعنى. ألا توافق معي يا سيدي ؟".
هز رأسه بالنفي و قال : " هناك لدى السيدة فاراداي أشياء غير ذلك ".
" حسنا . طبعا أشياء أخرى. الكاربينيري رجال متعلمون. لا يسيرون وراء تخمينات كما تعلم ".
" إنها ليست امرأة ناشزة. مما قلت للشرطة قد يستنتجون ذلك. طبعا هي تتورط في حالات متطرفة. و ربما لذلك قفزوا إلى نتائج عامة ".
قال له السيد هامبر إنه لا يفهمه. و كرر هذه الكلمة مرارا " ناشزة ؟".
" مثلي. إنها تتعامل مع مسائل عابرة ".
" و هل أنت في عالم الأزياء أيضا يا سيدي ؟".
" كلا . لست كذلك. أنا أكتب نشرات سياحية ".
" حسنا. هذا يثير الاهتمام ".
نقر السيد هامبر على سطح المكتب بالسبابة كان من الواضح أنه يتمنى لو يختفي ضيفه من أمامه. و قلب ورقة كانت هناك.
" أنا أنصح السواح أن لوحات مثل غضب في الحديقة لبيترو بيروجينو ( 22 ) تستحق نظرة ثانية ، و أنا أرشح لهم زيارة حدائق بوبولي ( 23 ) . شيء من هذا القبيل ".
عبر الوجه المختلط للسيد هامبر عن اهتمامات مؤقتة. كان السواح خارج النطاق لديه. إنهم يفقدون جوازات سفرهم ، و ينسون الولاعات الأتوماتيكية في سياراتهم المستأجرة ، و هم منفصلون عن ذواتهم و محيرون. المدينة تستفيد في حياتها منهم ، و لكنها تحتقرهم أيضا. هذه الأفكار كانت لفترة قصيرة مفتوحة و متاحة و قد انعكست في عيني السيد هامبر البنيتين و الشاحبتين ، و لكنها سرعان ما ذابت. فتش في مكتبه مجددا ، و قال : " أنا محتار حول بعض التفاصيل . هل بوسعي أن أسأل من فضلك ؟".
" نعم . طبعا ".
" هل كنت ، كما تعلم ، آه ، تلتقي بالسيدة فاراداي ؟".
" تقصد هل كنت على علاقة معها ؟ كلا . لم أكن معها على علاقة ".
" كانت امرأة جميلة. و بكل المقاييس ، بمقاييسك أيضا ، أعني يا سيدي ، كانت ودودة معك ".
" نعم . كانت ودية معي ".
كانت تافهة بالنسبة لأمريكي ، و متحررة من أعباء الاهتمامات. لم تكن تخشى الغرباء ، و بحماقة سمحت لثروتها أن تبدو واضحة. أن تكون مكشوفا بمثابة نقيصة.
اعتذر السيد هامبر بقوله : " لم أقصد أن أتجسس يا سيدي. و لكن ببساطة وصل مخبرو السيد فاراداي السريون من فترة و الأفضل لنا أن نتبادل المعلومات من غير عوائق ".
" لم يقتربوا مني بعد ".
" لا شك أنهم يعتقدون أنك لن تساعدهم. السيد فاراداي نفسه عاد إلى الولايات . و من المحتمل أن تصله رسالة عن فدية إلى هناك ".
" إذا السيد فاراداي لا يصدق أن زوجته غادرت سعيا وراء نزوة عشق ".
" لا أحد بوسعه إهمال الحقائق يا سيدي. الاختطاف العشوائي يتفشى في طول و عرض إيطاليا".
" هل لدى الإيطاليين علم أن زوجها يمتلك معمل ورق ؟".
" أعتقد أنه مدهش ما تستنتجه من ذلك". قال السيد هامبر و هو يتفحص أطراف أنامله المشذبة بعناية. ثم أعاد ترتيب القسمات الهادئة على وجهه. لم يكن أمرا ذا شأن كيف تبدلت الحقائق التي سردها ، ذلك لن يثير الرعب في القنصلية الأمريكية. و أضاف يقول : " ليس هناك مطالبة يا سيدي. و لكن يجب أن نضع في الذهن أن محاولات الاختطاف لها نتائج وخيمة في هذه الأيام. في إيطاليا و في كل مكان آخر ".
" و هل يعتقد السيد فاراداي أن أمرا خاطئا وقع ؟".
" طبعا إن فاراداي مضطرب. و من كل بد قلق ".
هز برأسه ليؤكد على الموافقة . " طبعا " . إن زوجها من النوع الذي يصيبه القلق و الاضطراب ، حتى لو أن الشقاء و الخلاف قد دب في مؤسسته الزوجية. من الواضح أنها أيضا يئست من زواجها ؛ و كان اليأس هو القوة الدافعة لها أكثر من أي شعور آخر. بدونه كان من المقدر لها أن تصبح امرأة أخرى ، و في تلك الحالة طبعا ، سوف تنعدم هذه العلاقة العابرة بينهما: إن شقاءها هو الذي يرعى ذلك. و تردد صدى صوتها المبحوح في ذهنه و هي تقول : " أخبرني المزيد عن نفسك ". كانت جائعة لعلاقة صداقة. و لكنه لم يرد بشيء – لا شيء من الأمل المريض في غرف مستأجرة ، أو الغضب الذي يتحول إلى مرارة. لقد منحها الله الجمال ، و هو مخلوق غير سوي يضحك عليه الناس حينما يتعرفون عليه. هل كانت تنسى الإرهاق الذي يلازمها و في الحال ، مثلما تتخلص من ثوب تعتقد أنه جذاب ، لو أخبرها بالحقيقة في المطعم بين اللوحات الحديثة ؟. هل كانت ، أيضا ، ستقول بقهر إنه هو الذي قادها في مسالك الحديقة ؟.
قال السيد هامبر : " و هناك أيضا تحرياتنا الخاصة. بالإضافة إلى محققي فاراداي. فاراداي ، أؤكد لك ، لم يوفر عذرا. و لكن ملف الكارابينيري مغلق الآن. بوجود هذا القدر من التركيز سوف نجد ما يجب أن نجده ، يا سيدي".
" و أنا على يقين أنك ستفعل ما بطاقتك يا سيد هامبر ".
" نعم يا سيدي ".
نهض و كذلك نهض السيد هامبر ، و مد يده السمراء . كان مسرورا لأنهما التقيا ، كما قال السيد هامبر ، حتى في ظروف غير سعيدة من هذا النوع. كانت الدبلوماسية مثل الزيت في شخصية السيد هامبر. إنها تسهل له مرونة الحركة و تطري كلماته، و كانت عزلته تطفو منه ، لتأخذ الزاوية المثالية.
" وداعا سيد هامبر ".
تجاهل المصعد ، و هبط على سلالم درج القنصلية. علم أنها ميتة, و تصورها عارية و مستلقية في غابة ، و أسنانها المنتظمة تبرز قبيحة ، و جثمانها الأبيض فقد الحياة مثل البراءة العذرية للبنت الصغيرة في الحديقة العامة. لم تكن تشبه الرهاب النسوي ، أو حتى امرأة ناضجة ، حينما قبلت خده و تمنت له ليلة طيبة. مثل فتاة صغيرة كانت لا تزال عمياء و لا ترى البرد القارس الذي هو انعكاس على بساطتها ، الكلمات التي كتبها عن مدينة غدرت بها كانت غير منسجمة و أكاديمية ، و تلاشت من ذهنه . في كنيسة سانت كروس أنت تسير فوق الأضرحة لتبحث عن حياة جيوتو ( 24 ) من سانت فرانسيس. و على منصة سافونارولا الخاصة كانت مشاهد الحجارة الرمادية لا تكفل المغفرة للشرطية ذات الملامح الجميلة و الشعر المتطاير ، أو للهدوء الذي تحلى به السياح . الطموح الظالم و القاسي حوّل مدينتها إلى ما هي عليه ، و العنف الذي مبعثه شراهة عمرها قرون كان هو الدم الذي يجري في عروقها ، و تحت بصرها المعدني تجد قلبا من فولاذ. الفلورنسيون ، مثل السكان المحليين المثاليين ، يفحصون في المقام الأول العمل و النقود. و في بيازا سبينوزا كانت الطيور تفطر على نفايات الجياد المعروفة : في فلورنسا لا شيء يضيع هباء.
غادر القنصلية الأمريكية و ببطء سار في الممشى. كانت الشمس حارة ، و حركة المرور صاخبة. عبر الشارع و نظر إلى تحت حيث مياه أرنو ( 25 ) الخضراء ، و تساءل هل إن البقايا السوداء من حياة السيدة فاراداي قد جرفها التيار بعيدا في إحدى الليالي. في معارض أوفيزي ( 26 ) كان يتحرك من إعلان إلى آخر : سيمون مارتيني ، بالدوفينيتي ، لورينزو دي كريدي ، و غيرها. تمنى لو يجد أثرا لمعطفها الأحمر في سانتا ترينيتا ، و لكن الوجه مجددا كان يخص شخصا آخر. توقع أن تتصل من صالة المثلجات ، و لكن الصوت كان عبارة عن صدى في ذاكرته.
ابتعد عن النهر و بنفس الخطوات البطيئة سار إلى قلب المدينة. جلس خارج استراحة في بيازا ديللا ريبوبليكا ، و حاول أن يتصور أفكارها ، حيث كانت في الفراش تلك الليلة الأخيرة ، تدخن سيجارتها وراء العتمات. لقد وصلت على أسعد لحظات الحب ، حينما لم يتحطم شيء بعد ، و حينما كان التعاطف هو الثروة بحد ذاتها. لقد فكرت بنزهتهما على الأقدام في مايانو ، و كيف ستعرض الموضوع علنا مرة أخرى ، و كيف سيقول في هذه الجولة إنه موافق. فكرت كيف سيجتمعان في شقة واحد في بالازو ريكاسولي، و كيف سيكون الموضوع مختلفا في هذه المرة. لقد استقر رأيها أخيرا : إنها لن تعود إلى البلدة حيث يمتلك زوجها مصنعا للورق. و قد همست في العتمة تقول : " لم أحب أحدا كما يحصل الآن ".
في غرفته داخل الفندق حلق ذقنه و استحم و ارتدى بذة مكوية للتو. بطريقة ما أصبح ذلك عادة احتفالية منذ تلك الأمسية التي انتظرها فيها لأول مرة هناك ، ثم ذهب على استراحة دوني و في الساعة السادسة. راقب الأمريكيين الذين كانوا يحتسون الكوكتيل ، كان يدرك أن هناك يعني الأمان ، فهي لن تظهر فجأة. و استمع إلى الموسيقا التي قالت إنها تحبها. و بدأ ينوح عليها مثلما يفعل العشاق.

* مصدر القصة الأصلي :

Cocktails At Doney's , by : William Trevor, in : Best Short Stories, edited by : Giles Gordon and David Hughes, Heinemann, London ( 1086 ), p.p. 182 – 197 . after : The New Yorker, 8 April 1985 .










تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow