Alef Logo
ابداعات
              

جسد بطعم الندم / نص روائي :ج2

علي عبدالله سعيد

خاص ألف

2017-09-09

في العتم,
تلفون المرأة
يرن,
يرن في جرن, يرن في وقت متأخر جدا, حسب توقيت نومها, الذي يبدأ في التاسعة, ربما قبل التاسعة.. ثم يرن طويلا في المخيلة, في المرآة الباردة, في الوسادة الغارقة, في البلل, المرأة تستيقظ مذعورة, تنزع عنها غطاء السرير, تبحث عن شيء ما تضعه في قدميها. ثوب نومها يكشف عن مساحة كبيرة من ثدييها. تهرع نحو التلفون, تتردد بالتقاط السماعة, تتردد أكثر. لا تلمس السماعة.

تلفون الموت,
لا بد..
أنه تلفون الموت, أحدهم مات, أو إحداهن أعطت عمرها لحشرات الله, وكائناته. أخبرتهم جميعا أن لا يوقظوني في الليل حتى لو كان أبي هو من انقصف عمره. لن أرد, رنوا يا حمير, يا حمقى رنوا, ثم رنوا.. أيضا. غدا نذهب إلى المقبرة جميعا. برنين, بدون رنين, بأجراس كامدة.. بدون أجراس كامدة, سنذهب تباعا إلى المبولة, التي اسمها مقبرة. بحذاء, ربما بدون حذاء, من يدري؟
أيها الموتى تباعا
أيها الموتى جميعا
هل الحذاء مهم للآخرة.. أو في الآخرة؟
هل جرًب أحدكم الحذاء هنا
في منعرج السفح
أو قرب الساقية؟
رنوا يا حمقى
لا صوت لي كي أرد
لا خوف لي كي أرد
لا جرأة لي كي أرد

بانفعال شديد تتحرك المرأة بين أشياء غرفتها, قباقيب.. ربما كنادر, أشياء. زجاجات, ربما صحون, عدم, ربما يقظة, موت, ربما غيبوبة. شي ما يتناثر شظايا فوق الأرض, ربما ضربت المرأة كأسا, أو صحنا ببلاط الأرض. شيء ما يتناثر إلى شظايا مرة أخرى. ربما ضربت المرأة هياجا, أو نزوة, أو شهوة, أو رغبة, يزداد هياج المرأة, حدة انفعالها لا تتوقف أبدا عند حد. أصوات تناثر الزجاج, أو الرغبات, في العتم.. لا يتوقف, كأس من زجاج, أو قلب من زجاج. أو رغبة من خزف, أو نزوة من بلور أزرق. تتناثر إلى شظايا.

الحمير..
ألف مرة قلت لهم.. بأنني أموت خوفا, من ذكر الموت في الليل, أو في النهار, من رائحة الموت قي الظل. من الذين يموتون في الليل, من الذين ينامون في الليل. كأنهم لن يستفيقوا إلى الأبد. هنا الحياة أبد, الموت أبد, البقاء أبد, السجن أبد. الأزرق أبد, الأحمر أبد. وأنت أيها الوهم أبد. الرجل الوهم.. أبد. بكمك أبد, تجاهلك أبد, غيابك أبد. أقسم أنه لا وجود لك إلا في الأبد كدابة مستعصية على الفهم.. أو الإدراك. توقف أيها الرنين الأبد.. توقف.. توقف.. الأبيض أبد..
الأسود
أبد..
توقف..
توقف..

الحمير..
ألا يعرفون
ما معنى أن تكون امرأة في الليل لوحدها بوحدها, مع وحدها؟ مع ألمها؟ مع كوابيسها؟ وحشرات دماغها؟ هل أستطيع أن أنقذ أحدا من الموت في مثل هذا الوقت كي توقظونني؟ لم أمتلك بعد سرّ سيدنا المسيح كي أفعل ذلك. رنوا.. رنوا.. رنوا ليرحم الله إن شاء من مات. وإن لم يشأ.. فإن الأمر لا يعني لي شيئا. النافقون منكم سيصبحون نفاية الأبد.

الرنين يتوقف, الضوء البنفسجي الخافت, يغمر الأشياء بكآبة خارقة, المرأة تحمل بيدها مكنسة, تكشط الزجاج عن الأرض تتأفف, تنفخ, تقف قرب السرير, أصابعها تتخلل شعرها القصير مرتبكة, خائفة, ربما تكنس دمعها الليلي المتأخر عن الأرض, ربما تكنس رجلا متحجرا, تكسّر, وتناثر إلى ملايين القطع الصغيرة, ربما تكنس شيئا لا أحد يعرفه بالضبط. بداية الخلق, أو آخر الخلائق. أو.. اللا شيء بالمطلق. ترمي المكنسة في زاوية الغرفة, تنزلق تحت الغطاء بكامل جسدها, كأنها لا تريد أن تسمع.. أو ترى شيئا, أو أحدا. يتناهى إلى سمعها صوت أنين المرأة العجوز من مكان مجاور,
الأنين يتعالى قليلا,
يتعالى فوق بلاط الرصيف,
ربما خلف الجدار,
أمام فتحة الباب المواربة.
ثم يتلاشى.. كأنه يتلاشى,
تتململ المرأة في سريرها..
اصمتي أنت يا أمي, كرمال الله, أجلي موتك إلى الغد, إلى النهار على الأقل, لا تقولي لي أن الأمر بيد الله. أعلم ذلك.. لكن بإمكانه أن يكون بيدك حتى نهار الغد.. أي الأمر.. أي الموت. القليل من الصبر, الكثير من الإرادة حتى نهار الغد يا أمي.. قدمت لك كل ما أستطيع, كل ما نصحني به طبيبك أحضرته, من أجل قروح ظهرك أو روحك. أعرف أن روحك ملأى با لقروح أكثر من جسدي. روحي تشبه روحك تماما.. بل هي تماما. قروح.. قروح.. أي رعب من الغد.. وأي رعب؟ لا أحد قربي, لا أعرف كيف أخيط لك أكفانك, أكفان الميت سبعة, بعدد ألوان الطيف, كذلك الروح تصعد سبع سماوات مزركشة بألوان الطيف. وأنت عشت كطيف.. قد ترحلين كطيف.
عبر
أكثر
من
سبعة
أبواب.
لك من العمر سبعة
بعد السبعين.

ولكن.. فعلا
ماذا لو ماتت الآن؟
قد تتعفن حتى الغد. ليكن.. لن أنهض حتى أشم رائحة موتها. قد تسري رائحتها في الشارع, الأنين يخمد فجأة, حمدا لله أنها كفت عن الأنين. اعتدت على ذلك يا أمي لا تؤاخذيني. في الحقيقة لولاك لمت منذ وقت طويل. أنينك هذا ينقذني من الموت, لم تعتادي على الإستيقاظ في مثل هذا الوقت, ما الذي أيقظك يا دميتي الكبيرة.

دميتي؟
هل قلت دميتي؟
لكنني مازلت أنتظر موتك السريري, كي أموت سريريا. كنا نحب الحياة.. يوم كنا نحب أحدا.. يوم كان يحبنا أحد ما. سنتعفن هكذا ما لم يحبنا أحد. كالدمى التي لا تجد طفلا كي يعبث بها. حتى الدمى تحب العبث بأعضائها,ومكنونات روحها من قبل آخر يا أمي.. امتلكت عبثيا ذات مرة, ذات وهم, ذات حلم, ذات حقيقة لم تدم طويلا. كان يعابثني على المفرق المفترق. يعريني في الضوء, تحت الندى في الليل. قرب الناس, خلفهم, أو أمامهم, خلف أبوابهم, خلف حيطانهم. الناس حيطان بلهاء, أغبياء, خنوعين أمام غضبه, أو عبثه, يعريهم حتى من أقنعتهم الداخلية, المغلفة بأقنعة داخلية. يعريهم من نزواتهم, من أحلامهم الخلبية, من نسائهم العاهرات, الفاضلات, بعبث نادر, أقبض على أسراره, على فضائحه المغلفة بأقنعة فوق أقنعة. كان بسحره ذاك الغامض. يغوص في الأقنعة,
بين
الأقنعة.
بين
خلايا
الروح.

صوت المرأة يتلاشى, الحركة تهمد في السرير. الأنين يهمد خلف الجدار. مرة أخرى التلفون يرن, يرن بإلحاح, ثم يرن بإلحاح أكثر. المرأة لا تحير ساكنا. فجأة.. تنتفض, تجلس فوق السرير, تضع ثدييها فوق ركبتيها, تضع رأسها فوق ثدييها, تلف يدها حول ركبتيها. عيناها تجوبان الغرفة فضاء وأرضا, تدوران كعيني قطة, تحاول أن تكون شرسة. فضاء الغرفة فارغ, الأشياء فارغة, الحياة فارغة ما بعد ذلك أيضا..أكثر فراغا, واعتباطا. التلفون لا يهدأ, المرأة.. تزداد توترا. تثب عن السرير تقف قرب التلفون. تصالب يديها فوق صدرها. تتأمل الرنين بفزع, بتوثب, بترقب.

ماذا بعد أيها الله الكريم الرحيم الغفور؟ أما من أحد تافه بين يديك الآن أمانته؟ أرجوك غض طرفك عني إلى أن يقضى أجل أمي. آه ربما.. ربما كانوا.. إي.. إي.. طز, ما الذي سيفعلونه أكثر مما فعلوه في المرة الماضية؟
ـ إصعدي معنا أيتها القحبة,
ـ سأرتجف ثم سأصعد.
ـ اللعبة مسلية, ممتعة بعض الشيء أيضا.
ـ حسنا ألم تبولي في ثيابك؟
ـ لك الفضل والشرف في ذلك يا سيدي
ـ اخرسي
ـ أمرك
ـ طمشها
ـ أنا مطمشة خلقة الله يا سيدي
يا شراميط يجب أن أعرف ما الذي ينقصكن. معلمات.. وراتب؟ الواحدة منكن تأخذ 5 7 آلاف ليرة, بل أكثر. ما الذي ينقصكن؟ حتى تتبعن أولئك العرصات. الذين لا يعرف حتى الله ماذا يريدون, غير الفلق, والقلق, وما إلى ذلك, بل وأبشع من ذلك بألف مرة, تردن المحنة.. يا ممحونات, يا أكثر من مومسات, يا متساحقات, ألا تمارسن السحاق بمتعة؟ هل تردن شيئا؟ أو عهرا؟ أو فجورا أكثر من ذلك؟
ـ لا شيء يا سيدي..لا نريد شيئا..
ـ لأ..ينقصكن زبا...
ـ البركة فيكم يا سيدي
ـ سترين بأننا رجال البركة.

المرأة تقف في وسط الغرفة, تنكمش على ذاتها. تيبس, كأنها خشبة سوداء من الماضي, من مرحلة لا يمكن الحديث عنها بحيادية, تتلمس فخذيها بعد خوف, تتلمس إليتيها, ثم فخذيها, ما بين فخذيها, ثم بطنها, ثم ظهرها, ثم أخمص قدميها. الرنين ما يزال ملحاحا, المرأة تطفىء اللمبة البنفسجية, كأنما بحثا عن ظلام إضافي, عن اختفاء زائد عن الحد. ما الذي تريدونه بعد كل ذاك الماضي؟ لا أظن بأنكم تريدون شيئا أكثر من التسلية..
نريدك أن..
يا لكم من حمقى, وتفه, لم أعد أعرف أحدا. كنت فيما مضى مختار المدينة. خبيرة أزقتها, أرصفتها, كافيترياتها, شوارعها, أمكنتها السرية العهرية, أمكنتها العلنية.
المدينة
الآن..
ماتت في داخلي, ماتت في خارجي. لم تعد موجودة, لم أعد موجودة. أنا هنا.. الظل الميت, مجرد الظل الميت. الذي يحرس ظلا.. ميتا قبل المقبرة بقليل.

الأنين ينبعث من مكان ما مجددا.. كأنه نافورة الرعب الأسود. ربما كأنه نافورة الأمل الوحيد, الذي يذكر للحظة بوجود.. ما, وجود مفقود من الوجود. التلفون يتوقف عن الرنين, المرأة تقترب من حائط ما.. تلتقط الأنين, الدمع يسيل.. يلمع على خديها. يصلها الصوت شحيحا, ناحلا, متحشرجا, كأنه ينبعث من قبر محمول على كتف أحد ما مرئي..أو لا مرئي.

ـ ليلك
ـ نعم
ـ سر الحياة الماء
ـ تكرمي يمه زوينا
المرأة تختفي من الغرفة, تدخل مكانا.. ما, ربما هو المطبخ, صوت الماء يتدفق, يعلو.. كأن المرأة تحمم وجهها, صوت الماء يختفي, صوت الأنين يختفي, تصدر قرقعة من الخزانة التنكية, خلف الخزانة يبدو أن المرأة تغيّر, أو تبدّل, قطعة من ثيابها الداخلية. ظلالها من السرة وما تحت.. تبدو عارية. أزيز أصوات من أمكنة لا نهائية. كأن المكان برمته تحول إلى مسرح نظّارة من أمكنة, وسويات أخلاقية, وأعمار مختلفة, لا يربط بينها رابط سوى تأجج الحالة الغريزية.
ـ انظر يا لها من مؤخرة..
ـ عارية بالمرة..
ـ أهكذا تكون المؤخرة العارية؟
ـ ألم ترها أبدا؟
ـ مؤخرة أمي فقط.. كانت تتغوط.. ثم خجلت..
ـ انظر..انظر.. كيف تنحني..
ـ إستها فايش..
ـ ماذا يعني؟
ـ يا حمار يعني....

المرأة ما تزال تنبش في الخزانة..
أيها الكيلوت اللعين.. دائما علي أن أبدّلك. كلما تبللت بهذا السائل اللزج, الأصفر المقرف. اللعنة على الأستروجين. لو كنت رجلا لما بدلتك في حياتي, رجل.. يا غبية..؟ كم كلب تمنّاك؟ كم رجل كان يرغبك؟ ما الفرق؟ كلهم أعضاء في المحصلة, في المحصلة, كلهم حماية كما نتوهم, حماية إمرأة, من مجتمع ذكوري, تنقصه الذكورة. لكنه يبقى رجل في البيت , ظل رجل, تفاهة رجل, حماقة رجل, ولا هذه الوحدة المعنّسّة, لكن..لا.. كل الرجال صرامي, بل أقل من صرامي. أحيانا.. عن قصد.. أقسم بالله.. نظلم الأشياء بتشبيهات جائرة.. جائرة جدا. ذاك الحيوان, صياد النساء الذي شرشحوني من أجله, الذي تركت الدنيا والآخرة من أجله, الذي عنّسّنّي.. وخلاّني هنا أنتظر حياة هي الموت بعينه, بل هي ما بعد الموت, حياة ما بعد البرزخ, ما بعد الألم, أين هو الآن؟ لا شك.. ما يزال غاطسا في الماخور, منذ عشرين سنة, ولدته أمه هناك ثم.. نسيته, ثم نسي نفسه هناك, في الماخور, ناسيا بشره, الذين يلقبهم بالزبالة الفائضة عن حاجة الأرض.

زبالة
فائضة
عن حاجة
الأرض..
بالتأكيد كان يقصدنا كلنا.. كلنا. حسنا الجملة برّاقة من الداخل فقط. غير أنها من الخارج نتنة كالخارج. جملة إدانة بامتياز. أظن بأننا نستحقها دون كائنات الله من البشر الأرضيين.. أو غير الأرضيين. إنه ما يزال هناك في مبولة الماخور, يتبول أفكارا, قصصا, روايات, يؤلف حكايات أسطورية, عن كائنات ولدت في المبولة, عاشت في المبولة. ثم هكذا.. بغتة.. أو فجأة.. تموت هناك. وهي تلم الزهور.. أو رائحتها كي تنثرها على أجساد موتى غابرين, ليس بالضرورة أن يكون الموت خلف الأفق, أو تحت الشفق بل.. ربما يكون هنا, أو فوق ذاك السرير. أو في المبولة أيضا. ربما.. هناك في الزاوية الحادة,
أو
خلف
الجدار
الموارب.

هناك
في القبو,
كنت أعتقد بأنهم سيشبحونني فوق السرير, السرير عقدة المرأة, حتى لو كان في قبو التعذيب, القبو بهو الآلهة, ثم انه عقدة الرجل.. هناك, أي في القبو. بل.. قل محنته. غير أنهم شبحوني فوق الطاولة. هناك.. أمرني أحدهم بصوت لا رحمة فيه, وهو يلوح بكبل رباعي.
ـ إخلعي..
ـ أمرك..
خيل لي أنه اغتصاب جماعي لامرأة لا تشكل إلا عبئا, أو فائضا عن حاجة البشرية القزمة. سأتخم بالجنس الوحشي الإغتصابي, يا لها من متعة قاسية, الدم يسيل من بين فخذي كنهر, وروحي مع ارتعاشتي القسرية, تذهب إلى السماء, لتحلق في فضاء ملكوتي ما بعده فضاء. سيتبدلون علي واحدا.. واحدا.. سأقهرهم جميعا, لن أصل إلى الرعشة, حتى لو رعشتني الرعشة, لن أرتعش, عليهم أن يقتنعوا مجتمعين أنه ليس بإمكانهم إرعاش امرأة.
سأحبطهم
قزما.. قزما,
كلبا..
كلبا.
إغتصابي الأول كان بالأصابع على باب الفرن, حتى اللحظة لم يصدقني أحد. حتى ذاك الذي ما زلت أنتظر منه لو كلمة مرحبا.. لم يصدق ذلك. لم يكن بإمكانه أن يصدق الحكاية, إلا على مضض.
ـ بالأصابع ؟
ـ على باب الفرن؟
هذه ضريبة الخبز هنا.. ها أنا عارية..عارية تماما أحدهم يتشمم رائحة كيلوتي. ثم يبصق على ما بين فخذي. ثم يبصق.. صارخا:
ـ إرفعي ساقيك
ـ أمرك..
ـ ما الذي تظني بأننا فاعلينه بك؟
- إغتصاب جماعي حيواني.. لامرأة فائضة أساسا عن حاجة الذكور, عن حاجة الأرض.
ـ لا..
لن نحقق لك متعة جنسية من هذا القبيل. كلكن شراميط لا ترغبن إلا بالإغتصاب. عاهرات كلكن.. ابتداء من زوجتي الفاضلة إليك. كلكن عاهرات, وتدعين الفضيلة, العاهرات الفاضلات, فاضلات عاهرات مربيات أكثر من عاهرات. يا سبحان الله, عاهرات سيربين لنا أولادا, أولادنا. أولاد زنى. ياسلام.. لذلك.. الأجزاء المغتصبة, أو السليبة, لن تعود. إبن الزنى غير معني بإعادة أي ذرة تراب مغتصبة, أو مسلوبة.

لم أكن
أرى حبلا يتدلى من السقف. عيناي كانتا في عماء أبدي كالماء الأسود, كالهلام القاتم. يصعد أحدهم فوق الطاولة يقيد ساقي بالحبل. يسألونني عن ألف فلان.. وفلان.. وفلان فلانة.. وفلانة.. وفلانة...؟؟
ـ في السجن
ـ كلهم؟
ـ بلا إستثناء
ـ الجامعة؟
ـ في السجن
ـ الوظيفة؟
ـ في السجن
ـ البلاد والعباد؟
ـ في السجن
ـ ونحن؟
ـ في السجن.
ـ والقضايا المصيرية التي نحن بصددها؟
ـ في السجن
ـ ورئيس الأمن القومي والوطني؟
ـ في السجن
ـ من الذي خارج السجن؟
ـ لا أحد
ـ الله والملائكة والأولياء الصالحين؟
ـ لا أظن
ـ إسحب الطاولة من تحت هذه الشرموطة المتفذلكة

أحدهم يسحب الطاولة من تحتي, أتدلى كضفدعة عارية, ومسلوخة. رأسي في الأسفل, عيناي في الأسفل, ثدياي إلى الأسفل, قلبي إلى الأسفل, دمي إلى الأسفل, عمري في الأسفل, قدماي في الأعلى. ندمي في الأقصى. ربما لست نادمة على شيء. أكبال رباعية بالجملة تنهال على جسدي. صراخ رجال متعددين, حفلة خاصة بليلك.. من أجل ليلك.. هاه.. هيه.. هوه.. صراخ حيوانات, صراخ يثير ما فوق الهلع من قال هلع؟ الهلع لا شيء قياسا بالحالة, بما يجري. لا شيء في الروح يبقى في مكانه, لا شيء في الجسد يبقى في مكانه. أبواب مخلعة, شبابيك مخلعة, نوافذ مخلعة, كوى مخلعة, نواتات مخلعة, أدمغة مخلعة.. متناثرة بلونها المقرف, فوق بلاط أسود.

مجددا
ينبعث الأنين من مكان ما, من خلف الجدار, في الجدار كما يبدو شق, باب موارب, ربما من وراء الآخرة.. أنين حاد, يتواصل كأنه مياه نبع يتدفق في برية نائية. يعلو.. بلا توقف, تتحدد إحدى مفرداته..
ـ ليلك
ـ نعم.. نعم زوينا
ـ سر البقاء الطعام
ـ حاضر.. حاضر.. يمه
طقطقة, أو قرقعة أواني زجاجية, في مكان ما, ربما هو المطبخ صوت تناثر زجاج, فناجين, ماضي, ربما صور زجاج, ربما صور مستقبل, ربما صور كائنات ذات طعم مالح تعيش في زمن بعيد.

التلفون يرن في الغرفة, يرن دون توقف, الكهرباء تنقطع فجأة. الأنين يتعالى محملا بشحنة إضافية من الألم, ثم من الخوف. تلوذ المرأة بصمت مطبق, كأنها تحولت هناك, في تلك الزاوية, إلى آنية نحاسية أثرية. ثم فجأة تقلد صوت أمها.

ـ ليلك.. ليلك..هل من أحد يطلق علينا النار يا ابنتي؟ هل ستذهبين معهم مرة أخرى إلى تلك العتمة المنفردة؟
ـ لا.. لا.. لن أذهب..
إنني أكسر الزجاج عن غير قصد.
سأكسر الفرنسي, والصيني,
لا تخافي على الزجاج الملون,
سأشتري لك زجاجا آخر من أجل الآخرة.
زجاج من أجل الماء, والقمح, والولادة المنتظرة بعد الموت. إنتظري قليلا يمه.. العصير جاهز.. اللعنة, أين الشمع؟ الشمع أيها الرب, أي ليلة هذه؟ أية معصية ارتكبت؟ لو أني ارتكبت معصية خارقة باهرة, لما فعلت ذلك كله بي.
الرنين,
التلفون,
الكهرباء,
العتم,
العصي,
الأنين..
لا تؤاخذني يا ربي, إنه مجرد عتاب بسيط. هو ليس عتابا من النوع السوقي, بل شكوى. اقبلني دائما يا ربي بحنان ما, كما أقبلك. بتلك المحبة, بذاك البهاء. إذ.. لم يبق لي من أحد سواك, سواك.. وذاك الأنين الذي يذكرني بسر الحياة, وسر البقاء.
الماء
الطعام
الهواء
أنا عبدة لك.. لذاك الأنين, أو الألم , الذي تعانيه الروح في آخر لحظاتها. كاشفني أيها الرب العظيم.. هل سأبقي وحيدة دون ذاك الأنين, الذي اعتدت عليه, منذ عشر سنوات على الأقل. كيف سأتدبر أموري؟ بمن سأرتبط بعد كل هذا العناء؟ أو اليأس؟ أو القنوط؟ أي رجل من الرجال قد يكون كفؤ؟

لا..
تفو..
زملائي في المدرسة, ينهشون لحمي, يظنون بأنني عانس متحررة, لا يجدون مانعا.. يمنعهم من مغازلتي, مفضلينني على زوجاتهم البقرات كما يدعون. معلم الرياضيات الكلب, يبرهن لي بالدليل شبه القاطع, بأن واحد زائد واحد, يساوي ألف صفعة لزوجته, ثم ألف رفسة على الأقل. ثم.. عدد لا يحصى من الصحون والكؤوس المكسرة والتلفزيونات المرمية, من الطابق الثالث, إلى بلاط الرصيف. كل ذلك لأنها بقرة ولدت في الزريبة, وتربت في الحظيرة بين الممرضات المتعهرات, في سنتهن الدراسية الأولى. هناك يا ليلك.. يقول لي: لا أحد يدري من افتعل بهن كل ذاك الإثم. وهن كنّ ما يزلن صغيرات. الواحدة منهن أوسع من أي محترفة في بلاد النفط. بينما أنا وهو, أي واحد زائد واحد, يساوي لا أكثر من واحد, فوق واحد, فوق سرير واحد, في بيت واحد, في غرفة واحدة, بأنفاس متحدة وواحدة, في دنيا واحدة, نحن نبنيها.. لا أنت, بمشيئتنا.. ليس بمشيئتك.. أيها السوقي النادر,
الذي
تركتني
لمثل
هذه
الزبالة
البشرية.

الآن..
طائعة أعود إلى مشيئتك, من أجل طمأنينة لروحي, قد أحتاجها, قد لا أحتاجها. هل سأحتاج الطمأنينة في لحظة ما؟ في مكان ما؟ أنا.. لا أدري.. أنا لا أدري.. سامحني.. سامحني, ليس قصدي أو رغبتي أن أنتقص من مشيئتك لأني أعبدك إذ.. ليس لي من أحد سواك كي أعبده.

شمعة حمراء, تتوهج فوق طاولة, في زاوية الغرفة, يبدو أن الغرفة صالة مسرح, يبدو ان المرأة قلقة مرتبكة, حائرة, ربما خائبة, هاهي تقرر أن لا تأوي إلى السرير.. بذاك القلق الممض, ينقلب السرير فجأة من حلم بالمتعة, إلى هاوية حقيقية من القلق, أو الرعب.

التلفون
يرن,
ثم يرن في العتم, ثم يرن في الهلاك, يرن في الغابة, يرن في البحر. لكن دون أن تصغي لرنينه, كأنه يرن في دنيا منسية, في قصيدة ميتة, في مكان لأشباح منسيين بعضهم.. فوق بعض, بعضهم على شاطيء البحر الليلي, بعضهم في الغابة, التي هناك في أعلى الجبال. بعضهم في كافيتريا قنديل البحر الذهبي. تنهض المرأة من مكانها, تهرع صوب الرنين, تنزع الموصلة من الحائط. تتجه إلى الخزانة, تقرقع فيها بعض الشيء. تخرج ألبوما للصور. تبدأ من الصفحة الأولى.

هكذا أفضل,
الصمت أفضل لغة,
في الصف أقول لأولاد الكلب, تلاميذي الزعران, بأن الصمت لغة راقية. ذلك.. كي أضبط بغلنتهم. أي لغة راقية في الصمت؟ إنه لغة الخوف.. من الحياة, الخوف من الموت. الموت صمت, ما الذي ينقذ.. من الصمت بين قطيع الأوباش؟

الخامسة والأربعون
أكثر..أو أقل..
الآن..
ما تزالين جميلة يا ليلك, هل أنت جميلة فعلا؟ غير أن أمك, حزينة عليك, لعدم اقترانك بذاك البغل, الذي كنت تحبينه, أو بأي بغل من بعده. قبل أنينها كانت تقول لك: وهل فرغت الدنيا من البغال من بعده؟ إنتبهي إلى نفسك يا ليلك. الزمن غدار يا ليلك, العنوسة قاتلة يا ليلك,
كنت أركب رأسي,
رأسي
بغلي,
رأسي
حماري,
لم يقدني إلى المبتغى. كان عليً أن أعدم بغلي, أن أعدم حماري, أو أن أعدم رأسي. الذي كاد.. أن يقودني إلى المبغى, لولا إرادتي.

صحيح أن الدنيا فيها بغال كثر.
لكن لا أحد يشبه ذاك العبثي الصعلوك. ذاك البغل ضئيل الحجم. لم أجد أحدا يجيد لغته المتعدية, المواربة, حيث المفردة فيها تأخذ أبعادا شتى. في النهاية يا أمي قبل أنينك وبعده, هو مجمل لغات. لغة جسد, لغة جنس, لغة عيون, لغة صمت, لغة هجر, لغة قرب, لغة صدق, لغة خيانة, لغة أدب, لغة فن, لغة سياسة, لغة لعب بالكلام, لغة اللغة, لغة اللا لغة. هو ذاك الوله من الإنسجام, من الدقة, في الإنسجام, كعبثي يبني مجده على التناقض, أو الإختلاف, الذي يقوده في المحصله إلى وحدته, أو اتحاده, أو غرابته بأطواره اللا متناهية. عبثي بأطوار هذيانية لا متناهية.

انظري
هنا..
هذه ابنتك ليلك قبل خمس وعشرين سنة. هناك بالضبط على المكسر, مكسر البحر, مكسر الولادة, أو مكسر الموت في الزمن, في المستقبل. تعرفت على ذاك الوغد. عيناه.. كانتا تهربان مني إلى البحر, من البحر إليّ. منيّ إلى زميلتي. هناك بالضبط لأول مرة, عرفت كيف يكون الشعب في الشرق قطيعا جديرا بالإحتقار. بالإهانة, كما كان يقول عنه. شعب في الشرق لا يقوى على العيش بدون طاغية يقوده ليأكله متى شاء. في الشرق علينا أن نؤله الطغاة ونعبدهم قبل كل شيء.
هناك
أيضا..
عرفت للمرة الأولى كم هي المرأة جديرة بالمهانة. كنت امرأة, كان لي عشرات المعجبين من اليسار, من اليمين من الطلبة. كان شعري طويلا سابلا, كنت مرحة لاهمّ لي سوى اللعب بعقول أولئك السذّج من البشر. كنت.. نسيت الفرن, نسيت تلك الأصابع التى مزقت ثياب نومي, ثم دخلت ما بين فخذي ممزقة غشائي, هكذا بمفاجأة نادرة, برعب نادر, أسقط على الأرض
ثم
ينتهي
كل
شيء.

أنا
الطفلة.

الحكاية, لم أحكها لأحد, لا يعرفها أحد سوى الجيران, الذين هجرنا حيّهم, كي لا يسببوا لنا الأذى, كي لا نسبب لهم المحنة. الحياة في هذا المكان يا أمي ليست أكثر من محنة, ليست أكثر من أذى. الحكاية لن تدوم طويلا. كنت أختلق أسطورة عن صبي, أذهبني في طريق الغابة, إلى المتعة البكر, إلى اللغة الأم, ثم أفقدني غشائي ببهاء ساذج. كنت أعيد تشكيل الخراب بجمالية ما, قد تكون غير مثيرة, غير مدهشة, غير مشفرة, لكنها محاولة لترميم جزء يسير من الروح الخربة, المخربة. يوميا.. نحاول ترميم الروح بحكاية, باختلاق حكاية ذهنية, تبيح لنا القليل من الأمل.. العيش بملل..

فجأة..
أنا
أمام
رجل يعبث بي,
ليس رجل, بل ولد مراهق, يكبرني بعام على الأرجح. لكن من أين له كل تلك الفذلكة الساحرة في المداعبة؟ يعبث بزميلتي أيضا. الكلام مطيّة له, العين مطيّة, الفم مطيّة, الصوت مطيّة. صوته؟ من يتذكر صوته؟ صوته مصيدته الساحرة, التي كنا نقع فيها تباعا. إيقاعات الصوت, مخارج الحروف.. مصيدة.
لم أكن
عدائية..

بغتة
أنقلب إلى امرأة عدوانية, أضع جسدي, مقابل جسد زميلتي, أمام ذاك الولد. تحولت زميلتي إلى عدوتي الوحيدة. كنت لأقوى على قتلها.على ذبحها من عنقها. في ذاك الزمن من كان يجرؤ أن يقاوم إغراء الجسد.. أو إغوائه؟ ربما لم أكن أفهم لعبته. لعبة الصوت, لعبة اللعب بالصوت, لعبة الغناء بالصوت, لعبة الجنس بالصوت, لعبة الغواية بالصوت, الصوت عقدة, ومحنة. تجيدها الندرة من الذكور, ربما الندرة من النساء أيضا. لم يكن لصوتي ذاك الإيقاع الذي يلائم مزاجه. كان لي ما هو أهم من الصوت. الصدر, الوله الذي كنت أبديه له. ربما مقتل المرأة في جرأتها على إبداء ولهها بذكر..أي ذكر, حتى لو كان
ذكرا..
من
ذكور
البط.
كان لصوته أن يأخذني في طرفة عين الى الغواية, الى الشهوة, الى الجنة, لو شاء الى المحنة, لو شاء الى الجحيم,

لا أريد جسدا رخيصا
لا..انه يكذب, يريد جسدا رخيصا..
بل أرخص من الرخيص..
بل أكثر من جسد لليلة واحدة, مع ليتر من العرق المحلي, والسردين المغربي. هناك على مكسر البحر, قبالة البواخر السوفيتية, والبلغارية, والفرنسية, واليونانية, دخلني جني, جني حقيقي, لم يخرج مني أبدا. لم أعرف كيف دخل بتلك الرغبة, لم أعرف كيف خرج, أو لم يخرج بتلك المتعة. كانت الحياة لمعة, كانت الحياة ومضة سوداء. لا.. غير ذلك.. ربما كانت لحظة, مكتظة بملايين الألوان. رغم أن ماري أخذتني إلى الشيخ ابراهيم, من أجل أن يخرج الجني من داخلي, فأرتاح منه, وأتزوج بغلا مناسبا. كي لا أقضي طويلا في العنوسة اللعينة. تلبسني بعد الشيطان.. الضحك. من يسمع بسيدنا لا بد له من الضحك. العاقر تلد, المربوط يُفك, الغائب يعود, الميت يحيا, العانس تتزوج بمن ترغب. لم أكن أرغب إلا بك. بك وحدك دون خلق الله من الكلاب, والخنازير, والكائنات البشرية, أو النارية, أو الهلامية, ما لم أكن أرغب بالزواج منك. لم أكن أرغب بالإبتعاد عنك مقدار بنفسجة صغيرة. لا بنفسج لديك الآن. لا طموحات,
لا أحلام بنساء
تعاقرهن
حتى
الوهن.

بمفردي
أدخل إلى حجرة الشيخ ابراهيم, تحدثنا طويلا, في أمور شتى, تفوح من ذقنه الطويلة الشائبة, رائحة مرق, ودهن خروف, كنت أشم تلك الرائحة, كلما اقترب بوجهه من أنفي. ثم بغتة أدركت نواياه. لم تكن له نوايا غير حسنة. يقول لي: بأن الجني لا يخرج إلا بالطرق القذرة. كأن يضاجع رجل امرأة أمامي, أو كأن أضاجع رجلا في الضوء, أو في العتم.. لا يهم. ثم تأكدي يا ابنتي, بأن الجني سيخرج من صدرك إلى اللا عودة. ثم ألم تضاجعي رجلا من قبل يا ابنتي؟ أنني أشم رائحة الأصابع بين فخذيك, رائحة الأصابع لا أكثر. هذا عيب يا ابنتي, هذا حرام لا يجوز. أرى بين عينيك رجلا مفقودا, هو الجني بعينه, تركضين وراء خبر من أخباره, ولا تصلين إلى ما يدل عليه. إنه هناك ما يزال في المواخير, ألا يحدثك صدرك بذلك؟ يلهث خلف نساء ساقطات مثله. يعتليهن دون رغبة, دون متعة, يعتلينه كذلك. ملعون في الدنيا والدين, كل رجل تعتليه امرأة. كان على ساقطاته أن يدبرنه, لأنه من أهل العنة, واللعنة, مصيره جهنم وبؤس المصير, اللعنة عليه في الدنيا, اللعنة عليه في الآخرة. ثم ما علاقة ذاك القواد بأرباب الحكم وحكمائه في البلاد؟

لا عليك..
يا ليلك..
في الحقيقة, أنت اسم على مسمى, ورد على ورد, ورد على ليل, ليل على ورد. لن أدعك تفني أصابعك بين فخذيك. أعرف أن الأصابع الآثمة, اللعينة, هي عقدتك منذ طفولتك حتى اللحظة. الأصابع عقدة, هي نعمة, هي لعنة, هل خليت الدنيا من الذكور؟ لم تخل, بالتأكيد عليك أن تجيبي على ذاتك.. بأنها لم تخل. أعطني أصابعك قليلا يا ابنتي. لا تتعبي نفسك بالركض إلى هناك, إلى الخلف, إلى الماضي, الماضي جيفة بدون جسد, الجسد أمامك, الرغبة أمامك, الرجل أمامك, غير أن جنيّك لا يقهره أحد, أولا يجيد قهره أحد, سوى رجل واحد هو مخدومك أنا.. الشيخ ابراهيم. مئات العفاريت من كل صنف ولون, يقهرهم الشيخ ابراهيم, مطيعك, هنا.. في هذه العتمة, قليلة الضوء. شحيحة الخوف. الخوف شحيح يا ابنتي, حجاب أبيض يزيل الشح, والكرب, عن العينين الصفراوين كعينيك. مخدومك الشيخ ابراهيم يا ابنتي, خريج أدب عربي منذ ثلاثين سنة, شاعر وشاعري, ذو قلب رقيق بالفطرة, رغم أنه يتعاطي مع أعتى أصناف المخلوقات دمامة وقذارة, وملعنة وخبثنة. ترينهم مخلوقات هلامية, تكرج على شفير الهاوية, من دون أن تقع, إنما من يتبعها هو الذي يقع, يقع, ولا يجد له من منقذ إلا الشيخ ابراهيم. آتي بهم إلى هنا, أربطهم تحت ذاك السرير. قبل ذلك كنت علمانيا, مثل نمرودك الذي تتعبين نفسك بانتظاره, بعد ذلك انقشعت الغمّة عن عيني وبصيرتي. ولكن يا ابنتي أراكما عاريين ذات نهار.
ـ أجل.. أجل يا شيخي
ـ يا ابنتي أين..؟
ـ على مكسر البحر يا شيخي
ـ في العراء؟
ـ طبعا.. وأمام الصيادين, والسفن القادمة إلينا من كل فجاج الأرض. مقابل أشعة الشمس الحمراء الأخيرة. لم يكن هناك من شهود سوى هؤلاء, والله تعالى, الذي بدأت أميل إلى عبادته. عبادة مطلقة غير مشوبة بأي إلحاد, أو أفك, أو كفر, أو نزق.
ـ مادخل بك في العراء.. لا يخرج منك إلا في العتم
ـ لم أفهم المعنى؟
ـ تقولين بأنك معلمة.. وعربي أيضا؟
ـ أجل
ـ المعلمات على قدر لا بأس به من الذكاء
ـ المشكلة في دماغي
اللعنة على ذاك الجني.. سأقضي عليه في مواخيره, في عتمته, في ضوئه, أقصد هنا الغرفة محكمة الإغلاق, على النوافذ ستائر سميكة. أضف إلى ذلك.. هنا سرير مريح.. مبارك, مرشوش بالعنبر والمسك, مقروءعليه أذكارا ثقيلة المعنى, أما على المكسر.. يا عيب ما الذي يأخذك إلى المكسر سوى جني تجوز عليه اللعنة, والطعنة, والطلقة, والبصقة على دمه المهدور؟ انني أهدر دمه منذ اللحظة, إلى أن يموت ميتة كلب.
ـ رآنا جمع غفير.. غفير.. من الصيادين, صفروا لنا ولوحوا..
ـ أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. كفر.. كفر.. سامحها يا إلهي سامحها, ومكني من ذاك الموبق الأفاق, مخترق قوانينك, وشرائعك المقدسة, منذ ما قبل الضوء, منذ ما قبل العتم. إخلعي سروالك يا ابنتي, إخلعي سروالك. أرني ما الذي حلّ بباطنك؟ الجني يسكن, ويقيم في الباطن, فيما بين فخذيك تماما. بهذا القلم المعبأ بحبر مصنوع من الزعفران, سأكتب لك على بوابة لحمك ما يخيف الجن, ما يرهبهم, ما يبعدهم عنك إلى الأبد. ما يقرب إليك ابن الحلال, الذي يعرف ربه ودينه.. والذي يعرفه دينه وربه.
ـ اللعنة عليك يا شيخي

تفو..
أخرج
من
غرفته,
كأنني أخرج من النار إلى الجنة. يحاول اللحاق بي, تتدخل ماري في الوقت المناسب, أتذكرين يا أمي حين ذكرت فعل الشيخ لك.. ما الذي قلته: إي بسيطة يا ابنتي هي قطشة لحم معضم. كان الجني طلع منك وتزوجت. كانت حياتك اختلفت, كنت التقيت بيوم فيه سعادة يا ابنتي. الله لا يميتني حتى أراك أم.. أم..عليك أن تعرفي ما معنى الأم يا ليلك.. الأم.. تشقى من أجل أن تفرح بولد, تعرى من أجل أن تفرح بولد, تلقى المهانة تلو المهانة من أجل أن تفرح بولد, فرحة المرأة لا تكتمل إلا بولد. الشيخ ابراهيم, كان دخل فيك, وخرج منك بولد. كانت الحياة اكتملت كما يجب, لا كما نحب, الحياة تكتمل با لوجوب, أكثر مما تكتمل با لحب.

ها أنت
تعيشين
كل
هذا
الفائض,
من أجل أن أصبح أما, لا أدري, هل الله يكرمك على هذا الحال أم لا..؟ كان عليه أن يأخذ أمانته, لأن أمنيتك أصبحت ضربا من المستحيل. الدورة في عطالة, المثلث في عطالة, الرجال في عطالة, المجد دائما للعطالة, لقد عطلوا كل شيء.. وأعطبوه. ثم أنني عطلت شهوتي, أعطبت رغبتي بإرادتي التي من الحديد.

ها أنت
بغير
قصد
تسجنينني عشر سنوات هنا, قربك, قرب أنينك المتواصل, كل ما أعرفه من الدنيا, الدوام, ثم هنا. البيت, إعداد الطعام لك. تنظيف ما تحتك يوميا. منذ عشر سنوات وأنت مقعدة, أحممك كما لو كنت أحمم طفلة عمرها أيام, أطعمك كما لو كنت أطعم طفلة عمرها أيام, أنت طفلتي يا أمي, عشر سنوات.. وأنا رهينتك, أسيرة أنينك, معتقلة سر الحياة الماء, وسر البقاء الطعام. أنا لا أمننك.. معاذ الله, فضلك على رأسي.. ثم على رأسي.. ثم على رأسي.. ثم على روحي.. ثم على روحي, كم أنا سعيدة, قد أغضب أحيانا.. قد أندب حظي, أيأس, أقنط, أخاف من زوالك, من زوال صوتك, شبحك, أنا رهينة أصوات, رهينة أصداء, رهينة أشباح, كم أكره أن أكون رهينة شيء آخر.. غير أنينك المر, المعتم, الداكن, عذرك يا طفلتي.. حلمك يا أمي.. إنني أفضفض لك.. لك وحدك كي أبقى معك, قربك. دون تذمر, دون تململ. أما كنت تغضبين مني حين كنت صغيرة؟
نامي
يا أمي..
نامي..
لكن
لا
تموتي,
لأنك فيما لو مت, سأتحرر منك, من كل شيء. سأكون بلا معنى, بلا هدف.. بلا قيد يربطني بالبيت. بلا قبر ينتظرني هناك, أين؟ بالتأكيد لا أدري.. إنني لا أدري, لا أحب أن أعرف أين يكون قبري. سأكون حرة هكذا.. مع أصابعي, بما بين فخذي, كما أنا الآن تماما, دون زيادة, أو نقصان. أنا إمرأة تماما, دون زيادة, أو نقصان, أصابعي تثبت لي ذلك. ألم تجربي الأصابع؟ ربما أحببت الله متأخرة من أجلها.. لأنه خالقها ومهندسها. فهي هفهافة.. آه هه ه.. شفافة آه هه ه.., حساسة آه هه ه.., متوحشة.. آه هه ه.., حنونة.. آه هه ه.., مرًطبًة.. آآآآآآآ..ه هه..,

لكن
بعد
هذه
الهنيهة
من
الأصابع
ما الذي سأفعله بالحرية بعد كل تلك السنوات من السجن؟ سجنت أصابعي منتظرة الجنون في جسدي, سجنت جسدي منتظرة الحياة في أصابعي, ستكون الحرية عبئا ينوء تحته كاهلي. قد يؤدي بي عبء من هذا القبيل إلى الإنتحار. صحيح أن الأيام زائدة فائضة عن الحاجة وتافهة. لكن ثمة شيء بلا قيمة يربطنا بالحياة. شيء تافه, غامض ربما.. ربما هو.. الخوف من الموت , من ألم الموت ربما. من لحظة الفقد.. ربما.. ربما.. ربما علينا أن نفهم أن الموت حرية, حرية من نوع آخر, نجرّبه مرة, لكننا لا نستطيع تكرار تلك التجربة.. تجربة العيش أبدا. تجربة الموت أبدا.

آه
يا لها
من
صورة,
صورته وحيدا بشعره الطويل, هاهو بنطاله الجينز. لا بد أنه تغير, إهترأ. اهترأ البنطال, الرجل اهترأ أيضا. شعره الطويل موغل في الإهتراء لا بد. أصابعه أكثر من موغلة في التوحش والإهتراء, أحذيته اهترأت, قمصانه اهترات.. هنا مقابل عيني في تلك الخزانة الحمقاء. اهترأت باقات الورد, الود, اهترأت الرسائل السرية, والعلنية المكتوبة, وغير المكتوبة, اهترأت كتبه كلها, اهترأت إهداءاته على الورق. مئة إهداء, ألف إهداء, كم أكره الورق الذي أحببته. أفقدتني حبي للورق, ولهي بالكلام.
تفو
يا واطي,
ياحارق قلبي وعمري, ولذة عيشي, ما هو جدير بك, أن أرمي صورتك, تحت قدمي هكذا, أن أدوسك هكذا, أن أسحقك هكذا إلى أن تتنتف نتفا, يحملها الذباب والنمل. الذباب الأزرق, والدود.. الدود.. هل تفهم؟ دائما عليك أن تفهم.. غير أنك لا تحاول أبدا. المحاولة تتعبك, ترهقك. تتبرأ من الإثم, تتنصل من الخطيئة الفادحة, دون شعور بالذنب.

المرأة..
تطفيء الشمعة,
كأنها قيمة فائضة عن الحياة,
لا شيء يسمع سوى النحيب الكارثي, صوت أقدام على الأرض, تدوس ورقا, الأنين ينبعث مجددا كنافورة من عالم الآخرة. ربما استيقظ سطيح ما, على إيقاع الخطوات, التي تدق الأرض بعنف, بقهر, بتشف.

المرأة تبكي,
تغطي وجهها بيديها.
شبحها يلوح في العتم ليس أكثر, انعكاسات ظلالها, ربما تدل على أنها عارية تماما, انعكاسات ظلال أصابعها تدل على أن الأصابع تتحرك باتجاه ما, هبوطا, أو صعودا, يمينا أو يسارا, فوق الصدر, أو تحت البطن بقليل. هذه مجرد تكهنات, أو افتراضات, تهيؤات, أو اتهامات عارية عن الصحة اللغوية, البدنية النفسية وغيرها. سرّ ذاك الغموض كله, أو ما يلفه.. هو العتم.

الأنين
يتعالى, كما لو كان موسيقا الأبد, أو الأزل, أو الدهر. ظلال الأنين تتراقص على الجدران, خلف الحيطان, خلف الباب الموارب ربما خلف الزمن, ربما أمام اللحظة, ربما.. فيما بعد العدم.
المرأة تدوس الشمعة,
تدوس العتم
تدوس
العدم
أيضا.

لاشيء مرة أخرى.. سوى النحيب الكارثي, والعتم اللعين, الحالك, والأنين النشيد, الذي يتلف الروح. تدس المرأة أصابع يديها بين شعرها. الأنين لا يتوقف,
يتعالى, ولا.. يتوقف, مفتتا الأعصاب, ثم الماضي, مفككا الجمجمة, والشعر القصير
يتبع
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

ملكوت الروائي: الزمن برهة في حضور ديدي

07-تشرين الثاني-2020

من كان يصدق أن ذلك قد يحدث مرة أخرى

07-تشرين الثاني-2020

لم أكن يوماً سوياً

14-كانون الأول-2019

جسد بطعم الندم ــ نص روائي.. ج الأخير

28-تشرين الأول-2017

جسد بطعم الندم ــ نص روائي..

21-تشرين الأول-2017

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow